من كوة الحياة
أنا والطفل
بين عامين
نشيد نهر الصفا
الساعة المفقودة
يا سيدة البحار
بكاء الطفل
دمعة على المغرد الصامت
نحو مرقص الحياة (1)
نحو مرقص الحياة (2)
الذكرى الجديدة
العيون
الحكيم ومطالب الحكمة
ليلة عيد النصر
الطبيعة المعمرة المدمرة
يوم الموتى
في مرقص الحياة
كن سعيدا
السهرات الراقصات
الموضوع التائه
أنت أيها الغريب
قرب منعطف السبيل
أين وطني؟
عند قدمي أبي الهول
من كوة الحياة
أنا والطفل
بين عامين
نشيد نهر الصفا
الساعة المفقودة
يا سيدة البحار
بكاء الطفل
دمعة على المغرد الصامت
نحو مرقص الحياة (1)
نحو مرقص الحياة (2)
الذكرى الجديدة
العيون
الحكيم ومطالب الحكمة
ليلة عيد النصر
الطبيعة المعمرة المدمرة
يوم الموتى
في مرقص الحياة
كن سعيدا
السهرات الراقصات
الموضوع التائه
أنت أيها الغريب
قرب منعطف السبيل
أين وطني؟
عند قدمي أبي الهول
ظلمات وأشعة
ظلمات وأشعة
تأليف
مي زيادة
من كوة الحياة
... وقفت عند كوة الحياة لا أدري لماذا أقف ومن ذا أوقفني هناك. وإذ بالناس في السبيل يمرون، فأخذت أتفحص الوجوه منهم والحركات؛ لعلي أعثر على ما يجعلني مختلفة عنهم وهم مختلفين عني، ولعلي أدرك ما هذا الذي يطلب مني رغم حداثتي وحيرتي وجهلي وقلة اختباري، فصرت أعجب بالناس وأغبطهم على ما لديهم وليس لي أن أفوز بمثله، وأتعزى بمظاهر الكآبة عندهم؛ لتكون تلك المظاهر صلة، ولو واهية، بيني وبينهم، على أني لم أزدد إلا شعورا بحيرتي وعجزي، لم أزدد إلا شعورا بأني خيال لا ضرورة له إزاء تلك الأقوام الفرحة الضاحكة - مع أن هذا الخيال يطلب منه شيء كثير لا يدري ما هو، فظننت لحظة أني وصلت إلى قرارة اليأس، وأني شربت كأس المرارة حتى الثمالة، ثم أوحي إلي بأن هناك وجودا غير ملموس يدعى السعادة، وشعرت باحتياج محرق إلى التعرف إليها، والتمتع بها، ففهمت أنه ليس أقسى على النفوس في انفرادها وسكوتها وعجزها من تلقي ذلك الوحي العنيف، والشعور بذلك الاجتياح العميق ...
أنا والطفل
هناك بعيدا عن المدينة وضوضائها، في الطريق المؤدية إلى قصر كان بالأمس للخديوي إسماعيل ولم يعد له، على شط معبود المصريين ومرضع سهول إيزيس، على شط النيل النائح في سيره على رفات العذارى المبعثر في أعماقه؛ هناك روضة غناء مفتوحة لجميع الداخلين، وقد حفظ جوها أحلام زائريها المتأملين.
قصدت إلى الحديقة في صباح يوم منير. نبذت عني عادات المدنية فافترشت الثرى كما يفترش سكان البادية رمال الصحراء، وتمددت على العشب الأخضر في فيء شجيرة عند قدمي أحد التماثيل المنصوبة هنالك.
لم أر حولي سوى سيدتين إنجليزيتين مع إحداهما ثلاثة أطفال، وإن هي إلا دقائق حتى اقترب مني أحد هؤلاء، وهو صبي في الرابعة من سنواته، فناديته قائلة: «تعال إلي أيها الصغير!»
فدنا واجفا باسما، فسألته: «ألا تجلس على ركبتي؟» فجلس صامتا.
ولما شعرت بثقل جسده الصغير ذكرت أخي الوحيد الميت، ووثب قلبي إلى شفتي، وجالت الدموع بين أجفاني، فملت إلى الطفل امتص من حلاوة وجنته، لاهية بتلك القبلة عن كآبتي المتصاعدة من فؤادي كما يتصاعد الغيم من أطراف البحار.
ما أعذب قبلة الأطفال! وما أطيب طعم ابتسامهم!
ثم سألت الطفل: «ما اسمك؟»
قال: «روبرت.»
نظرت في وجهه فإذا به آية من آيات الجمال الإنجليزي: وجه شفاف كأنما هو عصير ورد وياسمين تجمد فنحت وجها بشريا، وفم كزر الورد لطفا وانكماشا، وجبهة كبيرة عالية يخفيها شعر ذهبي مسدول عليها، وعينان لهما زرقة عميقة كزرقة البحار بعيد الغروب، وهما كبعض العيون الإنجليزية في جمودهما الظاهري، وحرارتهما الخفية، وحلاوتهما وتلاعبهما. نظرت في جميع هذه الملامح متمعنة، فقلت للطفل: «من أين أتيت بعينيك، يا روبرت؟ ومن أعطاك زرقتهما؟»
أجاب، ولم يفهم غير كلمتي «من أعطاك»: «ماما.»
