وما هي يا ترى تلك الضرورة التي توجده في زمن من الأزمان دون سائر الأزمان؟ كذلك يمنعك النظر الثاقب أن تصدق أن الشيء الذي هو كائن يموت إلى جانبه كائن آخر.»
ومعنى هذا أنه لا شيء يأتي من لا شيء، فالعلم قديم لم يحدث، والواحد الذي يؤمن به بارمنيد ليس خالقا للكون بل هو حقيقة الكون، ويقول في وصفه: إنه كرة محيطة لا تقبل التجزئة؛ لأن كلها حاضر في كل جزء منها.
ويعتبر زينون الأيلي أبرع المدافعين عن مذهب أستاذه بارمنيد، فإنه أبدع تلك النقائض التي رد بها على أنصار هيرقليطس وفيثاغوراس حين أنكروا الوحدة وسخروا من مذهب بارمنيد بتلفيق الأحاجي والأماثيل، فأبدع لهم تلك النقائض البارعة التي تثبت بها الإحالة والخلف على القائلين بالتغير والكثرة، ونجتزئ منها ببعض الأمثلة للدلالة على طريقة هذه المدرسة في إثبات الوحدة الكونية ونفي التعديد والتغيير.
قال ما فحواه: إن الشيء الكثير إذا كانت كثرته بالامتداد فهو قابل للقسمة إلى شطرين، وكل شطر منهما قابل للقسمة إلى شطرين، وهكذا إلى غير نهاية، وهو مستحيل؛ لأن المحدود لا يقبل القسمة بغير حدود. أما إذا قلنا: إن الجزء الذي تنتهي إليه لا يقبل القسمة، فهو مستحيل أيضا لأنه ذو امتداد، وكل ذي امتداد ينقسم إلى نصفين .
ويقال في الكثرة بالعدد ما يقال في الكثرة بالامتداد، فإن الأعداد منفصل بعضها عن بعض، وبين كل منفصلين تقبل القسمة، ولا تزال تقبلها على النحو الذي تقدم في كثرة الامتداد.
وهو يبطل الحركة؛ لأن التغيير إنما يقوم عليها، ويبدع لذلك نقيضه من قبيل نقائض الكثرة فيقول: إن الحركة لا تنتهي إلى غايتها إلا إذا قطعت نصف المسافة ثم نصف النصف إلى غير نهاية، ومن التناقض أن يقال إن حركة تنتهي بلا نهاية، ويضرب مثلا آخر بالمسابقة بين عداء وسلحفاة فيقول: إذا سبقت السلحفاة العداء بأقصر مسافة فإن العداء لا يلحق بالسلحفاة إلا إذا عبر المسافة التي بينهما، وفي هذه الأثناء تكون السلحفاة قد سبقته إلى مسافة أخرى لا بد له من عبورها، وهكذا إلى غير انتهاء، وهو محال.
وأكثر هذه النقائض من قبيل المغالطات؛ لأنه يعتبر فيها الزمان ولا يعتبر المكان أو يعتبر فيها المكان ولا يعتبر الزمان، ولكن كلامه عن الجزء الذي لا يتجزأ ينطوي على معنى صحيح يدل على ضلال الحس في تصور المادة والفضاء، ولعل أفضل الحلول لهذه المناقضة هو حل الأفلاطونيين الذين قالوا إن الجسم يتجزأ إلى أن ينمحق فيصير هيولى، أي مادة أولية، والمادة الأولية هي الذرة المنحلة.
ولم يأت زينون الأيلي في باب الإلهيات برأي يزيد على رأي أستاذه، فهو يؤمن بالواحد الذي لا يتعدد، ولا يجعله إلها خالقا منشئا للعالم من العدم؛ لأنه لا يؤمن بالتغيير ولا بحدوث شيء من لا شيء!
أما أمبدوقليس فهو أقرب الفلاسفة إلى زمرة الشعراء، وكان ينظم فلسفته ويعتمد فيها على الخيال، فقد تخيل العالم كرة، وقال: إن الحب هو إله العالم، والنزاع عدوه الراصد له على الدوام، وكان الحب بداءة في داخل الكرة والنزاع خارجها، فكان الناس يعبدون أفروديت ربة الحب وحدها، ويتجنبون التقرب إليها بالذبائح وسفك الدماء، ثم تطرق النزاع إلى داخل الكرة وخرج الحب منها، ولا يزالان كذلك حتى يتغلب النزاع على الحب، فتتمزق أوصال الوجود، وتنتهي دورة من دورات الأبد، ويبدأ الخلق من جديد .
وكان أمبدوقليس يدعي الحلول ويزعم أنه مشتمل على روح إله، ويروي تلاميذه معجزات له تحسب من خوارق العادات، ويلتمسون منه البركة والرضوان كأنه من القديسين.
অজানা পৃষ্ঠা