فقالت أم حميدة: لا تستقلي نفسك، ألم تعلمي بأن النحافة موضة وأية موضة! ومع ذلك فإن شئت صنعت لك أقراصا عجيبة تسمنك في وقت قصير.
وهزت أم حميدة وجهها المجدور بفخار واستدركت قائلة: لا تخافي شيئا ما دامت أم حميدة معك .. أم حميدة مفتاح سحري تفتح له جميع الأبواب المغلقة، وغدا تلمسين قدري في الحمام إذا حوانا معا!
وهكذا كرت أيام الاستعداد في نشاط وتعب وسرور وأمل، وصبغ شعر وتحضير عقاقير، وخلع أسنان مثرمة وتركيب أسنان ذهبية، وبين يدي ذلك كله نقود تنفق. تغلبت على عادة الحرص، وطرحت معبودها الأصفر عند قدمي الغد المرموق، وفي سبيل هذا الغد المرتقب زارت الحسين ونذرت له ما تيسر من مال وثريد للفقراء الذين يحدقون بجامعه، كما نذرت للشعراني أربعين شمعة.
وقد نال العجب من أم حميدة كل منال وهي تلحظ هذا التغير الكبير الذي قلب الست سنية رأسا على عقب، فجعلت تضرب كفا بكف وتقول لنفسها: هل يستأهل الرجال كل هذا العناء؟! جلت حكمتك يا رب، فأنت الذي قضيت على النساء أن يعبدن الرجال!
22
استيقظ عم كامل من إغفاءته المزمنة على رنين جرس، ففتح عينيه، وأنصت قليلا، ثم اشرأب بعنقه حتى برز رأسه من الدكان، فرأى حنطورا معروفا يقف أمام الزقاق، فنهض في عناء وهو يقول بسرور ودهشة: «رباه، هل عاد السيد سليم علوان حقا؟» وكان الحوذي قد زايل مقعده وهرع إلى باب العربة ليعين سيده على النزول، واعتمد السيد على ذراعه، ثم ظهر جسمه مقوسا، ووقف أخيرا على الأرض يصلح هندامه. حجبه المرض في أواسط الشتاء، وأعاده الشفاء في أوائل الربيع، وقد غمرت برودة الشتاء القارصة موجة لطيفة من الدفء رقصت لها الدنيا طربا. ولكن أي شفاء هذا؟! لقد عاد السيد رجلا آخر .. اختفى الكرش الذي كان يشق الجبة والقفطان، وتقعر الوجه الممتلئ الدموي، فبرزت وجنتاه وغار خداه ولوح الشحوب بشرته، وخبا نور العينين فقلقت فيهما نظرة شاردة ذابلة تحت جبين عابس. ولم يتبين عم كامل بادئ الأمر ما طرأ على السيد من تغير لضعف بصره، حتى إذا اقترب منه ولاحظ ذبوله تولاه الانزعاج، وانحنى على يده كأنما ليخفي انزعاجه، وصاح بصوته الرفيع: حمدا لله على السلامة يا سي السيد، ذا يوم أبيض، والله والحسين ما يساوي الزقاق من غيرك قشرة بصلة!
فقال له السيد سليم وهو يسترد يده: بورك فيك يا عم كامل.
وسار متمهلا متوكئا على عصاه، يتأثره الحوذي عن كثب، ويتبعه عم كامل مترنحا كالفيل، والظاهر أن رنين الجرس قد أعلن حضوره، فسرعان ما ازدحم باب الوكالة بالعمال، وأقبل من القهوة المعلم كرشة والدكتور بوشي، وأحاط به الجميع مهللين داعين، ولكن الحوذي علا صوته وهو يقول: أفسحوا للسيد من فضلكم، دعوه يجلس أولا ثم سلموا.
وأفسحت له اللمة، فواصل مسيره عابسا، وفؤاده يغلي حنقا وغيظا، وقد ود لو لم تقع عيناه على وجه من هذه الوجوه. وما كاد يطمئن به مجلسه وراء المكتب حتى أقبل عمال الوكالة يستبقون، فلم يجد بدا من أن يسلمهم يده يقبلونها واحدا بعد آخر، تأذيا من لمس شفاههم، مخاطبا نفسه: «يا لكم من كذابين مرائين! .. أنتم والله أصل هذا البلاء!» وتفرق العمال فجاء المعلم كرشة وشد على يده وهو يقول: مرحبا بسيد الحي جميعا .. ألف حمد الله على السلامة.
فشكره السيد. أما الدكتور بوشي فقد قبل يده وقال له بلهجة خطابية: اليوم يحق لنا الفرح، واليوم تطمئن جنوبنا، واليوم يتحقق لنا الدعاء!
صفحة غير معروفة