الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
অজানা পৃষ্ঠা
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
الفصل الثالث عشر
الفصل الرابع عشر
الفصل الخامس عشر
الفصل السادس عشر
الفصل السابع عشر
الفصل الثامن عشر
الفصل التاسع عشر
الفصل العشرون
অজানা পৃষ্ঠা
الفصل الحادي والعشرون
الفصل الثاني والعشرون
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
অজানা পৃষ্ঠা
الفصل التاسع
الفصل العاشر
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
الفصل الثالث عشر
الفصل الرابع عشر
الفصل الخامس عشر
الفصل السادس عشر
الفصل السابع عشر
الفصل الثامن عشر
অজানা পৃষ্ঠা
الفصل التاسع عشر
الفصل العشرون
الفصل الحادي والعشرون
الفصل الثاني والعشرون
آلام جحا
آلام جحا
تأليف
محمد فريد أبو حديد
الفصل الأول
مضى علي أربعون عاما وأنا على هذه الأرض، وها أنا ذا أنظر إلى ورائي، إلى هذه السنوات الطويلة، فأرى أقصاها كأنه الأمس القريب لم تمض عليه إلا ليلة، فما معنى الزمان وما معنى السنوات التي نعدها؟ ما زلت أنا جحا الذي عرفته في سن العشرين والعشر، لم يتغير مني شيء سوى أن صلب عودي وجمدت مفاصلي وزدت في الطول والعرض شيئا، وما زلت أغضب وأرضى وأحب وأكره، وأندفع مع حماقة البشرية كما كنت أفعل صغيرا. إن الحكمة لم توهب للبشر وإن كانوا يدعونها.
অজানা পৃষ্ঠা
لقد كنت أحسب أن الأربعين إذا بلغتها توفي بي على سن الكمال؛ فإنها السن التي كان الأنبياء يبعثون فيها. ولكني لم أجد في نفسي تبدلا وقد بلغتها؛ فما زلت كما كنت حائرا خائبا أهيم في خيالي، ولا أعرف من أمور الحياة أمرا.
لقد تعودت أن أصارح نفسي ولا أخادعها، وأنظر إلى عيوبي فلا أسترها، ولست أدري كلما تأملت أحوالي، أأبكي أم أضحك منها. لست أحسن في الحياة إلا أن أهيم فيها على وجهي قانعا بما تقع عليه عيناي من مجالي هذا الكون العجيب الذي يهزني بجماله وجلاله. فإذا غمرتني الهزة أنطقتني قائلا: «سبحان ربي!» وأبعد في التأمل حتى أغيب عن وعيي. والناس ينظرون إلي وهم يسعون ويكدون ويتزاحمون على ما أسميه حطام الدنيا، فأراهم يمضون عني ويبسمون سخرا، فأوشك أن أسخر منهم وأضحك من جهالتهم، ولكني أعود سريعا إلى نفسي فأردها عن السخرية؛ فإني لا أدري أأنا خير منهم أم هم خير مني.
وأضيق أحيانا بما ألقاه في مصبحي وممساي، وأنكر ظلم الأحياء، وأمتلئ عليهم بالحنق أحيانا، فإذا ما أذهلتني ضربات الحياة وعثراتها وقفت بين الناس أضحك حتى يتحلقوا حولي ويضحكوا لضحكي. فإذا نطقت بما في قرارة قلبي حسبوا أنني أهرف وأخلط فيزدادون مني ضحكا. أهذا قضاء الله الذي قدره لي؟
لم يهب لي الله ما وهبه لهؤلاء الذين يضطربون في الحياة فيصارعونها، لم يهب لي مالا أسند إليه ظهري، ولا حيلة أكيد بها وأعتمد عليها، ولا جمالا في خلقتي ولا بسطة في قوتي. ولكنه وهب لي قلبا يحس عظمته وجلال خلقه، وكفاني هذا وحسبي!
ولست أملك من دنياي إلا هذه الدار التي خلفها لي أبي من تراث أجدادي، وقد كانت بها حديقة أدركت خضرتها في صباي، ولكنها اليوم صحراء جرداء بلقع؛ فليس بها من آثار الخضرة إلا جذوع كالحة ونخلات شعثاء، وقد تهدمت ساقيتها وكسرت قواديسها وانقطع ثمرها. ومع ذلك فإنني أحبها ولا أرضى أن أبيع منها قيراطا، وحسبي من الحديقة سعتها. بل إنني لست أرضى أن ينقطع دوران الساقية، فلا يزال الثور يدور بها ويعجبني أن أسمع نعيرها إذا صفا الليل وهدأ الكون وسطع البدر؛ فإن صوتها يقع في أذني أشهى من الألحان، وحسبي من ساقيتي نعيرها.
وقد تهدم سور البيت فصار لا يحجب أهل الفضول ولا يمنع الدخيل، ولكن ما ضرني من ذلك والأسوار لا تقام إلا إذا كان صاحبها يخشى على ذهب عنده أو جوهر؟! وأنا بحمد الله ليس عندي منها ما ينغص علي عيشي.
خرجت يوم بلغت الأربعين إلى ظاهر ماهوش لعلني أستوحي في ذلك اليوم ما يحيل جدبي إلى خصب، أو يدخل نورا إلى ظلام القلب. وكان الربيع يخلع على الريف رداءه، وحقول البرسيم الخضراء تتموج تحت أذيال النسيم رطبة يانعة، والفول يملأ الهواء عطرا من نواره الجميل، ومروج القمح كأنها لوحة فنان أبدع في مزج ألوانه فهي زبرجد في ذهب، وحوافي النهر ترقص بما عليها من أعشاب وأزهار. فلو شئت أن أتغنى بما وقعت عيني عليه من الجمال لما أبقيت موضعا لغيره من الحديث. وحسبي أن أقول إنه السحر الساحر، وسبحان مبدع الكائنات. فسرت صامتا وقلبي يثرثر وروحي يحلق حتى بدا لي العالم كله كأنه ذرة على ساحل المحيط، وهانت عندي الحياة وما فيها من هموم صغيرة. حقا ما أصغر هموم الحياة!
كنت أميل إلى العود الضئيل من العشب فأرفعه إلى عيني وأحاول أن أرى ما فيه من جلال الإبداع، فيرتد عنه بصري حسيرا. وأرى الذبابة على العود أو البعوضة فوق الورقة أو النحلة ترف على الزهر فأتأمل الإبداع بعد الإبداع، وأغمض عيني خوف أن يعشيها نور الجلال، فأصيح بغير وعي: «يا ألله!»
ورأيت شجرة جميز على جانب الطريق، وكنت كثيرا ما أستريح فوقها إذا تعبت من طول جولتي؛ وتلك عادة تعودتها منذ صغري؛ فقد طالما كنت أقضي الليل راقدا بين الغصون كأنني بعض الطيور في أوكارها.
وجلست أقلب نظري في الأفق البعيد وفي ظل الشجرة القريب، فما وقع إلا على جليل من المعاني تومض في ومضات كنار الجبل إذ آنسها موسى؛ فلا أكاد أسمو بنظري إلى قبس منها حتى يرتد طرفي كليلا.
