قضينا اليوم معا وكان يوما من الربيع. والربيع ما زال منذ الصبا يهزني ويطربني، ويعتريني فيه خشوع وتشملني فيه رقة، كأن زهره يتفتح في قلبي، وكأن طيره يتغنى في حنايا صدري. كان الربيع دائما يجمعني بالخليقة، ويمزجني بالوجود ويوحي إلي أسمى المعاني. ولكن الربيع في ذلك اليوم كان أكثر سحرا ونشوة.
سرت في الحديقة الصغيرة أنقل طرفي من عود إلى عود، ومن زهرة إلى زهرة، على حين جلس صديقي في ركن منها يصلي ويقرأ الأوراد. وذهبت «نجوى» إلى شئون البيت كعادتها إذ تمهن لأخيها. وقد وجدت في تأمل المخلوقات عبادة أسمى من كل عبادة؛ إذ كانت كل ورقة تملأ صدري سلاما وشكرا، وكل حشرة أفحص بنظري أعضاءها وحركتها تملأ عقلي علما وخضوعا. وقضيت في جولتي حول الحديقة الصغيرة ساعات كنت فيها أحلق في الآفاق وأهيم في الوجود من الأزل القديم إلى الأبد المقيم إلى ما شاء الله، وكان أقل ما يقع عليه بصري يفتح لي عالما لا يقل عن الفضاء الفسيح في روعته وجلال أسراره.
رأيت عنكبوتا ضئيل الجسم لم أكد أتبينه في ضوء الصباح، ورأيت بيته الواهي وقد انعقدت عليه قطرات من الندى تلمع عليها أشعة الشمس بألوان لا حصر لها ولا يستطيع اللسان وصفها، ورأيت المخلوق الصغير يتحرك ويلقي من فمه خيطا لا تبصره العين إلا إذا لمع عليه شعاع من الضوء، فمددت إليه أصبعي فعلق به، وإذا بالعنكبوت يتعلق بخيطه في طرف أنملتي ويهتز في الهواء مترجحا، ثم رأيته يتسلق الخيط حتى كاد يلمس أصبعي، فهززت يدي فإذا به يسرع فيمد من فمه غزلا رقيقا تطاول حتى صار على أكثر من ذراع مني، فملأني هذا الخلق البديع عجبا. هو آلة دقيقة الصنع عجيبة التركيب، لا تكاد العين ترى لها جرما، ومع ذلك فله أرجل وأطراف، وفيه حواس لا أدري عددها، وله أهداب وأجهزة وفم ومعدة وآلة لإفراز هذا اللعاب الدقيق الذي لا يخونه إذا امتد ولا ينقطع به إذا تسلقه. كل هذا قد اجتمع متناسقا في نقطة ضئيلة لا تكاد العين تبصرها، فسبحانك يا ألله!
وانتهى صديقي من أوراده وجلس ينتظرني. وكانت «نجوى» قد جهزت طعاما للإفطار - أتم الله عليها نعمته وأسبغ عليها فضله - فدعتني إلى الطعام. وما كان أطيبه! ثم قضينا سائر اليوم في درس وتأمل وحديث طيب وصلاة، وكان مجلسنا يفيض بنور الله، لم أحس فيه أنني معلم ألقي الدروس، بل كنت أتعلم من صاحبي أكثر مما كنت أعلمهما. كانت «نجوى» إذا تحدثت فتحت في قلبي ينابيع من الفيض فأغرق في تأملي حينا ثم أطفو وقد امتلأ قلبي يقينا. ولست أدري ما ذاك الذي كانت تحدثه في بنظراتها الوديعة. كانت تستمع لما أقول وتنظر إلي بعينيها الواسعتين الحالمتين، ثم تنطق بكلمة أو بكلمات فإذا بي أسمع معنى لم يجل من قبل بخاطري. وقد تنظر إلي صامتة فإذا بي أرى عالما خفيا من الأسرار ينفتح أمام عيني.
كانت نفسها الصالحة تتصل بالملأ الأعلى، فإذا هي نطقت أنفذت بصري الكليل إلى طرف منه، فألمح لمحة سريعة تكفي لأن تفيض علي من النور القدسي فيضا غامرا.
ولما ذهبت إلى بيتي مع وسط الليل كنت أحس أنني لا أسير فوق الأرض، بل تحملني أجنحة الملائك على متن الهواء، حتى كأن السحب قد صارت تحت مسراي، وكأن تيمور وشيعته وبطشه وخوفه كانت كلها تحت مواطئ قدمي.
ذهبت إلى منزلي وجلست على كرسي كبير لم يكن في غرفتي سواه إلى جوار النافذة المطلة على الفناء، وأشعلت المصباح ولم يكن به سوى القليل من الزيت، فجعل يتراقص ويطقطق ولا يكاد نوره يبلغ زوايا المكان. فبدت الأركان بعيدة كأنها تنتهي إلى الأفق في طرف السماء. وأغمضت عيني وأنا جالس على الكرسي لا أريد نوما، ولكني وجدت في الغمض راحة أنست إليها. فأخذتني سنة من النوم فتحت عيني بعدها على صوت سمعته يناديني. فتلفت حولي ثم نظرت إلى النافذة ورائي فرأيت شخصا واقفا قد وضع مرفقيه على حافة النافذة واتكأ بذقنه على كفيه، فوسعت عيني لأتبينه في الضوء الخافت فإذا به صاحبي «طوطاط» وبادرني قائلا: «أين كنت بالأمس؟»
فقلت له منكرا: «وما سؤالك عن هذا؟»
فنظر إلي معاتبا وقال: «لم تذهب إلى لقاء تيمور. وقد سأل عنك.»
فصحت في فزع: «تيمور يسأل عني؟»
অজানা পৃষ্ঠা