ليتها تتقن الكلام كما تتقن السب والعراك مثلا! إنه يحسن الحديث ولكنها عاجزة عن مجاراته، وقد ضايقها ذلك، ولم تقنع بالدور السلبي الذي يلذ بنات جنسها، وتشوقت بفطرتها إلى شيء آخر، غير الانتظار والسكوت والحياء. ولما كان الإفصاح عن هذا الشعور الغامض غير ميسور، فقد ساورها قلق وانفعال، وحدجته بنظرة ثاقبة. وزاد من أسباب انفعالها أن انتهى الطريق، فشارفا ميدان الملكة فريدة على غير شعور بالوقت، ولم تر بدا من أن تقول وهي تدفن حسرتها في أعماقها: الآن نعود.
فقال بإنكار: نعود! - هذه نهاية الطريق.
فقال محتجا: ولكن الدنيا لا تنتهي بانتهاء الموسكي. لماذا لا نجول في الميدان!
فقالت على رغمها: لا أريد أن أتأخر عن موعد عودتي، أن تقلق أمي.
فقال بإغراء: إذا شئت ركبنا تاكس فيقطع بنا مسافة طويلة في دقائق معدودات.
تاكس! رنت الكلمة في أذنيها رنينا عجيبا. ولم تكن ركبت في حياتها إلا العربة الكارو. ومضت ثوان قبل أن تفيق من سحر الكلمة العجيبة، بيد أن الأمر لا يخلو من اعتبار آخر وهو ركوب التاكس مع رجل غريب، إلا أنها وجدت في هذا الاعتبار داعيا للهجوم لا للنكوص، وتولاها نزوع طاغ إلى المغامرة، كأنما لقيت فيه ترويحا عن ذاك الشعور القلق المكتوم الذي أعياها الإفصاح عنه قبل ذلك بقليل، ولم تكن تدري أن بها مثل هذه الطاقة على الاستهتار والمغامرة حتى ليتعذر القول أيهما كان أشد استحواذا على مشاعرها في تلك اللحظة: الرجل الذي حرك أعماقها أم المغامرة ذاتها، ولعلهما كانا الاثنين معا. ولاحت منها نظرة إليه فرأته ينظر إليها بإغراء وعلى شفتيه ظل الابتسامة التي طالما أهاجتها، فتغير شعورها وقالت: لا أريد أن أتأخر.
فشعر بخيبة وقال متأسفا: أتخافين؟
فازداد شعورها حدة وقالت بتحد: لست أخاف شيئا.
فأضاء وجهه، وكأنه عرف أشياء وأشياء، وقال بسرور: سأدعو تاكس!
وكفت عن المعارضة، وثبتت عيناها على التاكس وهو يقترب من موقفهما حتى وقف قبالتهما، وفتح الباب لها، فانحنت قليلا خافقة الفؤاد وهي تقبض على مساك ملاءتها، وصعدت إليه، وتبعها الرجل وهو يقول لنفسه بارتياح: «وفرنا تعب يومين أو ثلاثة أيام.» ثم سمعته وهو يقول للسائق: «شارع شريف باشا.» شريف باشا، لا المدق ولا الصنادقية ولا الغورية ولا حتى الموسكي، شريف باشا! .. ولكن لماذا عين هذا الشارع بالذات؟! .. وسألته: أين تقصد؟
صفحة غير معروفة