ولما استقر رأيي على هذه النية ذهبت إلى متجر عظيم لأشتري منه، فرأيت به مجموعة من تلك التحف الثمينة التي لا تصنع إلا في مدينة تبريز. فراعني جمالها وعللت نفسي بالكسب الهين والثروة الطائلة. ووقفت أتأملها، وكانت عيني لم تقع على مثلها في البهاء. كانت نقوشها كأنها خلست من زهر الربيع، وكانت ألوانها كأنها استمدت من أشعة الأصيل على أردان السحاب.
فوقفت حيالها مأخوذا لا أقدر أن أرد عيني عنها، وأجلت ناظري في محاسنها فتأملت فيها زهرة بعد زهرة، وقوسا بعد قوس، وضرب بي الخيال إلى بلاد إيران، وخيل إلي أنني أرى أنامل الفتيات وهن يعقدن عقدها، وكلما أتممن منها ورقة من زهرة أو قضيبا من غصن امتلأت قلوبهن إعجابا وزهوا، وفاضت نفوسهن تيها وعجبا. وتصورتهن يقفن دون الأنوال يتأملنها عن بعد، ويملن رءوسهن يمنة ويسرة لكي يتملين بحسنها. تصورت هاتيك الفتيات وهن عاكفات على الطنافس يعقدن فيها العقدة بعد الأخرى، يتهاتفن بالضحكات ويتشاورن بالهمسات ويتحدثن عن أحلامهن بنفوس جائشات. ثم تصورت إحداهن وقد بدا لها من وراء النافذة شخص، فتركت العقدة وأسرعت إلى النافذة تنظر من وراء «الشباك»، فتدس عينها في فرجاته الضيقة بين مخروطاتها الدقيقة لكي تتزود من حبيبها بنظرة تظل لقلبها في الليل زادا حتى يطلع الصباح. فإذا ما مر الشخص عادت الفتاة إلى الطنفسة تعقد فيها العقدة بعد الأخرى، بأنامل مضطربة، ولكن تلك الأنامل كانت تصور الزهرة الساحرة التي كنت أراها أمام عيني، رائعة الألوان، حلوة المنظر، منسجمة الأشكال. كنت أتصور هذا وأنا واقف أنظر إلى الطنافس، وقلت لنفسي ما هذه إلا خطرات نفوس وأشجان قلوب، وما يغلو على مثلها ثمن وإن غلا.
وذهبت إلى التاجر لأساومه في شرائها فوجدته حريصا عليها، ولا عجب؛ فهي جديرة أن يحرص عليها كل من يعرف لها قدرها. فزدته في ثمنها ولم أتردد في أن أبذل له ما يطمعه في بيعها. وبعد لأي سمح التاجر فدفعها إلي، ووزنت له ثمنها ثلاثمائة دينار كاملة. وحملتها وسرت بها وأنا أكاد أطير فرحا؛ فقد خيل إلي أنني فزت من الرجل بصفقة الخبير ذي القلب البصير.
ولكن ماذا وجدت من الناس؟ ذهبت أعرض الطنافس على خيار القوم، فعرضتها على القاضي فلم يكن في حاجة إليها، وعلى المحتسب فقال إنه اشترى بالأمس منها، وهكذا لم أجد في كل من عرضتها عليهم رجلا يستطيع أن يدرك أسرار جمالها. ثم عرضتها على الناس في الأسواق فكانوا يقومون إليها يقيسونها بالذراع، ويجسونها بالأيدي ويزنوها بالميزان، كأنما هي سلع مبتذلة، وليست من حرارة الأرواح ونشوة الأماني. وكانوا مع ذلك إذا اشتروها لم يعرضوا إلا البخس من الأثمان. وهكذا خرجت من تجارة الطنافس بخسارة نصف مالي. ولكني لم أجزع ولم أضعف، وعزمت على أن أختار تجارة أخرى تكون في سلعة مما يحتاج الناس إليه ولا يمكنهم أن يستغنوا عنه؛ فإن العظماء قليلون، وقد فسد الزمان وضاعت بين الناس قيم الفنون. وأما عامة الناس فلا يحصيهم العد، والبيع والشراء فيهم لا يحده حد.