অজানা পৃষ্ঠা
وفيما كنت في مجلس أهيم في مدارج السماء إذ جذبتني حركة على الأرض، فالتفت إلى الطريق فإذا بي أرى موكبا يحيط بهودج، وهو متجه نحو ماهوش مقبلا من ناحية قصر نزهة السلطان، فكدت أصرف النظر عنه وأعود إلى هيامي في فضائي، ولكن ما أعجب الإنسان إذ ينقلب من السماء إلى الأرض يجذبه إليها عنصر الصلصال! كان الموكب باهرا لا تقع فيه العين إلا على وهج من الحرير والجوهر أو بريق من الحديد والذهب. فخشعت في مكاني وجلست أرقبه حتى مر وصار الهودج حيالي، فإذا بي أرى الستر مزاحا، وألمح من ورائه فتاة سبحان الخالق القهار! كان وجهها سافرا عن فلقة من بدر، أبيض في حمرة كأنه وردة تتفتح في الربيع. وكانت تنظر إلى المروج الخضراء باسمة، وترمي بلمحات من عينين لا أستطيع أن أصور ما فيهما من حلاوة. فخفق قلبي خفقة أحسست منها كأنه غاص في صدري، وصحت صيحة مكتومة: «أهذه علية؟» وأغمضت خشية الفتنة، ولكن عيني لم تطاوعاني - غفر الله لي - فعدت أنظر إلى تلك الخلقة البديعة وعاد قلبي إلى خفقانه، وعادت إلي ذكرى عزيزة فهزهزت كياني. إنها علية الحبيبة حقا. والتفتت الفتاة فاضطربت غدائر شعرها الأسود حول عنق في بياض الزنبق، ورأيت جبينها الواضح وأنفها الجميل وكانت تزيح جانب الستر بأنامل منعمة فوقها معصم أنيق يتوهج بالجوهر. فدار رأسي حتى كدت أسقط من مجلسي، وتعلق بصري بأعقاب الموكب حتى غاب عن عيني. فنزلت، ولا أدري إلى أين أسير، شاخصا إلى الهودج كأنني أنجذب نحوه قسرا. وسرح خيالي إلى أيام شبابي إذ كنت أهيم بمن استأثرت بفؤادي؛ علية التي بهرتني وفتنتني. أواه! إنني لا أذكرها إلا خفق قلبي وأضاء الكون حولي. كانت علية في شبابي علالة النفس إذا صحوت، ومؤنسة الأحلام إذا أغفيت. كنت أقف الساعات أنتظر حتى تمر علي، فإذا مرت سرت وراءها مباعدا حتى تغيب عن عيني، ثم أعود فأقف حيث كنت، فأبقى ساعات أخرى حتى ترجع لكي أتزود منها بنظرة أخرى. لشد ما كنت سخيفا شقيا إذ ضعفت وجبنت وتركت منافسي السمج يفوز بها. وا أسفاه علي وعليها! فإن ذلك المنافس أشقاني وأشقاها. ما كان أشد حمقي وسوء حظي إذ ترددت ولم أجاهد لأنتزعها منه انتزاعا! نعم كنت فقيرا وكان غنيا، وكنت قبيحا وكان جميلا، وكنت هين الجاه وكان وجيها. ولكني كنت أملك حبي وقلبي، وكان ذلك خيرا لها من ماله وجماله وجاهه. ولم يمهلها الأجل فاهتصرها في رونق الشباب وسرت وراء نعشها، فكان قلبي يدمى حتى شيعتها إلى قبرها. عفوك يا علية؛ فقد كنت مذنبا تعسا، أو لقد كان هذا قضائي . ولقد خيل إلي بعد أن فقدتها أن قلبي قد أغلق وجمد واستقر على بلواه، وما كنت أحسب أنه سوف يخفق مرة أخرى، ولكنه في ذلك اليوم خفق وتوهج فيه القبس الخابي.
لست أدري، أعادت علية إلى الحياة وكانت هناك في الهودج تمر أمامي؟ لقد رأيت في الهودج عينيها وجبينها وغدائر شعرها ولفتة جيدها. أكنت أهذي إذ رأيتها ولم يكن ذلك إلا خيالا؟ أم لقد مر الهودج حقا أمامي وبدت صورتها حيالي؟
وسرت بين الحقول أهيم ولا أحس مواقع قدمي، ولا أرى شيئا مما يحيط بي حتى تنبهت إلى صوت يناديني، فتلفت كأني أستيقظ من حلم فإذا بي أرى صديقي أبا النور أمامي.
لك الله يا صديقي! فليس لي في ماهوش كلها قلب أطمئن إلى رحمته غير قلبك. فلما نظرت إليه بادرني قائلا: أين كنت منذ الصباح؟
فقلت في ارتباك: على الأرض حينا، وفوق الشجرة حينا.
فقال في عطف: وإلى أين؟
فتلفت حولي لأعرف أين كنت، ولكن اضطراب حواسي كان يذهلني، فقلت: إن شئت الحق، فإني لا أدري.
فأخذني من ذراعي وخرج بي يسير نحو الطريق، وعند ذلك تبينت أنني كنت أسير في حقل حديث عهد بالري، وأنا أغوص فيه وأخبط على غير هدى.
فلما صرنا على الطريق قال صاحبي: أتحب العودة إلى ماهوش؟
وما كنت لأنصرف عن الصورة التي ملأت فؤادي، فسألت قائلا: أرأيت هذا الموكب الذي مر بي؟
অজানা পৃষ্ঠা
فلم يزد على أن قال: نعم رأيته.
ثم سكت، كأن الأمر لا يستحق إلا تلك الكلمة القصيرة. فأعدت قائلا: أوقعت عينك عليها؟
فنظر أبو النور نحوي بعينيه الفاترتين وقال متعجبا: من تعني؟
فانطلق لساني قائلا: علية.
فأحسست يده تشتد على ذراعي وقال في رحمة: هو موكب ابنة السلطان يا صديقي.
ثم حرك شفتيه يقرأ هامسا.
فلم أشعر إلا وقد اندفعت أصف محاسنها، وكنت أتعجب من الحرارة التي تتدفق في بياني. نعم كانت نفسي تعجب من نفسي.
وزادت قبضة صاحبي على ذراعي شدة، وخيل إلي أنه يحاول أن يسندني، فتمالكت نفسي وأمسكت لساني وسرت إلى جانبه صامتا وهو يقودني، وعدت إلى صورة الهودج أتمثلها وأتأمل محاسنها، ثم صحت فجأة: أهي ابنة السلطان حقا؟
فحرك أبو النور شفتيه، ولكني سمعته يهمس مستغفرا.
فأعدت سؤالي عليه، ولم أرد به إلا أن أعرف إذا كان صاحبي قد رأى الموكب حقا؛ فقد داخلني الشك أن يكون ما رأيته من أشباح وهمي، ولكنه قال: هكذا قال حراسها.
অজানা পৃষ্ঠা
فهدأت نفسي قليلا وعدت إلى صورة الفتاة أناجيها. وما ضرني أن تكون تلك علية التي أحببتها في شبابي، أو أن تكون ابنة السلطان أو غيره من الخلق؛ فلم أكن أطمع في غير صورتها، وتلك قد احتواها قلبي، وحسبي.
الفصل الثاني
هكذا يسقط الإنسان من السماء إلى القرار السحيق فجأة. فقد بلغت داري ورأيت امرأتي ريمة أمامي. وما رأيتها يوما إلا وقع في نفسي أن صاعقة تريد أن تنقض علي، أو أن الأرض تريد أن تنهار من تحتي، أو أن الدنيا شعلة من النار، أو أن نورها قد انطفأ ولفها الظلام. أين هذه الزوجة من علية التي فجعت فيها؟ المسكينة علية! أهي قد ماتت حقا؟ أم إنها هي التي رأيتها في الهودج والموكب العظيم يحرسها؟ وماذا يعنيني إذا كانت هي هذه أو تلك؟ فإنما تصاحبني صورة في قلبي لا تتغير ولا تتبدل. وسواء علي أكانت الصورة ذلك الجسد أو ذاك. أين ريمة امرأتي من تلك الصورة؛ صورة علية أو صورة ابنة السلطان، أو هي صورة علية ابنة السلطان في آن؟ إن ريمة امرأتي لا تدع فرصة إلا انتهزتها لتنكيد عيشي وتسويد أيامي؛ فلا أراها إلا مخالفة معاندة، لا يعرف السلام سبيلا إلى قلبها. ما قلت لها يوما: «هذا شرق»، إلا كان جوابها: «بل هو غرب.» وإذا قلت: «هذا أبيض.» قالت: «بل هذا أسود، أليس لك عينان؟» وقد أقول لها يوما مخادعا: «هذا يوم سعيد إذ أصطبح على وجهك.» وأحسب أني بذلك أداهنها وأسل خبثها، فتأبى إلا أن تجيب: «أما إنه ليوم أغبر منحوس.» وهي تخالفني في كل شيء وفي كل معنى ؛ فأنا رجل نحيف الجسم، وهي مثل فرس البحر كأنها تأكل مع عميان، وأنا خفيض الصوت، وهي إذا نطقت كأن في حلقها بوقا، وأنا أحب الصمت، وهي تتكلم بلسان ذي ثلاث شعب، وأنا أحب النور، وهي تهوى الظلام، فإذا فتحت نافذة أغلقتها، وإذا أوقدت مصباحا أطفأته، وإذا سكت ثرثرت، وإذا تكلمت التوت عني فما تنطق.
