فلم تعبأ بقولها، وكانت انتهت من تضفير شعرها، فاستخرجت من جيبها مرآة صغيرة، ثبتتها على مسند الكنبة، ثم وقفت أمامها منحنية قليلا لترى صورتها، ثم غمغمت بلهجة تنم عن الإعجاب: آه يا خسارتك يا حميدة! لماذا توجدين في هذا الزقاق؟! ولماذا كانت أمك هذه المرأة التي لا تميز بين التبر والتراب؟!
ثم دلفت من النافذة الوحيدة في الحجرة التي تطل على الزقاق، ومدت يديها إلى مصراعيها المفتوحين وجذبتهما حتى لم يعد يفرج بينهما إلا مقدار قيراطين من الفراغ، وارتفقت النافذة ملقية ببصرها إلى الزقاق، متنقلة به من مكان إلى مكان، قائلة، وكأنما تخاطب نفسها في سخرية: مرحبا يا زقاق الهنا والسعادة. دمت ودام أهلك الأجلاء. يا لحسن هذا المنظر، ويا لجمال هؤلاء الناس. ماذا أرى؟! هذه حسنية الفرانة جالسة على عتبة الفرن كالزكيبة؛ عينا على الأرغفة وعينا على جعدة زوجها، والرجل يشتغل مخافة أن تنهال عليه لكماتها وركلاتها. وهذا المعلم كرشة القهوجي متطامن الرأس كالنائم، وما هو بالنائم. وعم كامل يغط في نومه، والذباب يرقص على صينية البسبوسة بلا رقيب. آه! وهذا عباس الحلو يسترق النظر إلى النافذة في جمال ودلال، ولعله لا يشك في أن هذه النظرة سترميني عند قدمه أسيرة لهواه، أدركوني يا هوه قبل التلف. أما هذا فالسيد سليم علوان صاحب الوكالة، رفع عينيه يا أماه وغضهما، ثم رفعهما ثانية .. قلنا الأولى مصادفة، والثانية يا سليم بك؟! رباه هذه نظرة ثالثة! ماذا تريد يا رجل يا عجوز، يا قليل الحياء؟! مصادفة كل يوم في مثل هذه الساعة؟! ليتك لم تكن زوجا وأبا؛ إذا لبادلتك نظرة بنظرة، ولقلت لك: أهلا وسهلا ومرحبا. هذا كل شيء، هذا هو الزقاق، فلماذا لا تهمل حميدة شعرها حتى يقمل؟! .. أوه .. ها هو ذا الشيخ درويش قادما يضرب الأرض بقبقابه!
وهنا قاطعتها أمها في سخرية: ما أحق الشيخ درويش أن يكون زوجا لك!
فلم تلتفت إليها، ورقصت لها عجيزتها وهي تقول: يا له من رجل مقتدر. يقول إنه أنفق في حب السيدة زينب مائة ألف، فهل يبخل بعشرة آلاف؟!
ثم تراجعت فجأة كأنها ملت موقفها، وعادت إلى المرآة ملقية إليها نظرا فاحصا، وتنهدت، وهي تقول: يا خسارتك يا حميدة!
4
في الثلث الأول من النهار يكتنف الزقاق جو رطب بارد ظليل، لا تزوره الشمس إلا حين تشارف كبد السماء فتتخطى الحصار المضروب حوله. بيد أن النشاط يدب في الأركان منذ الصباح الباكر، يفتتحه سنقر صبي القهوة فيهيئ المقاعد ويشعل الوابور، ثم يتوافد عمال الوكالة أزواجا وأفرادا، ثم يلوح جعدة حاملا خشبة العجين، حتى عم كامل نفسه يشغل في هذه الساعة بفتح الدكان وتناول الإفطار عن النعاس! وكان عم كامل وعباس الحلو يتناولان إفطارهما معا، فتوضع بينهما صينية عليها طبق المدمس والبصل الأخضر والخيار المخلل. وكان مزاجاهما في الأكل مختلفين؛ فالحلو سريع يلتهم رغيفه في دقائق معدودات، أما عم كامل فبطيء يمضغ اللقمة في أناة حتى يكاد يذيبها في فمه، وكثيرا ما يقول: إن الطعام المفيد يهضم في الفم أولا، ولذلك فالحلو ينتهي من طعامه، ثم من احتساء الشاي وتدخين الجوزة، والآخر ما يزال يمضغ ويقضم البصل، ولذلك أيضا فلكي يأمن تعدي الحلو على نصيبه يشق الفول بلقمة شطرين، ولا يسمح للشاب بتجاوز حده! وعم كامل - رغم جسامته وضخامته - لا يعد أكولا وإن كان يلتهم الحلوى بشراهة. وهو حلواني ماهر، ولكنه لا يفرغ ما يتمتع به من فن إلا في الطلبات الخاصة التي يوصي عليها أمثال السيد سليم علوان والسيد رضوان الحسيني والمعلم كرشة. وطار في ذلك صيته حتى جاوز المدق إلى الصنادقية والغورية والصاغة. ولكن رزقه على قد عيشته البسيطة دون زيادة، فلم يكن كاذبا حين شكا إلى عباس الحلو أنهم لن يجدوا بعد وفاته ما يدفنونه به. وقد قال - ذلك الصباح - مخاطبا الحلو بعد أن فرغا من طعامهما: قلت إنك ابتعت لي كفنا، وهو صنيع تستحق عليه الشكر والدعاء، ولكن ما قولك في أن تنزل لي عنه الآن؟
فتعجب عباس الحلو الذي كاد ينسى الكفن كما تنسى عادة الأكاذيب، وسأله: وماذا تريد أن تفعل به؟!
فقال الرجل بصوته الرفيع الذي يحاكي أصوات الغلمان: أنتفع بثمنه! ألا تسمع ما يقال عن ارتفاع أثمان الأقمشة؟
فضحك الحلو وقال: أنت رجل ماكر على رغم ما تتظاهر به من سذاجة؛ بالأمس شكوت أنك لن تجد ما تكفن به بعد موتك، فلما أعددت لك الكفن تريد أن تنتفع بثمنه! ولكن هيهات أن تنال ما تريد، لقد ابتعت الكفن لأكرم به جثتك بعد عمر طويل إن شاء الله.
صفحة غير معروفة