فإما أن يكون اطلع على كلام النخعي وحمله على الكراهة. فلذلك (١) نفى النزاع في جوازه، وإما أن يكون لم يطلع عليه، ومراده: أن يستصحب الأصل في كلا الموضعين، لأن الأصل بقاء الشهر المتيقن وجوده وعدم دخول الشهر المشكوك في دخوله (٢)، فكذلك هنا إذا شك في دخول ذي الحجة (٣) بنى (٤) الأمر على إكمال ذي القعدة، لأنه الأصل، ويصام يوم عرفة على هذا الحساب، وهو تكميل شهر ذي القعدة.
ولكن من السلف من كان يصوم يوم الشك في أول رمضان احتياطيا (٥)
وفرق طائفة منهم بين أن تكون السماء
_________
(١) في ''م '': ''فذلك ''.
(٢) انظر كلام شيخ الإسلام ابن تيمية الذي سبق نقله في التعليق السابق.
(٣) في ''ع '': '' شهر ذي الحجة''.
(٤) في ''م '': و''ق '': ''مبنى''.
(٥) روى الوليد بن مسلم عن ابن ثوبان عن أبيه عن مكحول أن عمر كان يصوم إذا كانت الشمس في تلك الليلة مغيمة، ويقول: '' ليس هذا بالتقدم، ولكنه التحري ''. انظر زاد المعاد ٢ / ٤٣، وقد سقط منه لفظة: ''بن ''، قال شيخنا عبد العزيز بن باز في بعض دروسه: '' لا يعرف ثوبان عن أبيه '' ومال إلى أن صوابه: '' ابن ثوبان عن أبيه ''. وهذا هو الصحيح، كما في كتب الرجال وهذا الإسناد ضعيف، فيه علتان: الأولى: ابن ثوبان- وهو عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان- فقد اختلف في توثيقه، قال الإمام أحمد: ''أحاديثه مناكير''، وقال صالح بن محمد: '' صدوق، وأنكروا عليه أحاديث يرويها عن أبيه عن مكحول ''، وقال أبو حاتم: ''ثقة، تغير عقله في آخر حياته وهو مستقيم الحديث ''. ينظر تهذيب التهذيب ٦ / ١٥٠، ١٥١. والثانية: مكحول لم يدرك عمر، فهو منقطع، وقد أعله به العراقي في طرح التثريب ٤ / ١١٠
وروى الشافعي في الأم ٢ / ٩٤، ومن طريقه الدارقطني ٢ / ١٧٠، والبيهقي ٤ / ٢١٢ عن الدراوردي عن محمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان عن فاطمة بنت حسين أن رجلا شهد عند علي ﵁ على رؤيته الهلال، فصام، وأحسبه أمر الناس أن يصوموا، وقال: '' أصوم يوما من شعبان أحب من أن أفطر يوما من رمضان ''. وإسناده ضعيف، الدراوردي في روايته ضعف، وفاطمة بنت حسين لم تدرك جدها عليا ﵁، فهي من صغار التابعين. انظر الثقات ٥ / ٣٠٠، ٣٠١، تهذيب الكمال لوحة ١٦٩٢. وقال في المجموع ٦ / ٤٠٣: ''قال العبدري: ولا يصح عنه ''، وقال في التخليص: ٢ / ٢١١: '' فيه انقطاع ''. وقال العراقي في طرح التثريب ٤ / ١١٠: '' وهو منقطع ثم إنه إنما قاله عند شهادة واحد على رؤية الهلال لا في الغيم ''. وانظر نيل الأوطار ٤ / ٢٦٦، ٢٦٧.
وروى أبو داود ٢ / ٢٩٨، رقم (١٣٢٩)، ومن طريقه البيهقي في الكبرى ٤ / ٢١٠، ٢١١ عن المغيرة بن فروة عن معاوية ﵁ قال: إنا قد رأينا الهلال يوم كذا وكذا، وإني متقدم بالصيام، فمن أحب أن يفعله فليفعل. وإسناده ضعيف. '' المغيرة بن فروة '' لم يوثقه غير ابن حبان. انظر الثقات ٥ / ٤١٠، وتهذيب التهذيب ١٠ / ٢٦٨. والحديث في ضعيف سنن أبي داود.
وروى الإمام أحمد-كما في زاد المعاد ٢ / ٤٤- عن المغيرة حدثنا سعيد بن عبد العزيز قال: حدثني مكحول ويونس بن ميسرة بن حلبس أن معاوية بن أبي سفيان كان يقول: '' لأن أصوم يوما من شعبان أحب إلي من أن أفطر يوما من رمضان ''. وإسناده ضعيف، سعيد بن عبد العزيز- وهو التنوخي- اختلط بآخره. انظر الكواكب النيرات ص ٢١٣- ٢٢٠، والمغيرة لم يتبين لي من هو، ومكحول لم يدرك معاوية، أما يونس بن ميسرة فقد اختلف في سماعه منه، والأقرب أنه سمع منه، فقد قتل سنة ١٣٢ هـ، وعمره ١٢٠ سنة، فيكون عمره وقت وفاة معاوية ٥٨ سنة وهو دمشقي. وقد جزم يحيى بن معين بسماعه منه. انظر تهذيب الكمال لوحة ١٥٧١.
ورواه ابن الجوزي في العلل المتناهية ٢ / ٣٨ من طريق مكحول به بنحو الرواية الأولى. وهو منقطع، مكحول لم يدرك معاوية.