وهي فوق هذا كله تتعمد أن تكون الحياة على غير ما أرضى، وتتعمد أن تحب كل ما أكره، وتكره كل ما أحب.
كنت عائدا إلى بيتي بعد صلاة العصر، فمررت بحانوت فاكهاني، ورأيت عنده برتقالا كأن لونه من الذهب، وكأن رائحته عطر المسك، وكانت الواحدة منه مثل الرمانة الكبيرة. فحدثت نفسي أن أشتري منه لأولادي، ومددت يدي إلى جيبي فلم أجد درهما. فسرت في طريقي أحدث نفسي بذلك البرتقال، ولو كان معي دراهم لاشتريت منه بعشرة. ولما بلغت الدار كان همي عظيما؛ إذ دخلت إلى عيالي بغير تلك الفاكهة الحلوة، وأردت أن أخفف من ثقل الهم على نفسي فقلت لامرأتي: لقد رأيت اليوم برتقالا لم أر مثله في حياتي.
فأجابت في فتور: وأين نحن من البرتقال؟
ثم تنهدت.
فقلت: وكنت أحب لو اشتريت منه بعشرة دراهم، لولا أنني لم أجدها في جيبي.
فصاحت في غضب: عشرة دراهم؟ أكنت تريد أن تبدد دراهم عشرة في شراء برتقال؟
فقلت: أما إنه لبرتقال عجيب.
অজানা পৃষ্ঠা
وشرعت أصف لها لونه وريحه وحجمه، ولكنها صاحت بي: لقد عرفت أنك أحمق الرجال.
فغضبت وقلت لها: وما ضرك لو تفكه الأطفال مرة؟
فأخذت تصيح بي وتسبني حتى جاء أبو النور من بيته على صياحها، وأقبلت عليه أقص عليه القصة، وكانت امرأتي تقاطعني وتسفه رأيي. فأراد الرجل الطيب أن يطفئ نيرانها، فقال لي يلومني: الحق مع امرأتك؛ فإن عشرة دراهم لا تبذل في شراء البرتقال لأمثالنا.
ثم أراد إرضائي فقال: أما كان يكفيك أن تشتري بخمسة دراهم؟
فأردت أن أهدئ المرأة فقلت: لا بأس يا صديقي، كانت الخمسة تكفي، ولن أرد لك قولا.
فخجلت ريمة من عنفها، وانتهزت الفرصة لترجع عن عنادها وقالت تخاطب صديقي: قل له يا أبا النور، أما كانت الخمسة تكفي؟
فقال لها أبو النور: صدقت، وقد اتفقنا جميعا.
وهكذا سكنت العاصفة، ولكنها سكنت لكي تهب مرة أخرى أشد عنفا؛ ففي ذلك اليوم جاء وقت العشاء ورأيتها تقلي بيضا، وأنا أحب البيض المقلي إذا كان الزبد جديدا. فقلت في نفسي لعلها تريد أن ترضيني وتستسمحني بعد ما كان منها، وكدت ألوم نفسي على غلظتي في مخالفتها. فلما أعدت السفرة ودعت الأولاد للعشاء نظرت إلي في خبث، ثم مدت يدها إلى علبة فيها بهار وفلفل، وأهوت على طبق البيض حتى طمسته، فصار لونه أغبر كريها.
وهي تعلم كراهتي للأفاويه، فلست أطيق حرقتها ولا أقوى على حرارتها؛ بل إني لا أحب ريحها وأكره النظر إليها، وأعتقد أن الله لم يخلقها لخير أبدا، وأنه لا يبارك في زراعتها ولا في تجارتها، وأن الأرض التي تنبتها لن تصيب إلا الذل، وأن القوافل التي تحملها لا يبارك الله في دابتها.
فلما أردت أن أردها عن خبثها قلت لها: إن هذا البهار يحرق حلوق الأطفال.
অজানা পৃষ্ঠা
وبدأت أزيحه بلقمة عن وجه البيض، فصاحت بي قائلة: قلت لك دعه، فلا طعم لهذا البيض إلا بفضله.
فصحت قائلا: أما تشفقين على هؤلاء الصغار؟
وأشرت إلى الأطفال وكانوا يأكلون ولا يبالون شيئا.
فضحكت ساخرة وقالت في قسوة بالغة: دع الأطفال، فما تشفق إلا على حلقك.
فلم أجد بدا من القيام وأنا أغلي غيظا.
هذه هي ريمة امرأتي التي سودت أيامي؛ فلم يكن لي من حيلة إلا أن أخرج إلى فناء البيت لأبترد في هواء الليل من همي. وكان ضوء القمر يلف الأرض في غلالة رقيقة فيجلو أرجاءها في رفق، لا يقسو عليها ولا يتدسس إلى خفاياها. هناك يستطيع الإنسان أن يهيم في عوالم الآفاق والسموات في النور الخافت، فيرى في شعاعه الضئيل رقص الجان وعربدة العفاريت ومحاورة الأشباح، وزيارة الأرواح؛ إذ تهبط كلها إلى الأرض تحت أضواء القمر، وتعبث وتنساب في الأفق الغامض آمنة من النور الباهر الفاضح. وفي ذلك الليل الساجي رقدت مستلقيا على ظهري ناظرا إلى الفضاء الذي لا نهاية له، فكأنني انمحيت فيه وفنيت، أو كأن الوجود كله قد انمحى وفني في، فلم يبق من الوجود إلا ما بين جنبي، أو لم يبق مني إلا هذا الوجود الصافي.
ورأيت النجوم الصغيرة تومض بشعاعها الضئيل وكأنها ترسل حديثها الصامت من وراء الفضاء في جوف العماء، تحدث بأسرار الكون الأزلي وتخبر عن سير القرون الخوالي حديثا قصيرا لا يزيد على لفظ «كانوا». فإذا ما سألتها عما وراءها وما يحيط بها، وعن حقيقتها وهل بها أحياء مثلي أم فيها ملائكة لا تعرف هموم الإنسان، وإذا سألتها عن الكرسي الأعظم الذي يسعها، لم أجد منها جوابا إلا لمعة تلمعها كأنها تجيب قائلة: «اخسأ.» فلا يسعني إلا أن أقول: «أيها العقل، قف مكانك ولا تقلق هذا الكون السرمدي بثرثرتك.» وطرقت أذني أصوات منبعثة من الساقية الصغيرة التي في فناء داري، فتذكرت ذلك الفناء الذي كان في أيام أبي بستانا يانعا. لشد ما تغير البستان على يدي، فأنا لا أصلح شيئا ولا أصلح لشيء. كانت هذه الساقية تدور كما تدور الآن، وكانت ترفع الماء من قرار البئر فتروي به الشجر والزهر، ولكنها عقمت فهي الآن لا تخرج ماء. أيها الثور الناعس المستسلم امض في دورانك فليس كله عبثا، أليس هذا الصوت الذي يدوي في سكون الليل لحنا يحيي هذا الفضاء الرهيب؟ ماذا يعنيك إذا كانت الساقية ترفع ماء يروي النبات أو لا ترفع من الماء شيئا؟ حسبك من الدوران هذا النعير الذي يتردد في سكون الليل فيكسبه جلالا ويملؤه خشوعا، حسبك هذا الغناء الذي يشبه الترتيل والتسبيح، ولا تكن أيها الثور أحمق مثل هذا الإنسان الذي لا يتحرك إلا لمطمع في الحياة، إنك لن تصيب من الحياة إلا ملء مذودك من التبن أو الحشيش. كان كل شيء هادئ في ذلك الليل يبعث على السلام والسمو، فأحسست وأنا مستلق على أرض الفناء الواسع أن بالحياة أنغاما متناسقة، ونسيت كل ما مر بي من الهم. الحياة حلوة لمن استطاع أن يكشف ما فيها من حلاوة، ولو لم يكن فيها سوى أن تستلقي على ظهرك في ضوء القمر كما فعلت وتتأمل صور الكون الذي حولك أو التي في حنايا صدرك لكان هذا حسبك. هناك يستطيع الإنسان أن يجد السعادة في السلام الشامل.
