وكان يخفف عنه عبء حياته إقباله على مهد ابنه وتطلعه بخياله، وهو ينظر في وجه ذلك الابن إلى اليوم الذي يستطيع فيه أن يحمل الفأس أو البندقية إلى جانبه في الغابة، فيكون له خير عون على مشاق الحياة التي كان يحياها بين الأحراج؛ وما كان له في ابنه أبعد من هذا الأمل أو ألذ منه، وماذا عسى أن يرجو النجار الذي يعمل وحيدا في الغابة من ابنه الأول غير هذا الرجاء الحلو؟!
درج الطفل في هذا الكوخ حتى بلغ الرابعة من عمره، تلك السن التي لا يفتأ فيها الأطفال يسألون عن كل ما يحيط بهم، ولكنه لم يجد حوله كثيرا مما يجتذبه ليسأل عنه؛ فهذه فأس أبيه التي يقطع بها الأخشاب، وهذه بندقيته التي يراها على كتفه كلما عاد من الغابة وفي يده صيد، على أنه يرى أباه أحيانا وقد أتم صنع بعض الكراسي وبعض الأسرة الخشبية، ويراه يحملها إلى حيث تستقر في أكواخ بعض الجيران، فيعجب لذلك ويتساءل، ولا يكاد يفهم ما يلقى إليه من إجابة!
وكانت الغابة أو كان الجانب المحيط منها بالكوخ هو نهاية ما يصل إليه خيال الطفل يومئذ من هذا الوجود، وحسبه الآن من الوجود أن يلعب في هذا الجانب من الغابة، وإن لم يكن له فيه من رفقة سوى أخته سارا.
على أنه بدأ ينظر إلى الغابة نظرة الرهبة والدهشة معا؛ فقد أخذ يسمع عن السكان الأصليين، أولئك الهنود الحمر، الذين ينقضون على السكان البيض فيقتلونهم كلما ظفروا بهم وهو لا يفهم لم يقتلونهم، ثم هو يخشى غوائل الحيوانات المفترسة التي كانت تتحدث أمه عنها أحيانا، وكلما مد بصره في تلك المساحات الهائلة أخافه الفضاء وحده، ولو لم يكن فيه شيء من بواعث الخوف.
على أن الغلام في هذا السن الباكرة يرى الحياة من قرب رؤية مباشرة، فهو ينمو كما ينمو وحشي النبات في ذلك الأقليم، ويرى بعينيه وخياله الصلة بينه وبين بيئته، يتغذى من ثمار الشجر، ويضطجع في مهد من أوراقها الجافة، ويلتحف بجلود الحيوانات ويشرب ألبانها، وهو يعيش في أحضان الطبيعة حيث يرهف حسه، ويعمق خياله، ويقوى وجدانه، وتنبسط نواحي نفسه الصغيرة، وتستشف ما في هذا الكون العجيب من جمال وسحر، وتستشعر ما فيه من سر ورهبة.
أليس يرى من كثب كيف تطعم الأسرة وكيف تكتسي؟ أليس يرى التعاون بين الوالدين وما ينتج من اطمئنان وراحة؟ أليس يرى الكدح في سبيل العيش كلما أبصر أباه يهوي بفأسه على الأشجار، أو كلما رآه مقبلا من الغابة وبندقيته على كتفه وفي يده طائر أو حيوان يدفعه إلى أمه، فتتلقاه فرحة، وتذهب لتعد الطعام؟
وفي سن الخامسة يتسع مجال الحياة أمام عينيه بعض الاتساع؛ فقد انتقلت الأسرة قليلا نحو الشمال، وأقامت كوخها الجديد على مقربة من طريق عام كان يربط بين مدينتين، وهناك كانت تقع عينا الغلام على بعض العربات غادية رائحة، وعلى قوم يتجهون أبدا صوب الغرب يحملون من الأمتعة ما لم ير مثله من قبل، وإنه ليعجب أن يرى ملابس بعضهم من نوع آخر غير ما يلبس، وتخبره أمه أنها متخذة من الصوف، فينظر في دهشة إلى وجهها، ثم يتجه ببصره إلى ملابسه الجلدية المهوشة، ويتمنى بينه وبين نفسه أن لو كانت له ولأبيه ملابس من ذلك الصوف.
وفي السابعة من عمره يصحب أباه إلى الغابة؛ حيث بدأ الصبي يؤدي نصيبه من العمل؛ فيساعد الأب الذي يقطع الأخشاب، ويصنع منها الأثاث ويبيعه، ويكسب من وراء ذلك نقودا لا بد منها للأسرة. وإنه لفخور الآن بمساعدة أبيه، لا يحفل تعبا في تلك المساعدة، وإنه ليباهي بها أخته، وإن كانت هي أيضا لتؤدي نصيبها من العمل في مساعدة أمها، ولكن هل كانت «سارا» تستطيع أن تسوي الخشب وتجره وترتبه؟ وهل كانت تستطيع أن تحمل الصيد إلى الكوخ كما كان يفعل «أيب» الصغير؟
كان لا ينقطع عن العمل إلا في أيام الآحاد؛ إذ يجلس وأمه وأخته وأباه أمام الكوخ، فيستمع في شغف ولذة لما تلقي أمه من أقاصيص وما تتلو من حكايات كان أكثرها مشتقا من الإنجيل.
كان الغلام ينتقل ببصره وخياله من أمه إلى أبيه، وكانت أمه في أقاصيصها جادة تحس نفسه الصغيرة شيئا من الحزن يطوف بنفسها، ويتسرب إلى حكاياتها، أما الأب فكان يميل إلى الفرح والفكاهة، ويتدفق إذ يحكي تدفق من لا تنطوي نفسه على شيء مما تنطوي عليه نفس الأم، وما كان شيء من ذلك ليخفى على فطنة الغلام.
অজানা পৃষ্ঠা