وكنت في داري ذات مساء فسمعت طارقا يدق الباب، وكنت لم أر صديقي كمال الدين في ذلك اليوم، فوقع في نفسي أن يكون هو الطارق، فأسرعت لأفتح له، ولكني دهشت عندما رأيت رجلا لا أعرفه، وكان رجلا حسن الوجه واللحية، عليه هيئة العلماء، وله سمت الصالحين. فرحبت به ورجوته أن يدخل، فاعتذر قائلا: «لعلي قطعت عليك تسبيحك أيها الشيخ الصالح ، فأرجو منك عفوا.» فأعدت عليه الترحيب ودعوته للدخول، فأبى قائلا: «مولاي السلطان قد بعثني في طلبك.»
ولا حاجة بي إلى إطالة الحديث في وصف ما دار بيني وبينه؛ فقد كان لا بد لي من رؤية السلطان. وكان علاء الدين عندي كريما جليل القدر؛ فهو سلطان وطني، وعرفته الملك الصالح والسلطان البر والعالم الورع. فلم أتردد طويلا في الذهاب إليه مع كل ما كان في نفسي من العزوف عن غرور الحياة.
ولما بلغت القصر ودخلت في رحابه، وانتهيت إلى مجلس السلطان، رأيته في حلقة من العلماء والحكماء، فانشرح صدري لمنظره؛ إذ لا شيء أجمل من الملوك إذا أحاطت بهم مثل تلك الهالة النبيلة. قيل إن حكيم اليونان سئل عن الحكم يوما، فقال إنه لا ينبغي أن يحكم الناس سوى الفلاسفة. ولو تأمل العاقل هذا القول لوجد أنه الحق عينه. ولو أنصف الناس لأجمعوا على تجربته؛ فإن الدول كانت منذ القدم لا تدين إلا لأولي القوة، حتى كاد الناس يعتقدون أن الحكم وقف على أصحاب السيف لا يجمل بأحد غيرهم أن يقبض على صولجانه. بل لقد قالوا في بعض الأمثال إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن. ولكنهم لم يجربوا مرة إقامة دولة على حكم الفلاسفة، وأغلب ظني أنهم لو جربوا مثل ذلك الحكم لاستساغوه وأقبلوا عليه، ولم يرضوا به بديلا؛ فإن الفلاسفة يعرفون ضعف البشرية، وهذا يكفل لحكمهم الرحمة، ويعرفون كرامة الإنسانية وهذا يكفل لهم التطلع والتسامي، ويعرفون معنى الفناء وهذا يكفل لهم الاعتدال.
وكانت ليلة مباركة تلك الليلة التي قضيتها في مجلس علاء الدين، لم أنصرف عنه بخلعة، ولم أذق عنده طعاما، ولكني عدت من عنده بقلب عامر بالمعاني. ما أجمل الملوك إذا أحاط بهم الحكماء!
الفصل الثاني والعشرون
لم تفارقني وساوسي منذ ليال، وكنت أحس كأنني أضطرب في بحر لجي موج من فوقه موج من فوقه سحاب. كانت صورة علية في تلك الليالي لا تبرح ماثلة أمام عيني ناظرة إلي بجبينها العالي وأنفها الأشم وعينها المتكبرة كأنها تسألني : «من أنت؟» لقد كانت تلك الصورة من قبل تبدو لي عاطفة رحيمة تأخذ بيدي إذا ما اشتدت بي الحيرة، وتصعد بي إلى حيث الصفاء والسلام، فما الذي بدل نظرتها؟ ولكن ما بالي أتحدث عن صورة علية ابنة علاء الدين كأنها شخص له جسد وفكر وروح يحدثني، ويتغير في نظرته نحوي؟ أليس هذا من الخبل والتخليط؟ أكانت في عقلي لوثة هي التي خيلت إلي ذلك الوهم الذي تسلط علي كل هذه المدة الطويلة منذ وقعت عيني عليها في ماهوش؟
كنت سابحا في هذا الخضم المائج عندما طرق بابي رسول السلطان ودعاني إلى حضرة مولاه، وكان السلطان على عادته نبيلا كريما، فما زال يكرمني في الحديث ويقبل علي بالترحيب ويبالغ في التلطف بي - عفا الله عنه - فيسألني الدعاء ويلتمس مني البركة حتى كاد الغرور يدخل إلى قلبي. وأي إنسان لا يتدسس إلى قلبه الغرور؟ لقد أوشكت أن أصدق السلطان وأومن بما يقوله أهل جانبولاد فأظن في نفسي القرب من الله، أعوذ بالله من الغرور، فأنا أعرف الخلق بما ينطوي عليه صدري من نوازع ضعف الإنسان ودوافع طباع الحيوان. فلما خلوت إلى نفسي بعد ذلك المجلس تركت العنان للبكاء لعلي أنال عفو الله عما داخلني من الغرور. وقد فاجأني السلطان في ذلك المجلس بأمر ما كان يخطر لي ببال؛ فقد عرض علي أن أكون له وزيرا أدير له ملكه وأشير عليه بما ينبغي أن يكون عليه حكمه. وما كدت أسمع ذلك الحديث حتى كاد يغلبني الضحك على الحياء؛ فإنه عندما طلب مني الدعاء دعوت الله له ولا حرج علي إذا اتجهت إلى الله بالدعاء؛ فإن الله يقبل الدعوة من خلقه ولا يقيم حجابا بينه وبين عباده.
