أنصت إليه بذهول وفزع، ونقشت الكلمات في وعيه كلمة كلمة، ولكن غشي فهمه ضباب وغبار، وكأنما انتقل فجأة إلى دنيا المحمومين، فقال بصوت متهدج: لست أفهم شيئا .. ماذا قلت؟! لم تعد هنا، اختفت؟! ماذا تعني؟
فقال عم كامل بأسى: شد حيلك يا عباس .. يعلم الله أني حزين أسيف، وأني حملت همك من أول الأمر، ولكن ما باليد حيلة .. اختفت حميدة، ولم يدر أحد عنها شيئا؛ خرجت يوما كعادتها كل عصر ولكنها لم تعد .. فتشوا عنها في مظانها جميعا دون جدوى .. بلغنا قسم الجمالية، وبحثنا في قصر العيني، ولكن لم نعثر لها على أثر.
لاح في وجهه سهوم، ولبث حينا جامدا صامتا، لا يتكلم ولا يتحرك ولا يطرف، لا مذهب ولا مهرب، ألم يتنبأ قلبه بالفاجعة؟ بلى، وها هو يصدقه. يا عجبا .. ماذا يقول الرجل؟ .. اختفت حميدة؟ .. وهل يختفي البشر كما تختفي إبرة أو قطعة من النقود؟! لو أنه قال: ماتت أو تزوجت لأمكن أن يجد اضطرابه مدى أو نهاية، فاليأس على أية حال أروح من الشك والحيرة والعذاب. ولكن ما عسى أن يفعل الآن؟! بات اليأس نعمة لا يطمع فيها بحال. وخرج من جموده فجأة، فاستعرت نفسه هياجا وارتعشت أطرافه، وحدج الرجل بعينين محمرتين وصاح به: اختفت حميدة! .. وماذا فعلتم؟ .. بلغتم قسم الجمالية وبحثتم في قصر العيني؟ .. جزاكم الله كل خير، ثم ماذا؟ .. عدتم إلى أعمالكم كأن شيئا لم يكن! .. يا لطف الله! .. انتهى كل شيء، فرجعت أنت إلى دكانك وراحت أمها تطرق أبواب العرائس، وانتهت حميدة، وانتهيت أنا أيضا. ماذا تقول يا رجل؟ خبرني عما تعلم؟ ماذا تعرف من أمر اختفائها؟ .. كيف اختفت؟ ومتى وقع ذلك؟!
استحوذ الاضطراب على عم كامل لما بدر من صاحبه من حدة وغضب، وقال بصوته الحزين: مضى على اختفائها زهاء شهرين يا بني. كان حادثا مروعا مفزعا ارتجت له القلوب، والله يعلم أننا لم نأل جهدا في البحث والاستفسار، ولكن ما باليد حيلة!
فضرب عباس كفا على كف، وقد احتقن الدم بوجهه، وازدادت عيناه جحوظا، وقال وكأنه يخاطب نفسه: زهاء شهرين! .. رباه .. هذا تاريخ قديم، لا أمل في العثور عليها. ماتت؟ .. غرقت؟ .. خطفت؟ .. من لي بأن أدري؟ .. خبرني بما يقول الناس؟
فقال عم كامل وهو يرمقه بحزن وحنان: ظنوا ظنونا كثيرة، ثم رجحوا أنها ذهبت ضحية لحادث، أما الآن فلا يذكرون شيئا.
فهتف الشاب متأوها: طبعا .. طبعا، فلا هي ابنة لأحد منهم، ولا قريبة أحد، حتى أمها ليست بأمها. ترى ماذا حدث لها؟ .. كنت في هذين الشهرين أسعد الناس أحلاما. أرأيت كيف يحلم إنسان بالسعادة إذ الشقاء يترقب يقظته ساخرا هازئا طاويا مصيره بيديه القاسيتين؟! .. ولعلي كنت أنعم بلذيذ السمر؛ بينما كانت تنهرس تحت عجلة، أو تتخبط في قعر النيل .. شهران يا حميدة! لا حول ولا قوة إلا بالله.
ونهض قائما ضاربا الأرض بقدمه، ثم قال بامتعاض: أستودعك الله.
فسأله بلهفة: علام نويت؟
فقال بفتور: سأقابل أمها.
صفحة غير معروفة