وذهب خيالي إلى ابنة السلطان - أو هي علية ابنة السلطان. نعم هي علية؛ لأنني لم أعرف اسمها، ولا بأس علي إذا مزجت اسم علية الحبيب بشخصها. وهناك استطعت أن أعيش حينا معها لا تفرق بيني وبينها تلك الفوارق التي تحجبها عني إذا ما طلعت الشمس، هناك لم أشعر بقوة السلطان ولا عظمته، هناك عند السماك التقيت بعلية ابنة علاء الدين بعيدين عن الأرض الضيقة وجهلها وسخفها.
لقد سمع الناس عن حبي وضحكوا مني وسخروا، نعم سمعوا به وسمعوه مني، وهل علي من بأس إذا جهرت بحبها وسمعت أصداء ترديدي لاسمها؟ إن كل ما عندي كريم نبيل صريح، فقلت وتحدثت وسبحت، وسمع الناس قولي وسخروا مني. ولكن ماذا يعنيني منهم إذا هم سخروا وضحكوا، وقد أفضى صديقي أبو النور إلي بما يقولون، وعنفني على مجاهرتي بحبها، وقال إني أعرض نفسي للهلاك إذا أنا تماديت في ذكرها.
يعجب الناس مني، ويقولون إني صعلوك أتطاول على مقام لا ينبغي لي أن أتطاول إليه. حقا إني فقير ولست أدعي الغنى، وضعيف الجاه ولست أدعي القوة، ولكني مع ذلك أدرك ما يفوت عقول هؤلاء. إن الأسرار تتفتح لي وينابيع الآيات تتدفق في صدري، ولست أعبأ بشيء مما يرغب الناس فيه، ولا أرهب مما يرهبون، فما الذي يمنعني أن أتطلع إلى ما أريد؟ وما الذي يلومني الناس فيه من حب علية ابنة علاء الدين؟ أيلومني الناس على أنني أسبح الله في حبها؟ لست أتطلع إلى شيء غير صورتها، ولن يستطيع أحد أن يحجب عني العوالم التي أكشفها من تأمل حبها.
অজানা পৃষ্ঠা
إنني أسمو بذلك الحب كما يسمو العابد في صلاته. وهل الحياة كلها جسد ومادة؟ إن روحي تهيم وتستطيع أن تقضي الأيام والليالي في الأفق الأعلى، تتغذى من ذلك الشجن الطاهر الذي يشملها، وتتصفى من ذلك الهيام الحار الذي يصهرها ... يا علية ابنة علاء الدين!
لن أكف عن التطلع إليك والتسبيح باسمك، والتماس الحياة العليا من محبتك، وإن لم تقع عيني عليك مرة أخرى.
الفصل الثالث
لو استطعت أن أقضي كل حياتي في أحلامي لكنت رجلا سعيدا، ولكن أنى لي ذلك وأنا إنسان لا بد لي من أن أصحو ومن أن أرى وأسمع وأسير؟ أنى لي أن أعتزل في أحلامي وأنا مرتبط بهذه الأرض وبأهلها ممن هم قريبون مني ومن هم بعيدون عني؟ ولو كنت وحيدا معتزلا لهان علي الأمر، ولكني أعيش في الناس ومع الناس ولا سيما إذا كانت لي امرأة مثل ريمة.
لقد سمعت امرأتي بما يقوله الناس عني في حب علية، وكنت أحسب أنها إذا سمعت ذلك أصلحت من شأنها وقومت من اعوجاجها. ولكنها ما كادت تسمع ما يقوله الناس حتى ركب الشيطان كتفيها كأعنف ما ركبها منذ عرفتها، فلم تدع نوعا من أنواع الأذى إلا ألحقته بي، ولا صنفا من صنوف الخبث إلا صبته على رأسي، وأرادت فوق كل هذا أن تذلني فأذاعت هي الأخرى أنها قد عزمت على الزواج من السلطان نفسه.
لكم ضحكت عندما سمعت الناس ينقلون إلي قولها! ريمة تريد أن تتزوج من السلطان! لم يثر قولها في إلا ضحكا.
فلما رأت أن قولها لم يثر غيظي عمدت إلى حيلة خبيثة للانتقام مني، فأثارت ضجة يتحدث بها العاطلون في ماهوش يوما بعد يوم وشهرا بعد شهر؛ فإنها أذاعت في الجيران أنها قد عزمت على الانتحار. ولو كان أمرها قد أدى إلى غايته لكان ذلك قضاء الله وانتهى إلى نهايته. والزواج من مثل ريمة ما هو إلا سباق على الموت بين الزوجين، فإذا كان ولا بد من الموت فليكن لها إذا شاءت، ولكن ريمة لم تهتد إلى ما يجب عليها أن تفعل، وقنعت بأن صاحت وسبت واصطرعت وتخبطت، ثم خرجت من الدار تجري، ولم أدر ما كان قصدها من وراء هذا كله، فتركتها وقعدت في الدار هادئا، وأحسست أنني استطعت أن أتنفس حرا، وقد هدأ الجو بعد خروجها.
وانصرفت إلى صورة علية ابنة السلطان أناجيها، فلم أشعر بشيء حتى سمعت هيعة عالية وأصوات ولولة تطرق أذاني. فشردت أفكاري وقمت فزعا، فإذا بالحارة قد غصت بمن فيها من رجال ونساء وأطفال وشيوخ، وما كادوا يرونني حتى علت منهم صيحة عالية: «الحق يا جحا.»
فدهشت لهذه المفاجأة ولم أفهم المقصود من قولهم، وما الذي ألحقه؟ إنني رجل لم أستطع في حياتي أن ألحق شيئا، فكيف لي أن ألحق شيئا لم يقدر كل هؤلاء على أن يلحقوه، ووقفت ثابتا أقلب فيهم بصري.
فصاحوا بي مرة أخرى صيحة أعنف وأكثر حنقا، ففتحت عيني وفمي وأشرت بيدي مستفهما، فعلت منهم صيحة ثالثة فقالوا: «الحق امرأتك!» فانطلق لساني قائلا: «وكيف ألحقها؟»
অজানা পৃষ্ঠা
فاختلطت الأقوال ولم أعرف كيف أجيب. قال قائل: «الحقها عند النهر.» وقالت جماعة: «إنها غرقت.» وصاح آخرون: «قد دقت علينا الأبواب.» وقال شاب خبيث: «أتتزوج عليها؟ أما تخجل؟» فاندفع النساء يصرخن في وجهي: «يا سم! أغرق نفسك وراءها يا قاتل.»
فلم أملك نفسي وشعرت كأنني أجرمت، وعلاني خجل واضطراب، واندفعت بين الجمع فإذا بي أنساق مع تيار جارف من الناس حتى بلغنا جانب النهر، وتفرق الجمع كل في جهة، فبعضهم يجري على الشاطئ، وبعضهم يخلع نعليه فيخوض في الماء، وصاحت امرأة: «غوصوا في الماء، فإنها تحته بلا شك.» وصاحت أخرى: «بل لقد حملها التيار معه، فانحدروا أسفل النهر.»
وصاحت ثالثة سليطة اللسان: «ما لك واقفا يا جحا كالحجر؟ انزل إلى الماء وابحث عنها.»
