دخلت سنة 195ه وفيها جاهر الأمين بخلع أخيه، وأسقط نقودا كان قد ضربها المأمون بخراسان باسمه وليس عليها اسم الأمين، وأمر فدعي لابنه موسى على المنابر، ولقبه بالناطق بالحق، وقطع ذكر المأمون وبايع لابنه الآخر عبد الله، ولقبه بالقائم بالحق.
فاستشار المأمون الفضل في أمر التجنيد، فاغتنم الفضل الفرصة واشترط عليه مبايعة «علي الرضا» - زعيم الشيعة في خراسان بعده - فعظم ذلك على المأمون ولكنه لم ير بدا من أن يطاوعه؛ فوعده إن هو نجح في حربه وفاز على أخيه ونال الخلافة بأن يبايع لعلي الرضا بولاية العهد؛ فأخذ الفضل - ذو الرياستين - في التأهب للحرب والتجنيد، وأعد جندا بقيادة طاهر بن الحسين - ذي اليمينين - وأنفذه إلى «الري» لملاقاة جند الأمين إذا جاءوا قاصدين خراسان. وكان طاهر قائدا باسلا على صغر سنه إذا قيست بسن ابن ماهان.
أما بهزاد فقد كان يترقب رجوع أهل المأمون أو خبرا من سلمان. وعرض عليه الفضل أن يتولى قيادة الجند فأبى، ثم جاءه كتاب من سلمان قال فيه:
لقد صدق ظني ونجح سعيي وتقلد ابن ماهان رياسة الجند الخارج لقتالكم، وكتابي هذا إليك وهو يغادر بغداد وقد شيعه الأمين نفسه. وذكر مشايخ بغداد أنهم لم يروا عسكرا أكثر رجالا وأوفر كراعا وأتم عدة وسلاحا من عسكره، وهو يعتقد أن أهل خراسان يحبونه وقد أتته كتب يعدونه فيها بالطاعة إذا جاءهم. ولما علم أن طاهر بن الحسين ولي قيادة جند المأمون استخف به وقال: «إنما طاهر شوكة من أغصاني، وما مثل طاهر يتولى الجيوش.» ثم قال لأصحابه: «ما بينكم وبين أن ينقصف انقصاف الشجر من الريح العاصفة إلا أن يبلغه عبورنا عقبة همذان، فإن السخال لا تقوى على النطاح، والبغال لا صبر لها على لقاء الأسد، وإن أقام تعرض لحد السيف وأسنة الرماح. وإذا قاربنا الري ودنونا منهم فت ذلك في أعضادهم.» وقد أقطعه الأمين بعد أن ولاه إمرة الجند كور الجبل كلها، وولاه جزيتها وخراجها، وأعطاه الأموال وحكمه في الخزائن، وجهز معه خمسين ألف فارس. وكتب إلى أبي دلف العجلي وهلال الحضرمي بالانضمام إليه، وأمده بالأموال والرجال شيئا بعد شيء. وقد خرج ابن ماهان بحملته من هنا والناس يتوهمون أنه ظافر لا محالة لكبر سنه. ولما ذهب لوداع زبيدة أم الأمين على العادة المتبعة أوصته بأن يرفق بالمأمون إذا قبض عليه فقالت له: «إن أمير المؤمنين وإن كان ولدي، وإليه انتهت شفقتي، فإني على عبد الله المأمون لمتعطفة، مشفقة مما يحدث له من مكروه وأذى، وإنما ابني ملك نافسه أخوه في سلطانه الكريم فاضطر إلى أن يأكل لحمه، فاعرف لعبد الله حق ولادته وأخوته، ولا تجبهه بالكلام فإنك لست بنظيره، ولا تقتسره اقتسار العبيد، ولا توهنه بقيد ولا غل، ولا تمنع عنه جارية ولا خادما، ولا تعنف عليه في السير، ولا تساوه في المسير، ولا تركب قبله، وخذ بركابه، وإن شتمك فاحمل منه.» ثم دفعت إليه قيدا من فضة وقالت: «إن صار إليك فقيده بهذا القيد.» فوعدها بذلك، وأوصاه الأمين أيضا بمثل هذه الوصية. وقد علمت أن مولانا المأمون بعث في استقدام أهل بيته إليه ولا يلبثون أن يصلوا إليكم، وأنت تتوقع أن ترى ميمونة معهم فلا يشق عليك ألا تراها فإنها باقية هنا، ولم أخبرك بذلك من قبل حتى لا تقلق. وأما الآن فلا سبيل إلى كتمان ذلك عنك؛ لأنك ستعلمه من دنانير أو غيرها؛ فهي مقيمة ببيت الخليفة ولا خوف عليها؛ ولهذا قصة طويلة ستقصها عليك دنانير، فلا يزعجك ذلك ما دمت في منصبي حريصا على سلامتها، والسلام.
فلما قرأ بهزاد الكتاب، اسودت الدنيا في عينيه رغم ما حواه من الأخبار المبشرة بالنجاح؛ لما جاش في صدره من الغيرة على ميمونة، ونقم على سلمان كتمان أمرها عنه. ووقع في حيرة لا يدري أيخرج من «مرو الشاهجان» لملاقاة ابن ماهان في الري؟ أم يمكث حتى تأتي دنانير فيسمع منها خبر ميمونة، فغلب عليه هواه - والمحب مغلوب على أمره - ومكث ينتظر مجيء أهل المأمون ليطمئن على ميمونة قبل خروجه للقتال، وعلمت أمه بذهاب الجند إلى الري وعجبت لبقائه عندها فقالت له: «إن الخنجر في الصندوق، فمتى أنت ذاهب؟»
فخجل وتناول الصندوق وقال: «إني ذاهب الساعة وقد جئت لوداعك.»
فكشفت عن صدرها وولت وجهها شطر السماء وبسطت ذراعيها وقالت: «إن الله عونك على القوم الظالمين الذين قتلوا جدك غدرا وسلبونا حقنا وحرمونا ثمار تعبنا.» ونهضت وضمته إلى صدرها وقبلت عنقه، وطال عناقها له وأحس بدموعها تنحدر على عنقه فأثر فيه ذلك كثيرا وكاد يبكي معها، ولكنه تجلد وقال: «لماذا تبكين يا أماه؟»
فرفعت رأسها وقد تكسرت أهدابها من البكاء وبان الحزن والكآبة في وجهها وقالت: «أبكي يا ولدي لأني لا أدري أأراك ثانية أم لا؟»
قال: «أرجو أن أعود سالما ظافرا وأراك في صحة وعافية وتفرحي بما أصبناه من الانتقام لجدي.»
قال ذلك وقبل يديها، ثم تناول الصندوق فأخرج الخنجر منه فتقلده، ولبس ثياب السفر والتف بالعباءة فوق القباء والسراويل، وتلثم بالكوفية فوق القلنسوة، وجيء إليه بفرسه فركبه وأراد أن يأخذ الصندوق معه فأمسكت به أمه وقالت: «دع هذا الصندوق هنا وفيه رأسان عزيزان، فإما أن تشفعهما برأس أو أكثر من رءوس أعدائنا قتلة جدك، وإما أن يبقى الرأسان هنا فنستأنف البكاء حتى نموت.»
অজানা পৃষ্ঠা