13
التهب حلق ابنته نصرة وذهب بها إلى الجدة نعيم، قامت بفحص اللوزتين فوجدت الوقت غير مناسب لإزالتها، وأخبرته أن يعود بعد يومين، فهي ماهرة في نزع اللوز بظفرها، تغسل يدها بالماء المالح جيدا قبل أن تقوم بعملها، ثم تنصح الأطفال بالغرغرة بالماء المالح و«شب الفؤاد» ملح الأمونيا القابض للأوعية الدموية. كانت تقدم تلك الخدمة مجانا، كمريم زوجة سالم الحطاب، تقوم بخلع الأسنان اللبنية للأطفال وكذا تخلع الضروس للكبار حين تؤلمهم، ثم تضع الملح مكان الضرس المخلوع. كان لديها أداة قلع الأسنان حصلت عليها من عاقل القرية، وكان هو يوفر محاليل المجارحة للقرية.
بدأت المرحلة الثانية من مراحل العناية بالزرع، وهي «النقوة» التي يتم فيها تقليب التربة بالمحافر اليدوية ليشرب الزرع أثناء المطر، يقوم بها الرجال فقط، ومن كان لديه حقول كثيرة يستأجر العمال للقيام بهذه بالمهمة. ذهب زربة والوطواط وعشرة فلاحين للعمل في أرض الجزار مقبل الدسم. اصطف الفلاحون في الحقل صفا واحدا جنبا إلى جنب، وهم منحنون وفي أيديهم المحاريث يقلبون التربة حول الزرع لشرب الزرع بسهولة، يشدون عزمهم بالمهاجل الشعبية بصوت موحد. لا يقفون عن العمل إلا في نهاية الحقل، فكان الوطواط يتعمد البقاء بجوار زربة، ليساعده بحفر ما يترك له من الحرث. وقفوا ظهرا يتناولون وجبة غداء دسمة ثم أخذوا استراحة لمضغ القات، وعادوا للعمل والسحب تتراكم في السماء وبعد فترة قصيرة بدأ رذاذ المطر بالهطول عليهم، فوقف الوطواط عن العمل ووقف إلى جانبه بعض العمال. اعترض مقبل على وقوفهم فالمطر ليس غزيرا. كان زربة يضحك ويقول لنفسه: «أينما وجد الوطواط وجدت الفتنة». استمر العمل رغم تبرم الوطواط حتى الخامسة مساء.
كان زربة يقضي سهرته أحيانا في بيت المداح المتواضع، تبعد قليلا عن بيته بجوار الطريق العام. يحب السهر مع المداح لطيبته وظرفه، على الرغم من تجاوزه الخامسة والستين من العمر؛ لهذا كان زربة يشتري القات لهما الاثنين أحيانا . كان يمازحه بسؤاله عن سعر الرطل المعجون (مقو جنسي) فزوجة المداح الأخيرة زهرة ما زالت في ريعان الشباب، بيضاء، جميلة، تصغره بأربعين عاما، أنجبت له ست بنات وولدا واحدا، ولولا يدها المبتورة ما كانت ستقبل به. أما زوجته الأولى وردة أنجبت له ستة من الأولاد وبنتا. هي امرأة سمراء نحيفة من لا يعرفها يظنها من المهمشين. كانت نجاة تفتخر أنها أم الرجال، وضرتها زهرة أم البنات. ذات يوم سمع زربة وردة وهي تغني أمام زهرة:
أم الرجال ما عليها من هم
أما البنات يجلبين لنا الهم
ردت عليها زهرة بغنج:
من يشتي العشق عشق بياضي
وإن مات شهيد الله عليه راضي
كان المداح يشجع زهرة على وردة التي أحيانا تلعنهما معا، وتستقوي بأولادها. ذات يوم قرأ المداح مستقبل زربة من خلال كتابه، وأخبره أنه سوف يتزوج خمس نساء، لم يصدقه زربة حينها وراح يضحك من كلامه. كان للمداح عمل خفي لا يعلمه أهل القرية، وهو إعداد الطعام لأفراد الجبهة الوطنية، الذين يمرون أحيانا بعد منتصف الليل بجوار بيته، يحضرون معهم تيسا ليطبخه وقد كمموا فمه برباط. كان يكلف زوجته وردة بالقيام بذلك ولا يسمح لزهرة بالظهور أمامهم.
صفحة غير معروفة