فخفف الشاعر من لهجته مستوهبا عطف الرجل الغاضب، وراح يقول: هذه قهوتي أيضا. ألست شاعرها لعشرين عاما خلون؟!
فقال المعلم كرشة وهو يتخذ مجلسه المعتاد وراء صندوق الماركات: عرفنا القصص جميعا وحفظناها، ولا حاجة بنا إلى سردها من جديد. والناس في أيامنا هذه لا يريدون الشاعر، وطالما طالبوني بالراديو، وها هو ذا الراديو يركب، فدعنا ورزقك على الله.
فاكفهر وجه الشاعر، وذكر محسورا أن قهوة «كرشة» آخر ما تبقى له من القهوات، أو من أسباب الرزق في دنياه، بعد جاه عريض قديم. وبالأمس القريب استغنت عنه كذلك قهوة القلعة. عمر طويل ورزق منقطع، فماذا يفعل بحياته؟! وما جدوى تلقين ابنه البائس هذا الفن وقد بار وكسد؟! وماذا يخبئ له المستقبل، وماذا يضمر لغلامه؟! اشتد به القنوط، وضاعف قنوطه ما لاح في وجه المعلم من الجزع والإصرار، فقال: رويدك يا معلم كرشة، إن للهلالي لجدة لا تزول، ولا يغني عنها الراديو أبدا ...
ولكن المعلم قال بلهجة قاطعة: هذا قولك، ولكنه قول لا يقره الزبائن، فلا تخرب بيتي. لقد تغير كل شيء!
فقال الشاعر في قنوط: ألم تستمع الأجيال بلا ملل إلى هذه القصص من عهد النبي عليه الصلاة والسلام؟
فضرب المعلم كرشة على صندوق المركات بقوة وصاح به: قلت: لقد تغير كل شيء!
وتحرك عند ذلك - لأول مرة - الرجل الجامد الذاهل، ذو الجلباب والبنيقة ورباط الرقبة والنظارة الذهبية، فصعد بصره إلى سقف القهوة، وتنهد من الأعماق حتى خال المستمعون أنه يزفر فتات كبده، وقال بصوت كالمناجاة: آه تغير كل شيء. أجل كل شيء يا ستي! كل شيء تغير إلا قلبي فهو بحب آل البيت عامر.
وطامن رأسه ببطء، وهو يحركه ذات اليمين وذات اليسار، في حركات أخذت في الضيق رويدا رويدا حتى عاد إلى موضعه الأول من الجمود، وغرق مرة أخرى في غيبوبة. ولم يلتفت إليه أحد ممن اعتاد أحواله إلا الشاعر، فقد توجه إليه كالمستغيث وقال له برجاء: يا شيخ درويش، أيرضيك هذا؟
ولكنه لم يخرج من غيبوبته ولم ينبس بكلمة. وهنا قدم شخص جديد تعلقت به الأنظار في إجلال ومودة، وردوا تحيته بأحسن منها. كان السيد رضوان الحسيني ذا طلعة مهيبة، تمتد طولا وعرضا، وتنطوي عباءته الفضفاضة السوداء على جسم ضخم، يلوح منه وجه كبير أبيض مشرب بحمرة، ذا لحية صهباء، يشع النور من غرة جبينه، وتقطر صفحته بهاء وسماحة وإيمانا. سار متمهلا خافض الرأس، وعلى شفتيه ابتسامة تشي بحبه للناس وللدنيا جميعا، واختار مجلسه على المقعد التالي لأريكة الشاعر. وسرعان من رحب به الشاعر وبثه شكواه. ومنحه السيد أذنه عن طيب خاطر وهو يعلم بما يكربه، وكان حاول مرارا أن يثني المعلم «كرشة» عما اعتزمه من الاستغناء عنه دون جدوى. ولما انتهى الشاعر من شكواه طيب خاطره، ووعده بأن يبحث لغلامه عن عمل يرتزق منه، ثم