وأيما أديب لم يثر على الاستعمار والاستبداد، وأيما أديب لم يحس النار تأكل أحشاءه، بل أكاد أقول: أيما أديب لم يفقد وجدانه وينسى الحذر ويزج به في السجن وهو يكافح ظلام الإنجليز ونذالة الخديويين والملوك في مصر؛ لا يمكن أن يوصف بالشرف.
ذلك أن أدبنا كان يجب منذ 1882 أن يكون شعبيا ثوريا، يكافح بالفكرة والكلمة هؤلاء المستعمرين والمستبدين، وكان يجب أن يكون على الدوام مع الشعب، يقف مع الفلاح الذي يحمل الفأس، والحوذي الذي يسوق فرسيه، والصانع الذي يصوغ الأثاث، والطالب الذي يعجز عن أداء المصروفات، والموظف الذي يعمل طول النهار لقاء جنيهات لا تكفي طعام أولاده. •••
ليس الأدب أن نصف كأسا من الخمر في بيت من الشعر، ونقارن هذا الوصف بأبيات أخرى قيلت في هذا المعنى، وليس الأدب أن نصف القصور وأبهة العروش، ولم يكن من الأدب أن نصف فاروق بالحكمة والسداد، وليس الأدب أن نقول: هنا جناس، وهنا طباق.
ولقد عشت حياتي وأنا أفهم أن الأدب كفاح؛ ولذلك كنت أحس المسافة الشاسعة التي تفصل بيني وبين بعض الأدباء المعاصرين في مصر، كانوا أدباء الجناس والمجاز، وكنت أديب البرنامج والهدف والحياة، وكانوا يستلهمون الماضي، وكنت أستلهم المستقبل.
لقد كنت - وما زلت - أكتب لأولئك الشبان، والموظفين، والمحامين، والكناسين، والأطباء، والحلاقين، وعمال المصانع المتنبهين، والنساء الجديدات العاملات، وجميع أولئك الأشراف الذين لا يعيشون سدى ولا يكسبون قوتهم بالباطل، وإنما يتعبون ويكدون كي ينتجوا سلعة أو يؤدوا خدمة، هؤلاء هم قرائي الذين أغذوهم بالفكرة والنظرة والنبرة، وأعين لهم السلوك والهدف، وأقدم لهم الغذاء الذي يبني، وليس تلك الحلويات التي ترفه عنهم السأم بالأبيات والجمل المزيزة يتلمظون بها في خواء النفس ورخاوة العقل.
والآن دعوني أبكي ...
كنت في يوم 23 فبراير من السنة الماضية (1952) أمشي في أحد الشوارع في باريس، وإذا بشاب لم يكد يخرج عن سن الصبا يقترب مني وهو يعدو ثم يناولني ورقة، أخذتها وجعلت أقرؤها.
ولشد ما صعقت عندما قرأت فيها أن رابطة الطلبة في باريس تعلن سخطها على الاستعمار البريطاني في مصر بمناسبة الصدام الذي وقع بين الطلبة المصريين والجنود الإنجليز يوم 23 من فبراير من عام 1946.
قرأت وأحسست دوارا، فارتميت على كرسي في مقهى قريب، وجعلت أتأمل وأتنهد.
نحن في مصر نضرب بالسياط، ونقتل بنار البنادق، ثم نحرم حتى الاحتجاج، وهؤلاء الطلبة يحتجون من أجلنا!
অজানা পৃষ্ঠা