ولقد تزاحم الناس وتدافعوا بالمناكب حول البيت الأبيض وفي قاعته؛ ليروا هذا القائد الذي تعلق عليه بعد زعيمهم الآمال، ولقد علق جرانت على هذا اللقاء العظيم بقوله: «هذه معركة أشد حرا مما شهدت في الميادين من معارك.»
وبعد أن درس القائد خططه المقبلة مع الزعيم ورجاله، استأذن في الرحيل، فطلب إليه الرئيس أن يبقى قليلا ليحضر وليمة أعدتها زوجته له، ولم يكن يعلم الرئيس بها من قبل ليدعوه إليها، فاعتذر عن عدم قبوله بقوله: «حسبي ما لاقيته من تلك المظاهر أيها الزعيم.» وفرح الزعيم أيما فرح بما يسمع، فما يهدم الرجال شيء في رأيه أكثر مما يهدمهم الغرور.
ورحل جرانت إلى الميدان وقد زوده الرئيس بقوله: «أنت رجل همة وعزم، ولست أريد - وقد سرني منك ما تقول - أن أضيع وقتك أو أن أضع في طريقك ما يعوقك، وإذا كان في طاقتي أي شيء يمكنني أن أمدك به فدعني أعرف ذلك. والآن سر في عون الله على رأس جيش باسل وفي سبيل قضية عادلة.» •••
برز جرانت إلى الميدان وفي نفسه من العزم بقدر ما في فؤاده من الأمل، وكأنما سرت عزيمته إلى قواده وجنوده؛ فما منهم إلا من وطد النفس على أن يخوض أهوال القتال إلى النصر، ونبغ من هؤلاء البواسل قائدان صار لهما في هذه الحرب خطر عظيم؛ وهما شيرمان وشريدان.
وزحف جرانت بجيشه في مايو سنة 1864، وكانت خطته أن يواصل الزحف ما وسعه القتال حتى يأتي رتشمند عاصمة الجنوبيين فيحصرها، ولقد لازمه النصر في هذا الهجوم على الرغم من مقاومة أعدائه، وما زال يدفعهم أمامه حتى أصبح على مقربة من عاصمتهم، وكانت تصل أنباء انتصاره إلى العاصمة فتهزها هزا، وكان الناس يجتمعون حول البيت الأبيض فيطل الرئيس عليهم ويخطبهم، وقد سره أن ذهب عنهم الروع.
وكذلك سار شيرمان مبتدئا من الغرب، وراح يدفع أعداءه أمامه، وإنهم لينازعونه الأرض شبرا شبرا ويعركون جيشه عركا شديدا، حتى واتاه النصر عليهم في اليوم الثاني والعشرين من شهر يوليو، فسقطت في يده مدينة أتلنتا بعد أيام، وهي موقع حصين ومركز حربي خطير، وكان على رأس الجنوبيين في تلك الجهة قائدهم هود، وهو من ذوي البأس، ولقد لم شمل جيشه وخاض الحرب مرة أخرى ولكنه ما لبث حتى عاودته الهزيمة. وسر الرئيس وأصحابه أيما سرور بانهزام هود وجنوده فلقد كانوا يوجسون منه شرا.
ونشط الشماليون في البحر وضيقوا الخناق على أعدائهم، وشدوا الوثاق فأذاقوهم لباس الجوع والخوف، وكانت سيطرة فراجت على البحر وثيقة، فكان موقفه بذلك من أكبر عوامل النصر.
وراح جرانت يبذل كل ما في وسعه ليحيط بالقائد الكبير لي، فإنه يدرك أن تطويقه خير وسيلة لهزيمته وإجباره على التسليم، وكان يدرك جرانت أن عدته وجنده أوفر مما هو لدى عدوه منهما؛ ولذلك عول أن يشد عليه الوثاق.
وكان لنكولن وأصحابه يتلقون هاتيك الأنباء الطيبة فتطمئن نفوسهم، ولكن الرئيس كان لا يفتأ يبدو مهموما ضائق الصدر، وكيف يطيق قلبه الكبير أن يعلم نبأ هاتيك الضحايا دون أن يتحرك؟ لقد كان يجزع أشد الجزع لمرأى الأمهات والزوجات يقفن في طريقه أو يتجمعن حول البيت الأبيض متسائلات، وإنه ليسأل الله أن يجعل للناس من هذا البلاء مخرجا.
وبينما كانت جرانت وشيرمان يروعان بجيشهما أهل الجنوب على هذه الصورة، إذ زحف أحد قواد الجنوب - ويدعى إيرلي - زحفا مباغتا على وشنطون حتى بات منها على سبعة أميال! ولقد كان عمله هذا من أسوأ ما لاقته المدينة في هذه الحرب، فما أقبح الخوف بعد الأمن! وما أوجع الغم بعد الفرح!
অজানা পৃষ্ঠা