عبادة رجل أسود شجاع، قوي وعداء سريع، له قصص كثيرة في السرقة أشبه بالبطولات، لا يسرق البيوت الفقيرة. يفتخر بعنترة بن شداد ويراه قدوته. يعيش في قرية «زهمق» للمهمشين قرب وادي خوالة الأخضر بفواكهه ونخيله، قبل أن يتحول الوادي إلى مزارع للقات كغيره من الوديان. هذه القرية لها عاداتها الخاصة كغيرها من قرى المهمشين، لهم شريعتهم الخاصة فهم لا يذهبون إلى محاكم الغير ومقابرهم خاصة بهم. يعرفون بقذارتهم، ليس لديهم ملكية يتوارثونها، بدلا من ذلك يتقاسمون القرى بينهم ويوثقونها بصكوك شرعية يتوارثونها فيما بينهم، فلا يمر هذه القرى في الأعياد والأعراس لضرب الطبول إلا صاحب الصك؛ لينال قدرا من المال. في أحد المرات حاول سرقة الراديو حق صالح عاقل قرية القرن من نافذة الدور الثالث لداره، لكنه سقط وحلف أنه لن يسرق القرية؛ لادعاء أهلها بأنها محمية بالأولياء الصالحين؛ لصلتهم بآل البيت. بعد أن انتهى حديثهم عن مغامرات عبادة، تحدثوا عن الحصاد واتفقوا على البدء بعد ثلاثة أيام، وأخيرا سخن ثابت المداح دفه فوق بوري النارجيلة، إلى أن اقتنع برنته، وبدأ يطربهم بمدحه المعتاد.
خرج الجميع من بيت زربة الساعة العاشرة ليلا كل إلى داره، ودخل هو على زوجته وهي نائمة، والقات ما زال محشوا في خده. استيقظت بفتور وهو يتنسم شذى عطرها. استمر اللقاء الحميمي والقات ما زال في خده، وامتزجت النشوتان ثم عاد يكمل سهرته حتى منتصف الليل يسامر نارجيلته وحيدا.
11
في الصباح الباكر، ذهب سعد الوطواط إلى دار صالح محمد عاقل القرية وحكيمها. هذا الرجل له منطق جيد والناس تسمع له فخبرته في الحياة جيدة. طاف عدة مدن في العالم على باخرة فرنسية وهو في العشرين من العمر، بعد أن هجر قريته إلى عدن. كان يوقد الفحم لمحرك الباخرة، وبعد سنتين ترك الباخرة في ميناء مرسيليا وقد تعلم القليل من اللغة الفرنسية، وعاش هناك بعد أن حصل على حق اللجوء الإنساني. عمل مساعد طباخ في مطعم لبناني، تعلم كل فنون الطبخ الشامي. كان كريما مع زواره العرب في سكنه. عاش مغتربا عشرين عاما، تزوج بسعدية امرأة مغربية تحمل الجنسية الفرنسية. كانت تكبره بثمان سنوات، لكن صالح لم يشعر بهذا الفرق خصوصا عندما يقارنها بنساء قريته. لم تنجب له أطفالا كما لم تنجب لزوجها الأول الذي توفي في الحرب العالمية الثانية. عاش صالح عشرين عاما هناك وحصل على الجنسية، لكنه اشتاق إلى قريته، فعاد بثروة لا بأس بها. بنى أكبر دار في القرية وكان مضيافا. وهو يتحدث عن دول العالم الثالث توقع انحراف مسار ثورة السادس والعشرين من سبتمبر. كان يقول: «القبيلة قد تبني دولة هشة لكن لا تبني أوطانا.»
أخبره الوطواط باتفاق زربة والآخرين عن ميعاد وقت الحصاد دون الرجوع إليه، وكان يريد بذلك زرع الفتنة بينه وبين زربة، حتى إن زوجته تفاحة ابنة خاله تزوجها بفتنة جعلتها تطلب الطلاق من زوجها الأول، فقد كانت تفاحة فتاة جميلة، متزوجة من رجل آخر ومقتنعة بنصيبها. يقع دار زوجها الأول بجوار الطريق المؤدي إلى سوق الثلاثاء. حين كان الوطواط يمر بجوار دارها وهو ذاهب إلى السوق، ينفرد بها بصفته قريبها ويسألها عن حالها، فتشكو له جور عمتها والدة زوجها في معاملتها. أقنعها الوطواط أن تتطلق منه، وسيكون وكيلا لها دون مقابل. لم تمر سنة حتى حصلت تفاحة على الطلاق عن طريق المحكمة وتزوجها.
كان الوطواط ثاني إخوته، في الثلاثين من عمره. ساعدهم في الصغر، بعد موت أخيهم الأكبر بالطاعون، وغياب أبيهم خارج الوطن. منهم من قال: إنه هاجر إلى الحبشة. ومنهم: إلى فرنسا ومن قال: رآه جنديا مع الإيطاليين. هكذا كان الكثير من أهالي القرى حين يعملون في ميناء عدن، يرون البواخر بساط الريح، فيبقون عليها يعملون أعمالا متواضعة متنقلين حول العالم، أغلبهم يفضل البقاء في أي مكان ترسو فيه السفينة؛ فهم يرون أنهم خرجوا من الكهوف إلى العالم الحقيقي. ينسون بلدانهم، أطفالهم، زوجاتهم ولا يعودون إلا عند الشيخوخة؛ ليقبروا في مسقط رءوسهم. هكذا عاد عبده راجح والد الوطواط. يوم أن انفجر الوضع العسكري في صنعاء، في أحداث أغسطس (1968م) بين قيادات الثورة الذين تقاتلوا فيما بينهم بمختلف أنواع الأسلحة. كان راجح الوطواط يسكن في مستودع سيناء أمام مدرسة عبد الناصر في منطقة التحرير. كانت هناك دبابة تقذف حممها نحو منطقة العرضي، تبول الوطواط على سرواله؛ فهو لم يسمع في حياته مثل ذلك الرعد الذي يصم الآذان. كان يسافر إلى القرية كلما قامت القوات المسلحة بعرض عسكري مسلح في العيد الوطني للبلاد، يخيل إليه أن عرض الدبابات والمدافع سيتحول إلى معركة دامية.
12
في صباح اليوم الثالث من عودته كان زربة على سطح داره ينادي منصور النحال في القرية المقابلة من الجبل المنحني، يسأله عن سعر الرطل العسل. أجابه منصور بصوت مرتفع يشكو له هروب النحل من إحدى الخلايا. ضحك زربة وقال له: والله، يا منصور، حقك النحل شيهربن كلهن؛ لو ما تعطينيش رطل عسل أطعمه ههههه.
وقتذاك مر صالح عاقل القرية في الطريق المقابل لدار زربة. ناداه معاتبا: مو شتعمل
34
صفحة غير معروفة