تأليف
مي زيادة
من كوة الحياة
... وقفت عند كوة الحياة لا أدري لماذا أقف ومن ذا أوقفني هناك. وإذ بالناس في السبيل يمرون، فأخذت أتفحص الوجوه منهم والحركات؛ لعلي أعثر على ما يجعلني مختلفة عنهم وهم مختلفين عني، ولعلي أدرك ما هذا الذي يطلب مني رغم حداثتي وحيرتي وجهلي وقلة اختباري، فصرت أعجب بالناس وأغبطهم على ما لديهم وليس لي أن أفوز بمثله، وأتعزى بمظاهر الكآبة عندهم؛ لتكون تلك المظاهر صلة، ولو واهية، بيني وبينهم، على أني لم أزدد إلا شعورا بحيرتي وعجزي، لم أزدد إلا شعورا بأني خيال لا ضرورة له إزاء تلك الأقوام الفرحة الضاحكة - مع أن هذا الخيال يطلب منه شيء كثير لا يدري ما هو، فظننت لحظة أني وصلت إلى قرارة اليأس، وأني شربت كأس المرارة حتى الثمالة، ثم أوحي إلي بأن هناك وجودا غير ملموس يدعى السعادة، وشعرت باحتياج محرق إلى التعرف إليها، والتمتع بها، ففهمت أنه ليس أقسى على النفوس في انفرادها وسكوتها وعجزها من تلقي ذلك الوحي العنيف، والشعور بذلك الاجتياح العميق ...
أنا والطفل
هناك بعيدا عن المدينة وضوضائها، في الطريق المؤدية إلى قصر كان بالأمس للخديوي إسماعيل ولم يعد له، على شط معبود المصريين ومرضع سهول إيزيس، على شط النيل النائح في سيره على رفات العذارى المبعثر في أعماقه؛ هناك روضة غناء مفتوحة لجميع الداخلين، وقد حفظ جوها أحلام زائريها المتأملين.
قصدت إلى الحديقة في صباح يوم منير. نبذت عني عادات المدنية فافترشت الثرى كما يفترش سكان البادية رمال الصحراء، وتمددت على العشب الأخضر في فيء شجيرة عند قدمي أحد التماثيل المنصوبة هنالك.
لم أر حولي سوى سيدتين إنجليزيتين مع إحداهما ثلاثة أطفال، وإن هي إلا دقائق حتى اقترب مني أحد هؤلاء، وهو صبي في الرابعة من سنواته، فناديته قائلة: «تعال إلي أيها الصغير!»
فدنا واجفا باسما، فسألته: «ألا تجلس على ركبتي؟» فجلس صامتا.
ولما شعرت بثقل جسده الصغير ذكرت أخي الوحيد الميت، ووثب قلبي إلى شفتي، وجالت الدموع بين أجفاني، فملت إلى الطفل امتص من حلاوة وجنته، لاهية بتلك القبلة عن كآبتي المتصاعدة من فؤادي كما يتصاعد الغيم من أطراف البحار.
صفحة غير معروفة