ولكني كنت أعلم الناس بامرأتي ريمة؛ فإن الناس إذا أرادوا الغرق قذفوا بأنفسهم في الماء، وأما هي فلم يكن عندي شك في أنها تفعل غير ذلك. والناس إذا غرقوا نزلوا إلى القاع ولكنها لا يمكن أن تغوص، والتيار يحمل الغرقى معه إلى أسفل النهر، ولكنها إذا غرقت لم تنس العناد، فلا شك في أنها تجعل التيار يحملها مكرها إلى أعلى النهر. هذا ما أعرفه في امرأتي؛ ولذلك لم أبال شيئا مما قاله الناس، ونزعت نفسي من بينهم، وأخذت أعدو نحو أعلى النهر. فلحق بي شبان منهم يريدون أن يردوني إلى ناحية أسفل المجرى ظنا منهم أنني أخطأت في اتجاهي، وظن بعضهم أنني قصدت الهروب، فصحت فيهم وقد غضبت: دعوني أيها الحمقى، فأنا أعرف منكم بامرأتي، إنها إذا أرادت الغرق فلن تتجه إلا نحو منبع النهر.
وكان الموقف لا يحتمل ضحكا ولا فكاهة، ولكني سمعت من الشبان ضحكا كأنني كنت أمازحهم، فزاد غضبي، ونزعت نفسي من بينهم وجريت نحو أعلى النهر، وتركتهم في شغل من ضحكهم يعيدون كلماتي ويتفكهون بها.
ولما وجدت نفسي وحيدا سرت على مهل وتنفست مرتاحا، وجعلت أقلب وجهي في شطآن النهر، وكانت الأعشاب تغطيها غضة خضراء، والزهر يوشيها والطير يزقزق فوق أغصان الصفصاف والسرو. وكان جمال المنظر يبعثني على إطالة السير، ولم يخجل قلبي من خطرات خطرت عليه من ذكر الحبيبة ابنة علاء الدين. وفيما كنت سائرا أجيل بصري في هذا الحسن الباهر لاح لي سواد تحت شجرة على نحو مائة ذراع مني. فظننت ذلك إنسانا وقصدت إليه لعلي أرى جثة ريمة امرأتي صاعدة في النهر، وما كان أشد عجبي عندما بلغت الشجرة؛ إذ وجدت أن ذلك السواد هو امرأتي ريمة نفسها، وكانت جالسة على الشاطئ تدلي رجليها في الماء وتحك قدما على أخرى، وفي يدها قطعة من قثاء تأكلها، فلم أتمالك أن صحت بها حانقا: لقد صدق ظني!
فالتفتت إلي وكان وجهها يشع شماتة وخبثا وصاحت: أي ظن هذا الذي صدق؟
فقلت غاضبا: كل الخلق يغرقون في الماء وأنت تغرقين فوق الشط، وكل الغرقى يحملهم التيار إلى أسفل النهر، وأما أنت فإنك تصعدين إلى أعلاه.
فقامت واثبة واستعدت لهجمة من هجماتها، ولكني كنت ثائرا والشرر يتطاير من عيني، فصحت بها: هلمي!
فلم تجرؤ على مهاجمتي، وسارت ورائي في انكسار حتى عدنا إلى القوم، وكانوا لا يزالون يبحثون عنها في الماء متجهين إلى أسفل النهر خطوة خطوة، فلما رأونا مقبلين سارعوا إلينا، واختلطت أسئلتهم حتى لم أسمع منها سؤالا، فقطعت عليهم سبيل الفضول، وقلت لهم في حزم: لقد كنت أعلم منكم بامرأتي.
অজানা পৃষ্ঠা
فسكتوا ونظروا في شيء من الغيظ إلى ريمة، كأنها قد خيبت أملهم في غرقها، وسرنا في موكب متهامس حتى بلغنا ماهوش، وعدت بامرأتي إلى داري.
هذه هي امرأتي التي لا تخجل من أن تضع نفسها إلى جانب صورة ابنة السلطان؛ صورة الملك الكريم الذي أسبح معه في أعلى الملكوت مترنما بالترتيل والتسبيح. هذه هي امرأتي التي لا ترضى أن يمر بي يوم بغير أن تدخل علي حزنا جديدا. هذه هي امرأتي التي لو شئت أن أثبت على القرطاس ما أعانيه من سوء عشرتها لضاقت بي الصحف، وتكسرت الأقلام وجف المداد.
وليتها إذ تنغص علي عيشي بخلافها وسوء عشرتها تعرف شيئا من معنى الكرامة أو الصدق. لقد عرفت من النساء من يشبهنها في حمقها وشراستها، ولكني عرفتهن يندفعن مع ما فطرهن الله عليه من حدة الطبع والسلاطة، وعرفت اندفاعهن صريحا بسيطا لا التواء فيه، فلهن العذر فيما لا حيلة لهن في خلافه. ولكن ريمة امرأة تستطيع أن تضحك وأن تمرح، وهي ذات حظوة عند لكيعات أهل الحي، فإذا اجتمعت بهن أو اجتمعن بها شغلن الملائكة في إحصاء حماقاتهن، وأحفين أقلامهم في كتابة أوزارهن، وهي إذ تريد أن تملأ قلبي غيظا تدبر لغيظها تدبيرا، وتمكر وتحتال وتحكم مكائدها في براعة توحي إليها بها شياطينها.
وهي في كل مكرها تتعمد أن تذلني وأن تجعلني للناس سخرية، وتعين أشياعها من الشياطين على أن يهزءوا بي من وراء ظهري.
هذه هي ريمة امرأتي التي حكم القضاء علي أن أقيم معها تحت سقف واحد، وأن تكون لي منها ذرية تشاركنا ما نحن فيه من شقاء.
فكيف أستطيع الحياة على مثل هذا؟ لمن شرع الله الطلاق إذا لم يكن قد شرعه لمثلي ومثلها؟
أيها الناس، من كان منكم زوجا لمثل امرأتي ريمة فليطلق، لقد عزمت على الطلاق ولن أعيش مع ريمة بعد هذا أبدا.
ولكن أواه من قلبي؛ إن لي ولدين من ريمة، وما ينبغي لي أن أشقيهما بشقائي. عفوك يا عجيب ولدي، وعفوك يا جميلة ابنتي.
الفصل الرابع
كلما تذكرت ولدي كاد قلبي يتقطع رحمة لهما ورقة، ولن أقطع بيني وبين ريمة من أجلهما. إنهما بهجة عيشي لا بهجة لي غيرها سوى ذلك الخيال الذي يملأ قلبي من علية ابنة علاء الدين. فلأجعل هؤلاء عزائي، ولأتحمل ما استطعت تنكيد امرأتي وسوء عشرتها. أي جميلة ابنتي! إنك قطعة من كبدي، وحسبي أن أقول قطعة من كبدي. وأنت يا عجيب ولدي، إنك الحبيب الخبيث معا، وإن خبثك ليحلو لي وإن كنت في بعض الأحايين أضيق به ذرعا. وولدي عجيب من تلاميذ هذا العصر الحديث الذين يعتقدون أنهم ناشئة جيل جديد قد تقدم وأصاب غير ما أصابت أجيال آبائه من الذكاء والعلم، وهو مثل أبناء جيله يسيء الظن بجيل الآباء بقدر إحسانه الظن بنفسه. ولا عجب في ذلك؛ فإنه أمر تقضي به سنة الكون منذ خلق الله جيلا بعد جيل؛ فكل جيل يبدأ في تحصيل المعرفة، فيظن أنه قد أوجد تلك المعارف أول مرة، وكل منها يذوق أول طعم تجارب الحياة فيكون كل شيء عنده جديدا، فيحسب أنه قد كشف شيئا لا عهد لأحد به من قبله، فلم لا يكون ابني كذلك؟ لست ألومه على ذلك الوهم؛ فهو أمر طبيعي سبقته إليه ألوف من الأجيال، وكلما رأيته منتفخا بأوهامه تبسمت وتذكرت أحوالي إذ كنت في مثل سنه، وأرد له دين الرحمة الذي كان لأبي في عنقي. هكذا نحن نسدد ديون الآباء للأبناء.
