قلت: «بل عفوت اليوم عن نفسي وعن أبناء الأنس أجمعين، فلا هم يتعبون بمراقصتي، ولا أنا أتحف بتعليقهم عليها.»
قال: «إذن نجلس في خلوة المقصف حيث الشراب والحلوى والمجاملة.»
قلت: «لا ، بل على الشرفة الصغيرة حيث النور رقيق يمازج الظلام ولا يزيله. اتصل بي محدث ألمعي، فكل سهرتي هذه إصغاء.»
ففتل شاربيه بأناقة، ورنا إلى طرفيهما بإعجاب ثم انحنى شاكرا لأنه متواضع، ثم سار بي إلى الشرفة وقال: «تفضلي إذن واستريحي على هذا المقعد ذي العلاقة بصاحبة الملايين.»
قلت: «ومن هذه؟ هات بطرف من حكايتها!»
ففعل بظرف وأضحكني شديدا، ثم قدم إلي زهرة أهدى مثلها ذلك النبيل إلى تلك العظيمة، وسرد حكايتهما، ثم تلا علي رسالة جاءته من تلك الجميلة، وأخرى وردت إليه من ذلك الوزير، وسرد حكايتهما.
ثم حدثني عن آخرين وأخريات. وكان الراقصون يتتابعون أزواجا متخاصرة وذاكرة نديمي سجل حفظت صفحاته الأمينة تواريخ الأفراد والجماعات صعودا إلى آباء الآباء بما يزينها من فضل، وما أقله! وما يشوبها من نقص، وما أوفره! وتطرق إلى الإلماع عن تأثيره الحالي في تقسيم الممالك، واتفاق الدول، وعقد المؤتمرات، وسن القوانين. تلك شئون لم يكن ليعرفها أحد، وإنما هو كان يسر بها إلي لأنه ينظر إلي بعين الإكبار والإعجاب، وكل ما يتبع هذين أو يسبقهما من الاعتبارات، فكنت أصغي متفكهة ضاحكة؛ إذ أجد فيما يقول ظرفا لا يبارى، وتوقدا لا يخمد، وفطنة لا يلحقها كلل أو نضوب، إلا أني كنت أهمس لنفسي: «ليته يسرد لي حكايتي لأعلم كيف هي في الغد تكون!»
وأتينا على آخر السهرة فقلت بإخلاص: «ما كان أقصر هذه الساعة!»
ففتل شاربيه بأناقة، ورنا إلي طرفيهما بإعجاب، ثم انحنى شاكرا لأنه متواضع، ثم قال مشيرا إلى رجل بطيء الخطى، مهيب المنظر، مر على مقربة منا؛ قال: «لا أدري ما إذا كانت قصيرة في نظر هذا.»
فسألت: «ومن هو هذا؟»
صفحة غير معروفة