وبعد تفكير واجتهاد عزمت على أن أتجر في الأغنام؛ فليس فيها قطعة واحدة لا يحتاج الناس إليها؛ فشعرها صوف وجلدها نعال، ولحمها طعام وفروتها حلية، وهي بعد ذلك كله جميلة المنظر حلوة الطباع. ولقد كنت دائما أحبها وأطعم ما أقتنيه منها بيدي، وأداعبه كما أداعب ولدي. ولقد أبدع الله خلقتها، فما ترى فيها من عيب، سبحان من جلت قدرته وعظمت حكمته وبدعت صنعته. ولكن كل هذا لم يجعل تجارة الأغنام رابحة؛ فقد كنت أشتريها وأنا راض بثمنها. كنت أعطي الدنانير المعدنية ثمنا لخلقة حية، كنت أعطي صاحب الشاة حجرا أصم وآخذ منه حياة بديعة الخلق. ولكن الناس إذا أتوا لشرائها مني لم ينظروا إليها بعيني، فكانوا يدفعونها في غلظة ويجسونها في شراهة. كان لعابهم يسيل وهم يقلبونها بأيديهم كأنهم سباع تتأمل الفريسة، فإذا اشتروها لم يشتروها إلا بعد مماكسة ومراجعة ومساومة فيها لجاجة وجشع.
وهكذا لم أخرج من تجارة الأغنام إلا بخسارة نصف ما بقي من مالي.
هكذا استمر بي الحال وأنا أتنقل من تجارة إلى تجارة، ومن سلعة إلى سلعة، وكل منها يقتطع نصف ما بقي عندي، حتى لم يبق لي إلا دراهم معدودة، فلم أجد شيئا أشتريه إلا بيض الدجاج. وفي الحق أن البيض سلعة نظيفة جميلة الصورة بيضاء اللون لها هندسة عجيبة في شكلها، ورونق رائع في جملتها. ليس في الأشياء ما يدخل الفرح على القلب مثل البيضة إذا وجدتها في ركن بيت الدجاجة، كأنها عند ذلك كنز من الجوهر. ولكن البيض لم يكن خيرا من كل ما سبقه؛ فقد كنت أشتري التسع منها بدرهم؛ بدرهم واحد. وكانت كل بيضة منها عندي أثمن من كل ما عندي من الدراهم. ولكن الناس كانوا إذا أتوا للشراء لم يدركوا ما في البيض من جلال الخلقة وجمال الصورة وإبداع الهندسة، بل ينظرون إليه في الضوء، وينقدونه نقد الصيرفي للدينار، كأنه شيء لا تتجلى فيه قدرة الخالق المبدع الذي برأ الأكوان، فكان الأمر ينتهي بي دائما إلى أن أبيع العشرة منه بالدرهم الواحد، حتى ابتلع السوق كل ما بقي من دراهمي.
وأنا اليوم أتلفت حولي فلا أجد إلا يدا فارغة، وبيتا خاويا، ولا أزال أنتظر الفرج ولا يزال عني متباعدا.
أي رب، هذا أنا ضربت في الأسواق ولم أعص مشورة القاضي، لم أقعد ولم أتخاذل، ولكني هذا عبدك لا أملك مالا ولا أجد رزقا كأنما كنت في غيبة عند توزيع الأقسام. أستغفر الله من قولي، أستغفرك يا من وسع عفوك الآثام.
لقد كاد الشك يداخلني، فلأعد إلى صورة الحبيبة التي أسمو معها إلى السماء لعلي أكفر هناك عن خطئي في التسبيح العلوي والترتيل.
অজানা পৃষ্ঠা