অজানা পৃষ্ঠা
ولو كان عجيب ابني يقنع بسوء الظن بجيل أبيه لوافقته واستحسنت صنعه؛ فقد عاشرت هذا الجيل وعرفته معرفة لم تتح لابني. وكلما مرت الأيام بي زدت يقينا أن هذا الجيل خلقة شاذة من السخف والجهل. ولست أبرئ نفسي؛ فأنا كذلك خلقة شاذة من هذا الجيل، فأنا شاذ في جيل شاذ، ولكن المصيبة الكبرى أن ابني يحسن الظن بنفسه وبأبناء جيله، مع أني لا أرى إلا زيادة متصلة في التخليط والخبط.
وقد ولع ابني بما يسميه الأدب، واستهتر به استهتارا عظيما، حتى بلغ به الأمر أن صرف همه إليه، ولم يبال ما يكون حاله في مستقبل أيامه. حقا إنني لم أصنع في حياتي ما أحمده، وقد تركت نفسي أتخبط مع الأيام فلم أحسن عملا ولم أستطع شيئا، وشهدت على نفسي بأنني لا أصلح في صنعة، ولكني مع ذلك لا أريد لولدي ما جربت أثره في حياتي. على أن ولدي قد فهم من الأدب القشور وغاب عنه اللباب. رأيته يوما يشتري معجما، ثم رأيته يقبل عليه كلما وجد فراغا، فيحفظ من ألفاظه كل ما شذ واستعجم، وتعود بعد ذلك أن يستعمل تلك الألفاظ في كتابته وحديثه، وولع بعبارات يجمعها في قراءته من كل ما هب ودب من كتب هؤلاء المساكين المخدوعين الذين يحسبون أن الأدب لا يزيد على طمس المعاني وإلقاء الألفاظ سحبا سوداء عليها تجعلها غامضة مبهمة، فإذا قرأ القارئ مثل هذه الكتب لم يدرك منها معنى، فلا يسعه إلا أن يتهم نفسه ويسيء الظن بفهمه، ويدفعه اليأس إلى أن يقول مع القائلين إن هؤلاء الكتاب من نوابغ الأدب. ولقد طالما صدع عجيب رأسي بما يقذفه عليه من عبارات هؤلاء البائسين؛ فهو يتغنى بالضوء الذي يداعب أعطاف السماء، وبالنشوة التي تتمشى في الظلال الناعمة، وبالسحر الذي يتموج فوق مجالي النبضات اللانهائية. وقد كنت ليلة جالسا وحدي في حديقة داري أتمتع بضوء القمر الزاهي، فسمعت ولدي يتغنى بأبيات مما يسمونه الشعر، وكان لا بد لي أن أسمع غناءه وإنشاده؛ فقد كان الليل ساجيا ليس فيه ضجيج أحتمي فيه من السماع، وما أزال إلى اليوم أقشعر كلما مرت أصداء تلك الأغنية بخاطري، كانت شيئا لا معنى فيه ولا وزن له، ووالله لو كان ذلك شعرا لاستطاعت كل عنز في حقول ماهوش أن تكون شاعرة.
كان عجيب يتغنى بشيء مثل هذا:
الشجر والطير والسحاب
والنور والحب والضباب
فشعرت بدوار في رأسي وغصة في حلقي وصحت به: «اخرس.»
ولكن الخبيث أقبل نحوي في حماسة شديدة، وجعل يرجمني رجما متصلا بإنشاده حتى أوشكت أن يغمى علي، ولم أستطع أن أصرفه عني إلا عندما قلت له: هذا مدهش، فاذهب إلى أمك لتدخل به السرور على قلبها.
وقد عرف عجيب ابني بالنبوغ في الأدب بين لداته، وتمكن منه الوهم فاعتقد أن الله قد وهب له من فضله ما لم يهبه لسواه. وجعل يسألني عن أسماء شياطين الشعراء ليختار له واحدا من بينهم ظريف الاسم كريم السابقة.
وكثيرا ما أفضى إلي بأمله في أن يكون كبير الأدباء في جيله، فتأخذني الشفقة عليه فأهز رأسي صامتا. فليمض كما شاء الله له، ولا حيلة لي في صرفه عن وهمه، والزمن وحده كفيل بحل مشكلات الحياة. إن تيار الحياة يحمل الإنسان في سبيله كما يريد هو لا كما يريد الإنسان، ولا عجب إذا كان ابني يصبح كبير الأدباء في عصره؛ فإني رأيت العصر يصير من فساد إلى فساد، ولعل هذا الأدب الممسوخ يكون في عصره آية الإبداع في أنظار أهله، والعبرة بأبناء ذلك الزمان لا بنا نحن. ومع ذلك فإني لم أتمالك نفسي يوما أن أخوض مع ولدي في مناقشة صاخبة عندما سمعته يتحدث عن الأدب في حماسة حمقاء، فقلت له ناصحا: ماذا تريد من ذلك الذي تسميه الأدب؟ حقا إن اسمه محبب إليكم معاشر الأبناء؛ لأنكم تسمعون منا أن الأدب محمود، ولكن الأدب الذي تتحدث عنه شيء آخر. فقال لي متبرما: أتظنني لا أعرف معنى الأدب؟ لقد حفظت تعريفه على شيخي، وأنا أعرف عن عظماء الأدباء أكثر مما تظن. فضحكت وقلت: عظماء؟ يا خبر!
فقال وقد نفخ صدره: بلا شك، إنهم عظماء وخالدون، وسأكون أحد الخالدين.
অজানা পৃষ্ঠা
فقلت: إذن مت جوعا.
وما كان أشد عجبي إذ سمعته يقول: فليكن! وماذا علي لو مت جوعا إذا كنت من الخالدين بعد موتي؟ إنها ضريبة العظمة، إنها ثمن الخلود.
فنظرت إليه وهززت رأسي أسفا؛ إذ إنني أبوه الذي جاء به إلى الحياة.
ولست أدري من ذا الذي يلقي مثل تلك الأوهام في عقول هؤلاء المساكين؟ أم لعلها تنبت في الرءوس بغير أن يلقي أحد بذورها كما تنبت الحشائش على جانبي نهر ماهوش.
ولو كان أمر عجيب ولدي لا يزيد على هذا الهراء لهان الأمر عندي، ولكنه كاد يؤدي به يوما إلى الهلاك - حماك الله يا ولدي.
كنت يوما جالسا في الحديقة عند الساقية، فمر بي عجيب وكان يقرأ في معجمه، فلما اقترب مني نظر إلي باسما في خبث، وكان ظريفا فلم يعرج علي ولم ينشد لي شيئا من تأليفه ولا من محفوظه. فلما بعد عني لم تبعد صورته عن ذهني، وجعلت أفكر في حاضره وفي مستقبله، وأسأل الله له الهداية. ثم جاء صديقي أبو النور فجلس إلى جانبي وأخذنا نتحدث، فشاركني فيما كنت فيه من التفكير في أمر ولدي، ولما رآني لا أرضى له صناعة الأدب سألني في سذاجة: وهل اخترت له صناعة أخرى تكون أجدى عليه؟
فاندفعت قائلا في حماسة: ماذا تقول يا رجل؟ لقد حسبتك أعلم بالحياة من ذلك! إن كل صناعة أخرى وكل تجارة غير هذه المهنة أجدى على أي شاب يريد أن يحيا، فليكن طبيبا إذا شاء أو حجاما أو منجما، فلن يزاحمه في صناعته إلا من كان له شيء من العلم بصناعته. فالناس يفتحون أعينهم ويسألون عن الطبيب قبل أن يسلموا إليه أبدانهم للعلاج، ويسألون عن الحجام قبل أن يأذنوا له بأن يسيل الدم من عروقهم، ويسألون عن المنجم قبل أن يعطوه أجره على تضليلهم، أو فليكن فقيها فإنها تجارة رابحة ولن يزاحمه فيها إلا من كابد مشقة الحفظ وأعمى عينيه من طول القراءة، أو فليكن خبازا فالناس لا يتدسسون بين الخبازين إذا لم يكونوا قادرين على صناعة الرغيف. فليكن أي شيء من هذا أو غير هذا؛ لأنه عند ذلك يصير صاحب حرفة محدودة معروفة، لها قيود وفيها أسرار تمنعها عن الدخيل وتحميها من الدعي، ولكن لا يبلغن به السفه أن يدخل برجليه إلى تلك الرملة الخوانة التي يسمونها صناعة الأدب.