غمر كفه بما جادت به نفسه وهو يهمس في أذنه: «كلنا أبناء آدم، فإذا ألحت عليك الحاجة فاقصد أخاك، والرزق رزق الله، والفضل فضله.» وزاد وجهه الجميل بعد هذا القول تألقا، شأن الكريم الفاضل يحب الخير ويصنعه، ويزداد بصنعه رضا وجمالا. كان يحرص دائما على ألا يفوته يوم من حياته دون صنع جميل، أو ينقلب إلى بيته ملوما محسورا. وإنه ليبدو لحبه الخير ولسماحته كما لو كان من الموسرين المثقلين بالمال والمتاع، وإن كان في الواقع لا يملك إلا البيت الأيمن من الزقاق وبضعة أفدنة بالمرج. وقد وجد فيه سكان بيته - المعلم كرشة في الطابق الثالث، وعم كامل والحلو في الطابق الأول - مالكا طيب القلب والمعاملة، حتى إنه تنازل عن حقه في الزيادة التي قررها الأمر العسكري الخاص بالسكن فيما يتعلق بالطابق الأول رحمة بساكنيه البسيطين، فكان رحمة حيث حل وحيث يقيم. وقد كانت حياته - وبخاصة في مدارجها الأولى - مرتعا للخيبة والألم. فانتهى عهد طلبه العلم بالأزهر إلى الفشل، وقطع بين أروقته شوطا طويلا من عمره دون أن يظفر بالعالمية، وابتلي - إلى ذلك - بفقد الأبناء فلم يبق له ولد على كثرة ما خلف من الأطفال. ذاق مرارة الخيبة حتى أترع قلبه باليأس أو كاد، وتجرع غصص الألم حتى تخايل لعينيه شبح الجزع والبرم، وانطوى على نفسه طويلا في ظلمة غاشية. ومن دجنة الأحزان أخرجه الإيمان إلى نور الحب، فلم يعد يعرف قلبه كربا ولا هما. انقلب حبا شاملا وخيرا عميما وصبرا جميلا. وطأ أحزان الدنيا بنعليه، وطار بقلبه إلى السماء، وأفرغ حبه على الناس جميعا؛ وكان كلما نكد الزمان عنتا ازداد صبرا وحبا، رآه الناس يوما يشيع ابنا من أبنائه إلى مقره الأخير وهو يتلو القرآن مشرق الوجه، فأحاطوا به مواسين معزين، لكنه ابتسم لهم، وأشار إلى السماء وهو يقول: «أعطى وأخذ، كل شيء بأمره، وكل شيء له، والحزن كفر.» فكان هو العزاء. ولذلك قال عنه الدكتور بوشي: «إذا كنت مريضا فالمس السيد الحسيني يأتك الشفاء، وإذا كنت يائسا فطالع نور غرته يدركك الرجاء، أو محزونا فاستمع إليه يبادرك الهناء.» وكان وجهه صورة من نفسه، فهو الجمال الجليل في أبهى صوره.
أما الشاعر فقد رضي بعض الرضا، ووجد شيئا من العزاء، وتزحزح تاركا الأريكة، وتبعه الغلام وهو يلم الربابة والكتاب. وشد الرجل على يد السيد رضوان الحسيني، وحيا الجلوس متجاهلا المعلم كرشة، ثم ألقى نظرة ازدراء على المذياع الذي كاد العامل يفرغ من تثبيته، وأعطى يده للغلام فجره إلى الخارج، وغابا عن الأنظار. ودبت الحياة مرة أخرى في الشيخ درويش، فأدار رأسه نحو الجهة التي اختفى فيها الذاهبان، وتأوه قائلا: ذهب الشاعر وجاء المذياع. هذه سنة الله في خلقه. وقديما ذكرت في التاريخ وهو ما يسمى بالإنجليزية
صفحة غير معروفة