أما الذين عرفوا لنكولن وخبروا خلاله، فما خالطهم شك في أنه الرجل الذي ليس غيره في الرجال تكون على يده السلامة ويتم الخلاص. والحق لقد خلقت الحوادث هذه الأزمة، وخلقت في الوقت نفسه الرجل الذي ينهض لها، والذي لا يقوى على حمل أعبائها سواه، ولو لم يكن في أمريكا يومئذ ذلك الرجل الذي أخرجته أحراجها، لتغير تاريخها باتخاذه وجهة غير التي سار فيها .
وإنا لنرى في أبراهام أحد الأفذاذ الذين يبرهنون بأعمالهم على فساد الرأي القائل بأن الظروف هي التي تكون العظماء؛ فهذا رجل نجم عن أبوين فقيرين، ودرج بين أحراج الغابة وألفافها، فلما واجه الحياة وأخذ يعول نفسه، راح يشق طريقه في زحمتها ومفاوزها كما كان يشق طريقه بين الأدغال، ولا عاصم له مما كان يحيط به إلا عزيمته وفتوته.
راح أبراهام يستقبل الحياة ويمشي في مناكبها، وكأن الظروف كلها من عدوه، فما زال يغالب الظروف وتغالبه ويعركها وتعركه، حتى بلغ موضع الرياسة في قومه دون أن يستمد العون مرة من أحد، أو أن تكون له وسيلة من جاه أو مال أو حظوة عند ذي قوة، أو غير هذا وذاك مما يبتغي به الناس الوسائل إلى ما يطمحون إليه من غايات.
ولما أن بلغ هذا الموضع كانت البلاد تتوثب فيها الفتنة ويتحفز الشر، فكانت الظروف يومئذ كأسوأ ما تكون الظروف، ولكنه على الرغم من ذلك سار إلى غايته غير خائف ولا وان ولا منصرف عن وجهته إلى وجهة غيرها، حتى عقد له النصر وتم له أداء رسالته.
وكيف لعمري تخلق الظروف العظماء؟ وكيف يسمى عظيما ذلك الذي تخدمه الظروف، فلا يكون له من فضل إلا ما يجيء عن طريق المصادفة؟ ألا إن العظيم الحق لهو الذي تخاصمه الظروف فينجح على الرغم مما تكيد به الظروف، وتتجهم له الأيام فيقدم على العظائم على الرغم من تجهم الأيام، وتعترضه الصعاب الشداد، فلا تثني عزيمته أشد الصعاب، بذلك تكون الظروف هي التي تخلق العظماء، فيكون الرجل الذي يظهر عليها ويظفر على الرغم منها هو العظيم، ويكون في ذلك كالدر تظهر النار حقيقة جوهره.
لبث أبراهام في الفندق ينتظر حتى يتخلى له بوكانون الشيخ عن قيادة السفينة، وكان أبراهام يستمع إلى دوي العاصفة يزداد يوما بعد يوم، فيتلفت فلا يرى حوله غير سيوارد، ولكن سيوارد لا يلبث أن يدب بينه وبين صاحبه خلاف شديد، فلقد كبر على سيوارد ألا يشاوره أبراهام في الخطبة التي أعدها ليوم الاحتفال، وكان قد كتبها قبل أن يسافر من سبرنجفيلد.
وعلم أبراهام بالأمر فألقى بالخطبة بين يدي صاحبه، فاقترح عليه سيوارد أن يغير فيها أشياء وأن يضيف إليها أشياء، فلم ير أبراهام رأيه، على أنه قبل أن يضيف إلى الخطبة خاتمة كتبها سيوارد وتناولها أبراهام بالتغيير، ليلتئم أسلوبها مع أسلوب الخطبة، وظن أبراهام أنه أرضى بذلك صديقه، ولكنه فوجئ في اليوم السابق ليوم الاحتفال بكتاب من عند صاحبه، ينبئه فيه أنه يتحلل من وعده الذي سبق أن قطعه على نفسه بالاشتراك معه في الحكم! وطوى أبراهام الكتاب متألما مكتئبا؛ ألا ما أشد عنت الأيام! حتى سيوارد ذلك الذي ليس غيره ترجى منه المعونة تكون من جانبه العقبات؟
وأشرقت شمس اليوم الرابع من مارس عام 1861، وكان يوما من أيام الربيع طلق المحيا رخي النسائم، فخرج الناس يشهدون موكب الرئيس الجديد، وكان موكب الاحتفال بولاية الرئيس من أعظم ما تهتم به البلاد، وهو في هذه المرة أجل قدرا منه في كل ما سلف من الأيام؛ وذلك لما كان يحيط بولاية أبراهام من معان تجيش بها نفوس الخصوم والأنصار!
وقضى أبراهام صباح ذلك اليوم يقرأ خطبته ويهذبها بالحذف والإضافة، حتى متع النهار فجاء الرئيس بوكانون في عربة إلى الفندق، فركب إلى جانبه أبراهام والناس على جانبي الطريق إلى الكابتول، تقع أعينهم على الرجلين، فهذا هو الرئيس القديم يشيع في رأسه الشيب، ويبدو على بدنه ومحياه الهزال من أثر السنين، ومن أثر ما حمل من عبء أوشك أن يلقيه عن كاهله، وقد أربى اليوم على السبعين، وهذا هو الرئيس الجديد يبدو فتيا قويا وهو يومئذ في الثانية والخمسين، هذا هو الرجل القادم من الغرب! هذا هو ابن الغابة! تملأ الأعين قامته الطويلة التي تلوح أكثر طولا إلى جانب صاحبه الشيخ الضئيل الجرم، وهو يرتدي اليوم حلة ما ارتدى مثلها من قبل، حلة ارتضتها له ماري وهيأتها لذلك اليوم، ثم هو يقبض على عصا جميلة أنيقة بيده الضخمة التي أكسبها في صدر أيامه حمل المعول كبرها وخشونتها.
وضاقت الناس بالطرقات، وكان رجال الشرطة قد أبعدوا الجموع قليلا عن حافتي الطوارين، وقد أمرهم كبيرهم ألا يسمحوا بأي عبث بالنظام مهما خيل إليهم أنه تافه، وكان كبير الشرطة يخاف أن تمتد أيدي الآثمين إلى الرئيس بالعدوان؛ إذ كانت الإشاعات قد اتخذت مجراها في كل سبيل، وملأ الهمس بها الآذان ووجفت من هول ما تتصور الجريمة قلوب الكثيرين من المخلصين.
অজানা পৃষ্ঠা