وقد نسيت في حماستي أنني أخاطب صديقي، وحسبت أنني أتحدث إلى نفسي لا يسمعني أحد غيري، ولكني شعرت فجأة بهزة في ساعدي، فتنبهت فإذا أبو النور يقول لي: أقول لك أما تسمع؟
فسكت وتلفت حولي، فطرقت أذني صرخة مكتومة كأنها خارجة من بطن الأرض، فقمت مع صاحبي نركض باحثين عن مبعث الصوت في أنحاء الحديقة فلم نجد شيئا، واتهمنا أسماعنا وعدنا إلى الساقية نلقف أنفاسنا، وهممت أن أسأل صديقي عن رأيه في الأشباح التي ترفع أصواتها في الليل، هل يمكن أن تصرخ في وضح النهار؟ وإذا بالصراخ المكتوم ينبعث مرة أخرى كأنه يصعد من تحت أقدامنا، فنظرت إلى صديقي مدهوشا وهمست: بسم الله الرحمن الرحيم.
ولكني رأيته يذهب إلى شفة البئر التي تحت الساقية وينظر من فوهتها، فسرت وراءه وأطللت برأسي، فماذا رأيت؟ كان هناك رأس ولدي عجيب فوق سطح الماء، وهو يحاول أن يسند نفسه على الجدار الأملس ويضطرب برجليه في الماء، وسمعته يصيح: الوهس! الوهس! الوحي الوحي، الجدار المتملس يحاور كفي، وسراب الماء يداعب أنفاسي، والهلاك المشمخر يراود أجلي.
অজানা পৃষ্ঠা
وكان يريد الاستمرار فخشيت عليه وصحت به: اخرس، ماذا الوهس وماذا الوحي؟ وما ذلك الذي يداعب ويراود ويحاور؟
فرفع رأسه نحوي وقال متحديا: لقد رأيت الوهس قبل سقوطي في البئر، ومعناه الجري السريع. وأما الوحي فمعناه العجل. وأما الجدار المتملس الذي يداعب يدي فهي عبارة رائعة نقلتها عن الأديب الكبير ...
وأراد المضي في قوله، فصحت به مرة ثانية: دع هذا وقل لي، أين الحبل؟ أين الحبل الذي كان هنا على بكرة البئر؟
فقال في انكسار: هو الذي انقطع بي وأهواني في ثبج ال...
فقاطعته قائلا: قلت لك اخرس.
ثم نظرت حولي فلم أجد شيئا أنقذه به، حتى وقعت عيني على عمامة صاحبي فنزعتها عن رأسه ثم نزعت عمامتي وأخذت ما حولهما من اللفائف، وساعدني صاحبي على برمها حتى صارت كالحبل شدة، ثم دليناها إلى الولد فأمسك بطرفها وتعاونا على رفعه حتى أخرجناه وهو مثل القط الغارق.
وأخذ صديقي لفافته وهو صامت فعصرها ونشرها، وأما أنا فسرت عاري الرأس مع ولدي حتى بلغنا البيت ودفعته إلى أمه قائلا: أصلحي أمره، واعتني به حتى لا يفجع الجيل الجديد في كبير أدبائه.
فنظر إلي الخبيث وهو يرتعد من البرد وكاد يرد علي جوابا لولا أن اصطكاك أسنانه لم يساعده على الكلام.
ورجعت إلى صديقي فوجدته لا يزال يهز أطراف لفافته ليجففها، فداخلني إشفاق عظيم عليه وقلت في حرارة: أشكرك يا صديقي، فلولاك لهلك ولدي.
فقال أبو النور: لم ألاحظ شبهه بك إلا اليوم.
অজানা পৃষ্ঠা
فلم أدر ماذا حدث بي عند ذلك، ولكني شعرت بالضحك يغلبني، وكان ضحكا متصلا معديا بغير شك؛ فما مضت لحظة حتى كان أبو النور يضحك معي وهو يهز أطراف لفافته بيديه.
الفصل الخامس
كنت أسير في طريق ماهوش - وما أعجب طرق ماهوش! ففيها النقيضان؛ الجمال والقبح، والغنى والفقر، والنظافة والوسخ، والفن والفوضى. ورأيت فيما رأيت كلبا مسكينا نستطيع أن نعد أضلاعه البارزة من تحت جلده، وكان كل شيء فيه يستدر الرحمة، وكان كلما اقترب منه إنسان انحرف عنه مسرعا يتمايل من الضعف، وقد وضع ذيله بين فخذيه؛ فقد تعود النفور من أشباح البشر. وكان في ركن الطريق كوم من الزبالة اعتاد الناس أن يرموا عنده فضلات منازلهم، فاتجه الكلب نحوه يطلب منه رزقا. مسكين أيها الكلب؛ فإنك لا تجد في ماهوش ملجأ آخر غير ذلك الكوم. فلما بلغ ركن الطريق رأيته فزع وتردد؛ فقد رأى عنده شبح إنسان، ولكنه لم يلبث أن هز ذيله وتجرأ على الاقتراب منه؛ إذ لم يكن ذلك الشبح سوى فتاة مسكينة مثله. فتحول نظري إلى الفتاة، وكان وجهها أسود مما علاه من القذر، ويداها كأنهما عودان من حطب، ووجهها النحيل كأنه جمجمة في مقبرة.
ونظر الكلب إليها كأنه يحييها تحية الصباح قائلا: «يا زميلتي.» فلم تخيب المسكينة رجاءه ورمت إليه بعظمة؛ نعم فلم تكن العظمة نافعة لها.
ووقف الكلب يأكل عظمته، على حين كانت الفتاة تقلب في الكوم باحثة عن قشرة فاكهة أو قطعة خبز أو خرقة من ثوب بال. ولم أستطع أن أطيل النظر إليهما، فانصرفت وقلبي يدمى، ولكني لم ألبث أن وجدت قلبي يحملني إليهما، حتى إذا ما بلغت الفتاة ألقيت إليها بدرهم كان معي، ولم أجد عندي عظمة أخرى أرميها لصاحبها. أواه! أهكذا تنطوين على القسوة يا ماهوش؟ ولما انصرفت عن الفتاة رآني رجل يجلس في حانوت فاكهاني قريب، فقال لي: ألا تعطيني درهما يا جحا؟
وكنت حزينا فلم أجبه. فأعاد قائلا: أتؤثر النصرانية؟ إنها نصرانية تلك التي رميت إليها الدرهم.
فلم أجبه إلا بنظرة أسف، ومضيت في طريقي أفكر في هذه النصرانية المسكينة. ولو ملكت أكثر من ذلك الدرهم لعدت فرميته إليها. إن الله يطل على الكون بعين الرحمة، لا يفرق بين الناس والحيوان؛ فلكل حي في هذا الوجود مكان في رحمته. وإذا نحن وقفنا بين يديه يوم الحساب لم يكن لنا أمل إلا في رحمته؛ وما أجدرنا - نحن البشر - أن نرحم، لعلنا نكون أهلا للدخول في رحاب الله. أي بلدتي الحبيبة ماهوش، ألا تحبين أن تكوني أهلا لرحاب الرحمن؟
لقد عشت ما عشت في وطني أحب هواءه وشمسه وقمره، وأتمتع بماء نهره وخضرة حقوله وغناء طيره، ولكني مع ذلك لم أستطع أن أعيش بين أهله. ويخيل إلي أحيانا أنني قد أتيت إلى هذا العالم لكي أكون عبرة لغيري. لست أصلح لشيء غير أن أعيش في خيالي هائما في عالمي، لا أبصر شيئا مما حولي، ولا أعرف لي سبيلا في هذه الأرض التي لا أرى فيها إلا صورا وأشباحا. كاد يخيل إلي أن عالم الوهم هو الحقيقة، وأن هذا العالم الذي ألمسه وأراه وأسمعه وأشمه وأذوقه ليس سوى خيال.
