لقد وصل صوت كفاحنا وأنين عذابنا، كفاح الشعب وأنينه، وليس كفاح الأدباء وأنينهم، إلى باريس، وصار الطلبة والشباب يرددون صداه وينبهون الضمير الفرنسي عنه، أما نحن في القاهرة فنلتزم الصمت، ثم يتغنى شعراؤنا بالجمل الذي فر من المجزر وصار يقطع شارعا بعد شارع حتى دخل قصر عابدين ولجأ إلى عدل الفاجر فاروق حتى لا يذبح!
الأدب العربي القديم لا يلهمنا
أسوأ ما أعاني ليس السباب أو الخبث، وإنما هو الجهل، أعني الجهل بقيمة الثقافة العصرية، والعلم، والحضارة الأوروبية، وهذا الجهل يصدمني أحيانا كما لو كان حجرا يشق رأسي، فأحس دوارا لا أعرف معه كيف أنطق أو أكتب.
ذلك أن في مصر طائفة تعتمد على أنها تعلمت الأدب، وحذقت أصوله، وأن لها الحق في أن تعين وتقرر ما هو الحسن وما هو السيئ فيه، ومعتمد هذه الطائفة هو الأدب العربي القديم الذي ينأى عن القيم والأوزان الإنسانية العصرية؛ إذ هو أدب الترف الذهني كما يقول الدكتور طه حسين وكما يفهم هو عن معنى الأدب عامة، وهو أدب التسلية للملوك والأمراء، وهو أدب اللذة الجنسية، السوية والشاذة، وهو أدب المنازعات الحربية أو المناقشات الدينية.
هو كل ذلك، ولكنه ليس أدب الشعب الذي يكافح من أجل الحرية والاستقلال، وليس أدب الإنسانية الذي يحمل همومها ويعبر عنها بالقصة والشعر والمقال، بل كذلك ليس هو الأدب الذي يدعونا إلى احترام المرأة وحبها.
ونحن حين نأخذ بهذه المعاني نجد هذه الطائفة التي أشرنا إليها - أي التي لا تعرف غير الأدب العربي القديم - تنهض لمكافحتنا، وهي تكافحنا بالأساليب القديمة، وهي أننا متعصبون، نكره العرب، أي «شعوبيون»، أو نكره الدين، أي ملحدون، والتهمتان كلتاهما تعودان إلى القرنين الثاني والثالث للهجرة، كأن هذه الأسلحة القديمة لم تتغير، وكأننا في القرن العشرين ما زلنا نهتم بالمعارك القديمة ونستعمل الأسلحة القديمة، وكأن معاني الإنسانية، والحرية، والاستقلال، والتطور، ورشد المرأة، وحقوق العيش ... كل هذه لا قيمة لها.
لقد اتهمني الدكتور طه حسين بالشعوبية أو كاد، وكأنه نسي كفاحي لأجل الشعب ضد فاروق الفاسق، هذا الفاروق الذي وقف الدكتور طه حسين نفسه في حرم الجامعة، ومن منبرها، يخاطبه بالصوت العالي بقوله: «يا صاحب مصر»!
واتهمني عباس محمود العقاد بأني لست عربيا، وهو يعني أني قبطي؛ حتى يستنتج القارئ المسلم ما يشاء، مع أنه هو - وهو التركي النوبي - وصف فاروق بأنه فيلسوف، بل أعظم الفلاسفة!
كان العقاد وطه حسين يصفان فاروق بهذه الأوصاف، حين كنت أنا في السجن أنتظر المحاكمة بتهمة قلب نظام الحكم ... أي إيجاد جمهورية بدلا من الملوكية المتعفنة!
وكلاهما - طه حسين وعباس العقاد - يكبران من شأن الأدب العربي القديم، وكلاهما ألف عنه مع الإعجاب، ولست أعارض في هذا، وإنما موقفي من هذا الأدب أنه لا يلهمنا، أي لا يلهم الكاتب، كما أنه لا يرشد القارئ إلى الحياة السامية، أي إلى العظمة، بل إني أعتقد أنه لولا انغماس العقاد وطه حسين في الأدب العربي القديم لما خاطب طه حسين فاروق بكلمتي: «يا صاحب مصر» ولما وصفه العقاد بأنه فيلسوف؛ ذلك لأن الأدب العربي القديم هو - إلى حد بعيد - أدب الملوك، وقد استلهمه العقاد وطه حسين في وصف الملك السابق فاروق، ولو أن هذا الأدب كان أدب الشعب، أدب الإنسانية، أدب المجتمع، أدب العامة، أدب التفاؤل، لما نطق أحدهما بما نطق من كلمات المديح الكاذب لفاروق.
অজানা পৃষ্ঠা