وروى الإمام أحمد أيضا- كما في زاد المعاد ٢ / ٤٤- عن زيد بن الحباب أخبرنا ابن لهيعة عن عبد الله بن هبيرة عن عمرو بن العاص أنه كان يصوم اليوم الذي يشك فيه من رمضان وابن لهيعة مختلف فيه، وعبد الله بن هبيرة لم يذكر له سماع من عمرو، وكان عمره وقت وفاته يقرب من عشر سنين أو يزيد عليها قليلا، وهو مصري. انظر تهذيب التهذيب ٦ / ٦١، ٦٢.
وروى الإمام أحمد- كما في زاد المعاد ٢ / ٤٤- عن عبد الرحمن بن مهدي حدثنا معاوية بن صالح عن أبي مريم مولى أبي هريرة قال: سمعت أبا هريرة يقول: لأن أتعجل في صوم رمضان بيوم أحب إلي من أن أتأخر، لأني إذا تعجلت لم يفتني، وإذا تأخرت فاتني. وإسناده حسن، رجاله ثقات، عدا معاوية بن صالح- وهو الحضرمي- فهو صدوق له أوهام، كما في التقريب ص ٥٣٨، وقال الخطيب- كما في المجموع ٦ / ٦٣٢: '' وأما ما رويناه عن معاوية بن صالح عن أبي مريم- فذكره- ثم قال: فرواية ضعيفة لا تحفظ إلا من هذا الوجه، وأبو مريم مجهول، فلا يعارض بروايته ما نقله الحافظ من أصحاب أبي هريرة عنه '' ا. هـ. وما ذكره من جهالة أبي مريم غير مسلم، فقد وثقه العجلي، ونقل الإمام أحمد عن أهل حمص أنه معروف عندهم، وأنهم أحسنوا الثناء عليه. انظر تاريخ الثقات ص ٥١٠، وتهذيب التهذيب ١٢ / ٢٣١، ٢٣٢.
وقد روى البيهقي هذا الأثر في سننه الكبرى ٤ / ٢١١ من طريق زيد بن حبان عن معاوية بن صالح به بنحوه، وروى الإمام أحمد كما في زاد المعاد ٢ / ٤٣، ٤٤ عن إسماعيل بن إبراهيم حدثنا يحيى بن أبي إسحاق قال: رأيت الهلال إما الظهر وإما قريبا منه، فأفطر ناس من الناس فأتينا أنس بن مالك، فأخبرناه برؤية الهلال وبإفطار من أفطر، فقال: إني صائم غدا فكرهت الخلاف عليه، فصمت، وأنا متمم يومي هذا إلى الليل. وإسناده حسن، رجاله ثقات، عدا يحيى بن أبي إسحاق- وهو الحضرمي- فهو صدوق ربما أخطأ كما في التقريب ص ٥٨٧. وقال الخطيب بعد ذكره لهذا الأثر: '' قال المخالف: ولا يتقدم أنس على صوم الجماعة إلا بصوم يوم الشك. فيقال له: قد قال أنس إنه لم يصمه معتقدا وجوبه، وإنما تابع الحكم بن أيوب- وكان هو الأمير- على الإمساك فيه، ولعل الأمير عزم عليه في ذلك فكره مخالفته، والمحفوظ عن أنس أنه أفطر يوم الشك، كذا روى عنه محمد بن سيرين وحسبك به فهما وعقلا وصدقا وفضلا'' انظر المجموع ٦ / ٤٣٢، ٤٣٣.
وقد روى عبد الرازق في مصنفه ٤ / ١٥٩، رقم (٧٣١٧)، وابن أبي شيبة ٣ / ٧١ من طريق محمد بن سيرين عن أنس رواية تدل على أنه أفطر يوم الشك. وإسناده صحيح رجاله رجال الشيخين.
وروى الطبراني نحوه من طريق محمد بن كعب القرظي. وصحح إسناده الهيثمي في مجمع البحرين ٣ / ١٠٣.
وروى البيهقي في سننه ٤ / ٢٠٩ نحوه من طريق همام عن قتادة.
وروى الإمام أحمد عن روح بن عبادة عن حماد بن سلمة عن هشام بن عروة عن فاطمة عن أسماء أنها كانت تصوم اليوم الذي يشك فيه من رمضان. انظر زاد المعاد ٢ / ٤٥. وقد تصحف فيه ''روح بن عبادة'' إلى ''روح بن عباد'' وقد صوبه شيخنا عبد العزيز بن باز في بعض دروسه. إسناد هذه الرواية متصل، ورجاله ثقات، إلا أن حماد بن سلمة تغير حفظه بآخره.
وقد تابع حماد يحيى بن ضريس عند البيهقي في الكبرى ٤ / ٢١١ فتتقوى رواية حماد بهذه المتابعة.
وروى سعيد بن منصور كما في زاد المعاد ٢ / ٤٥ عن يعقوب بن عبد الرحمن عن هشام بن عروة عن فاطمة بنت المنذر قالت: ما غم هلال رمضان إلا كانت أسماء متقدمة بيوم، وتأمر بتقدمه. وإسناده صحيح، رجاله رجال الصحيحين.
وقد حكي صيام يوم الشك أو القول بصيامه عن سالم بن عبد الله وعمر بن عبد العزيز ومجاهد وطاوس وأبي عثمان النهدي ومطرف بن الشخير وميمون بن مهران وبكر بن عبد الله المزني، وابن أبي مريم. انظر المغني ٤ / ٣٣٠، والمجموع ٦ / ٤٠٨، وزاد المعاد ٢/ ٤٢، وطرح التثريب ٤ / ١١٠، والمنح الشافيات ١ / ٢٨١. وانظر التعليق الآتي.
1 / 23