ولكنه عندما سألني أن أدير له الملك دار بي رأسي، فأوشكت أن أنفلت من وعيي، ولولا أنه السلطان العظيم في مجلسه الرهيب لانفجرت ضاحكا ساخرا. أيكون جحا وزيرا؟ قد أحسن السخرية من الحياة كلما رأيت فيها حماقة أو سخافة، ولكني إذا ضحكت من السخف لم يخف عني أنني شريك لهؤلاء الذين أثاروا الضحك في نفسي. أأكون أنا وزير السلطان وأزعم أنني أستطيع أن أبلغ قرار الحكمة والعدالة؟ وهل أحمل على عاتقي أوزار العمال وأثقال المظالم التي ترتكب باسمي؟ أكون أنا وزير السلطان لأحمل الناس على أن يعيشوا معي في عالمي؟
كيف أستطيع أن أدبر أمور الخلق وأنا أنظر إلى الحياة بهاتين العينين اللتين وهبهما الله لي. إن الحق عندي باطل عند أكثرهم، والعدل عندي جور في مذهبهم، ولست أقدر على أن أخلق نفسي خلقا جديدا وأقلب كل معايير القيم عندي حتى أصلح لأن أحكم بين الناس على عرفهم الذي يرتضونه. فهل يستطيع السلطان أن يبدل طبعي؟ أم يستطيع أن يأتي لي بناس آخرين يصلحون لحكمي؟ إن الناس لا يعرفون إلا العنف، ولا يفهمون من الحاكم إلا القوة والقسر، وهم لا يخرجون عن أن يكونوا في إحدى حالتين؛ إما أن يكونوا فرائس تتخذ طعاما، أو مفترسين يتخذون من غيرهم طعاما. ولقد حاولت أن أعلمهم، ولكن التعليم لا يجدي إلا بعد أن يؤتي الثمار ويحرك القلوب، ويفتح العقول، ويهذب النفوس، وهيهات أن يكون ذلك إلا بعد حين طويل. لقد حاول موسى أن يعلم قومه احتمال أعباء الحرية فأذاقوه مرارة الحنق والألم حتى فني جيل منهم بعد جيل. ولا سبيل إلى استقامة الحكم حتى يستعد الناس لتحمل أمانة السلام والكرامة والعدل في غير عنف ولا قهر. ولو كان أهل جانبولاد كلهم مثل تلميذي كمال الدين أو تلميذتي «نجوى» لهان الأمر، ولكن أنى لي أن أجد في الناس مثل هذين؟ ما لقلبي يخفق عندما يخطر عليه ذكر «نجوى»؟ ما لي كلما صرفت نفسي عن التفكير فيها لا يلبث أن يعود مكرها إليها.
أأنا أحبها؟ هل هذا الذي أحسه هو ما يسميه الناس حبا؟ إنني أطرب كلما مرت صورتها في خاطري، فكأن الحياة كلها تبسم، وكأن الأفلاك من فوق تغني. أأخادع نفسي وأوهمها بأن هذا غير ما يسميه الناس حبا؟ وفيم هذا الخداع إذا كان هو الحب حقا؟ لقد سمعت عن المحبين وقرأت عن أخبارهم ما يجعلني أسيء الظن بنفسي. وإن قلبي يرف إذا رأيتها، وأصعد في سماء الملائكة إذا سمعت صوتها، وأجد في حديثها سلاما مثلما يتحدث فيما بينهم أصحاب اليمين. فهل هكذا كان المحبون قبلي؟ وإني لأقنع منها بالنظرة لا أطيلها، وبالكلمة القصيرة لا تعيدها، ويسري في البشر إذا أحييتها. فهل كان هكذا المحبون قبلي؟ ولكني لست أحس ذلك الشوق المحرق ولا ذلك القلق المؤلم الذي يصف الشعراء أثره في سقم أبدانهم. أيكون ما أحسه مع كل ذلك حبا؟
অজানা পৃষ্ঠা