تصدمني الحياة كل يوم صدمة تذهلني، فأعود إلى عالمي الخيالي وأقنع بما فيه مكرها؛ لأنه هو العالم الذي أستطيع أن أعيش فيه، فإذا ما حاولت أن أقترب من زحمة الناس تبين لي عجزي ونقصي.
ولو كنت لا أحمل إلا همومي لهان الأمر عندي؛ لأنني ألقى قضاء الله راضيا. هكذا أنا، وهذا قضائي، ولا أملك إلا أن أرضى بحظي. لا أستطيع أن أكابر في نصيبي؛ فأنا لا أستحق إلا هذا النصيب عند العادل المهيمن على الكون.
অজানা পৃষ্ঠা
لو كنت لا أعاني إلا ما يجره عليه طبعي لهان الأمر عندي، ولكني كلما تلفت إلى ما مضى وما حضر من أيامي لم أجد إلا أحمالا حملتها لم يكن لي وزر فيها. كانت كلها أحمالا ألقيت على كاهلي إلقاء؛ لأنني لم أقو على ردها عن عاتقي.
وقد شبهت نفسي بصديقي العزيز «البطل الصامت» الذي يسميه الناس «حماري»؛ فهو يقضي كل حياته يحمل أحمالا ليس له في حملها مصلحة، ويقطع عمره في جهد قاطع متصل لا يصيب منه لنفسه خيرا.
لقد تعود الناس أن يسب بعضهم بعضا بوصف الحمار؛ ولهذا فلست أرضى أن أشارك الناس في سوء الأدب، فلا أسمي ذلك الحمار إلا «البطل الصامت»؛ فهذا ما يقتضيه العدل مني. والناس يعجبون مني إذا سميته كذلك ويضحكون ويسخرون ويحسبون أنني أريد أن أسوق إليهم فكاهة. يا للغباء! ولكن ما ضرني إذا هم ضحكوا وسخروا؟ فلعل هذا يدخل إلى قلوبهم شيئا من السعادة البلهاء.
إن صديقي البطل الصامت أكرم عندي من كثير من هؤلاء الذين يحملونه أحمالهم ولا يتورعون عن إلحاق الأذى به ضربا ووخزا وشتما؛ وهو مع ذلك يبذل جهده صامتا صابرا قويا، حتى إذا ما تهدم وخارت قواه برك على الأرض، وتجلد على الضرب القاسي. وهؤلاء الجيران لا يزالون كل يوم يقصدونني لكي يستعيروا مني صديقي ليحمل لهم أحمالهم، فأخجل أن أردهم، فأذهب إليه أسأله عن رأيه، فإذا بهم يضحكون مني ويحسبون أنني أمازحهم، فإذا ما رأيته صامتا لا يجيب أذنت لهم به نائبا عنه؛ فإني أعرفه صديقا كريما. ولست أظن أنني خير منه حالا؛ فإن جيراني يأتون إلي في كل يوم يسألونني أنا أن أحمل لهم أحمالهم، فلا فرق بيني وبين البطل الصامت، إلا أنني أحمل أشياء من صنف آخر غير ما يحمل. ولا أذكر يوما أن جاءني واحد منهم ليؤدي ما عليه من دين، أو ليتطوع بإحسان أو مواساة. ووالله لو تطوعوا بالإحسان إلي لما رضيت منهم إحسانا؛ فإن نفسي تأنف أن تكون يدي السفلى.
ولكني أصف الحال كما هي، وأفضي إلى هذه الكراسة بما في نفسي.
قد يكون لي على بعضهم دين فأحتاج إليه وأسعى في طلب الوفاء، حتى لا أكلف المدين مشقة السير إلى داري، فإذا عثرت عليه يوما أزاغ بصره عني كأنه لم يرني.
كانت لي عند الشيخ عماد الدين أمانة من مالي أقرضته إياها في أيام محنته، فلما عادت إليه الدنيا قلت في نفسي إن هذه فرصة لي وأنا أقاسي مر الحياة وضيقها. فلما ذهبت إليه عثرت عليه في حلقة من الناس يلقي عليهم درسا. فما وقعت عينه علي حتى أخذ يهز لحيته في عنف ويبربر كما يبربر الأسد.
ومضت ساعة حتى فرغ الشيخ من درسه، ولكن بقي حيث كان حتى أتت طائفة أخرى فتحلقت حوله. وكان الشيخ ممن يعتقد الناس فيه، فكانوا يذهبون إليه طلبا للبركة وإن لم يأخذوا علما.
فلما طال بي الانتظار ضقت ذرعا وثارت نفسي، وكنت أسمع حديثه على مضض ولا أفهم منه حرفا؛ فقد كان الرجل يلقي هراء.
ورأيت بقائي عنده سفها؛ فإن ساعة أقضيها في ضوء الشمس أجدى علي وأشرح لصدري. وثار غضبي فصحت قائلا: يا سيدي الشيخ.
অজানা পৃষ্ঠা
فنظر إلي مغضبا كأنه لا يعرفني. فزاد غضبي وثار الدم في رأسي، فقلت له: أما تعرفني؟ أما رأيت من قبل وجهي ولحيتي؟
فهز الشيخ ذقنه ولمعت عيناه لمعة مخيفة، ثم نظر إلي نظرة قصيرة وعاد إلى الحلقة يريد أن يمضي في درسه.
فغاظني ذلك وصحت به: لا بأس على هؤلاء إذا غبت عنهم ساعة يا سيدي، فتعال معي إلى الدار لترد إلي أمانتي، ولا ضير على تلاميذك أن يهز أحدهم لحيته في مكانك حتى تعود إليهم.
ولست أدري كيف أغضب الحق هؤلاء، وقد كنت أحسبهم يشكرون صنيعي، فقاموا جميعا في وجهي يشتمونني ويسفهون رأيي.
فلم أجد بدا من الخروج، ونظر الشيخ إلي شامتا، وانصرفت وتركته يهز لحيته هزا عنيفا.
وما كدت أعود إلى منزلي حتى سمعت طارقا على الباب، فقلت في نفسي: «من يكون هذا؟» وما فتحت المصراع حتى رأيت جاري جمال الدين يطل برأسه باسما؛ وقد كان آخر عهدي به يوم جاء يطلب مني البطل الصامت ليحمل له بعض التبن، فأذنت له به، ثم اتفق أن مررت بداره عند غروب الشمس فرأيت منظرا يذيب القلب حسرة؛ إذا كان من طبعه أن يذوب. رأيت البطل الصامت المسكين واقفا عند باب البيت وعليه حمل من التبن يبلغ علوه قامتين، وقد تربعت فوقه امرأته، وكان رأسها يبلغ نافذة الدور الأعلى من الدار. وكان الشيخ واقفا من وراء البطل الصامت يدفعه ويضربه ليدخله في الباب قسرا، وكان يصيح به وهو يضربه: حا حا! يا حمار الكلب. حا حا! لعنك الله ولعن صاحبك.
وكان البطل الصامت يحاول جهده أن يدخل من الباب، ولكن حمل التبن كان لا يريد أن يدخل، وكانت المرأة في أعلاه تصيح من فوق قائلة: اثن رجليه حتى يبرك فيقدر على الدخول.
فلما وقع نظري على صاحبي المسكين في تلك الحال غضبت وجريت لنجدته. ولكن جاري لم يرض عني إذ تدخلت في أمره، ثم غضب فأمر امرأته أن تنزل، وألقى الحمل عن البطل الصامت وهو يبرطم، ثم دفعه إلي في غضب.
عادت إلي تلك الصورة عندما رأيت رأس جاري يطل باسما من وراء مصراع الباب.
ولم ينتظر حتى آذن له في الدخول، فحيا ودخل وسار أمامي متجها إلى المنظرة، فلم أجد بدا من السير وراءه، ولم أملك نفسي أن نطقت بكلمات الترحيب والتأهيل.
অজানা পৃষ্ঠা