فلما وقع نظرها على الكتاب عرفته وأيقنت بافتضاح سرها، فلم تعد يدها تطاوعها على تسلمه من شدة الارتعاش، فتناولته وأناملها ترتعد فسقط من يدها فانحنت لالتقاطه عن البساط فسقطت واهنة القوى ولم تعد تستطيع الوقوف وانحدرت دموعها على خديها، وحاولت أن تنظر إلى الكتاب فلم تستطع وغلب عليها البكاء فتربعت عند قدمي الأمين تقبلهما وتبكي ولا تفوه بكلمة.
فصاحت زبيدة فيها قائلة: «ويلك ما يبكيك؟ أتظنين البكاء ينجيك؟ من هو بهزاد هذا؟ أليس حبيبك حامل سيف النقمة على العباسيين؟» ثم رأت أنها يجب أن تحتال في كشف سرها فعمدت إلى الملاينة فقالت: «لا تخافي، إنما ينجيك الصدق. قولي لنا أين حبيبك الآن؟ وما الذي تعرفينه من أحوال الخراسانيين. فإذا صدقتنا القول أطلقنا سراحك وأبقينا عليك، وإلا فإنك مقتولة لا محالة.»
فقالت وصوتها يتقطع من البكاء: «ثقي يا سيدتي بأني لا أعلم شيئا غير ما في هذا الكتاب، وقد تفهمين من تلاوته أنني لم أكن قبله أعرف هذا الشاب، وأقسم برأس أمير المؤمنين أني لم أعد أعرف شيئا عنه بعد تلاوته.»
فضحكت زبيدة مستخفة وقالت: «وتقسمين برأس أمير المؤمنين؟»
قالت: «أقسم به لأني صادقة في قسمي.»
فقال الأمين: «اصدقينا يا بنية ولا خوف عليك. وإذا لم تقولي الصدق أتينا برئيس المنجمين في هذه الساعة فيكشف مكنونات صدرك؛ فإذا أطلعنا على شيء تنكرينه كان جزاؤك العذاب الأليم.»
قالت: «الأمر لأمير المؤمنين، وليس عندي غير الذي قلته.»
فصفق الأمين وأمر الغلام بأن يدعو رئيس المنجمين، فذهب الغلام، وكانت ميمونة قد وقفت فأمرها الأمين بالجلوس فجلست، ولم تكن تعلم أن رئيس المنجمين هو سلمان نفسه، وكانت تظن سلمان هرب أو مات لطول غيابه عنها، وبعد قليل أقبل الملفان سعدون بعمامته الكبيرة السوداء وجبته الطويلة وتحتها الثوب العسلي وقد تمنطق بزنار غرس فيه الدواة، واصطنع لحية كثيفة مسترسلة دب فيها الشيب تتصل من الجانبين بسالفين كثيفين، وغير ذلك من قيافة الحرانيين أهل الذمة، وهي تخالف ما تعرفه عن سلمان ولو خامرها شك فيه لعرفته من عينيه وأنفه.
ودخل سعدون وحيا ووقف متأدبا وقد تأبط الكتاب وعيناه تختلسان النظر إلى أهل ذلك المجلس، فرأى ميمونة وزبيدة، ووقع بصره على كتاب بهزاد بين يدي الأمين؛ فعرفه لأنه هو الذي حمله إلى ميمونة، فأدرك لأول وهلة سبب استقدامه، ثم أمره الأمين بالقعود بلا حجاب أو ستر بينهما، فقعد جاثيا وعيناه لا تتحولان عن الأرض، فابتدره الأمين قائلا: «دعوناك يا ملفان سعدون نطلب إليك أن تستطلع سر هذه الجارية؛ فقد سألناها فأنكرت وهددناها باستطلاع سرها على يدك، فاصدقنا.»
وكانت زبيدة جالسة تنظر إلى المنجم ولا تتكلم حتى ترى علمه، وكانت قليلة الإيمان بالمنجمين، وإنما رضيت باستدعاء المنجم ساعتئذ إرهابا لميمونة لعلها تعترف خوفا من العقاب. أما سعدون فأخرج كتابه والتمس أن يؤتى إليه بكانون فيه نار من خشب الزيتون زاعما أن المندل لا يتم إلا إذا كانت النار من ذلك الخشب، فأتوه بالنار في شبه مبخرة من الفضة وضعوها على طبق بين يديه، وهو ماض في القراءة والتمتمة، ثم أخرج من جيبه قطعة بخور ألقاها في النار، وطلب قدحا فيه ماء فأتوه به فأخذه بيساره بين الإبهام والسبابة وتفرس في الماء حينا ثم استأذن الخليفة في أن تتقدم ميمونة نحوه وتضع يدها على كتابه فتقدمت وهي ترتعد خوفا ووضعت كفها على ذلك الكتاب. وتناول سعدون يدها الأخرى وقرأ أساريرها ثم رفع يدها عن الكتاب وأجلسها وفتح الكتاب وقرأ همسا وهو يبتسم ابتسام الفائز ويهز رأسه، ثم نظر إلى الأمين قائلا: «إن لهذه الفتاة حديثا طويلا وإن لها لشأنا.»
অজানা পৃষ্ঠা