قلت: «قرت عينا أمك بك! وأي عمل يعمل أبوك؟»
قال ولثغاته اللطيفة تتدحرج على لسانه متعثرة بشفتيه: «بابا ضابط، وأنا عسكري مثل بابا.»
قلت: «أنت جميل، وأنا أحبك يا روبرت. هات يدك.»
قال:
Yes, Thank you .
يد الأطفال عجيبة حلوة كابتسامتهم. أخذت يد روبرت أقرأ فيها ما خطته يد الأقدار: يد مربعة كبيرة الإبهام، وفيها كل من خطوط الحياة والعقل والقلب واضح جلي، وتل المريخ يرتفع في تلك الكف الصغيرة متهددا متواعدا ...
فنظرت إليه وخاطبته همسا: «هذه اليد التي تنقل إشاراتها اليوم ما حفظته من إشارات الملائكة. هذه اليد التي لا تمتد إلا لمداعبة الندى ولمس الأزاهير. هذه اليد الصغيرة الطرية سوف تصير يد جندي، سوف تقبض على السيف والحربة، وتطلق النيران من أفواه المدافع، سوف تفتك بحياة البشر أشرارا كانوا أم أبرارا ...!»
قال روبرت وهو يضرب أديم الحديقة بقدميه: «أنا عسكري مثل بابا؟»
قلت: «نعم يا روبرت، عندما تبلغ سن التجند تصبح جنديا، وستكون جميلا في ثوبك العسكري، ستكون جميلا جدا، لكن أقل جمالا منك اليوم وأنت بأثواب الطفولة. سوف تبسم لك النساء لأنهن يملن إلى الجنود، ومذهب الأكمام والصدور يسير بهن إلى عالم الأحلام. وهذه اليد الصغيرة الضعيفة سوف تكون كبيرة قادرة تؤلم وتشقي وتميت، سوف تلمس آلات التدمير والهلاك بعزم وثبات! وعيناك الجميلتان سوف تكونان عيني جلاد يرى الدماء والدموع دون أن يلين أو يرحم ... وقلبك، ترى كيف يكون قلبك الذي لا يدرك اليوم ولا يشعر إلا قليلا ...؟
أتكون من الكثيرين الذين لا يحسبون للعواطف في الحياة حسابا، فيلعبون ويضحكون ويتمتعون ويحزنون دون استبقاء أثر لما يختبرون، بل تمر الأفراح والأتراح على نفوسهم كما تسقط دموع الغيوم على صفحة الزجاج فلا تترك عليها سوى ما لا يلبث أن يزول ... أم تكون من أولئك الذين يشعرون بقوة وحدة، ويتظاهرون بعكس ذلك كبرا وخجلا؟ ... هل تضربك يوما يد امرأة فتضع في عينيك للحب دموعا، وتغمد في فؤادك من اليأس خنجرا؟ «غدا، يا روبرت، تنمو جسدا ونفسا، غدا تقف على أحوال البشر، فتجد ذاتك وحيدا في معترك الحياة، غدا تعذبك المسئولية، وتضنيك المجاهدة، ويلذعك لهيب الفكر، وتذيبك نار الهيام. غدا تذوق ظمأ الروح، غدا تصير إنسانا. يا لهول الكلمة! غدا تصير إنسانا؛ أي حيوانا وإلها معا! ...» صمت طويلا.
وفي ذلك الهدوء الشامل في حضن الطبيعة تصاعدت نغمة حلوة من أطراف الحديقة، وانتشر تموجها على أنفاس الأزهار، وكان ذلك صوت المؤذن يردد في الظهيرة ما أنشده في الفجر وما سيعيده عند الغروب.
فسألت: «هل سمعت الصوت، يا روبرت؟»
أجاب:
Yes .
قلت: «عما قريب تعرف ما هي الميثولوجية، وما هي النصرانية، وما هو الإسلام، عما قريب تفهم ما هو التعصب الديني والجنسي والعلمي والعائلي والفردي، عما قريب تعلم أن الأنسجة التي تخاط منها أثواب العرس تصنع منها أكفان الشهداء، عما قريب ترى الأقوام يفتكون بالأقوام لأنهم محتشدون حول قطعة نسيج صبغت بلون غير لون نسيجهم، عما قريب ترى كل هذا، يا روبرت، وتشترك فيه؛ لأنك عسكري مثل بابا!» •••
انفصلت عن روبرت بلا قبلة ولا تحية. أنا لم أقبله لأني وقفت متهيبة أمام رجل الغد منه، وهو لم يقبلني لأني لم أعطه كعكا ولا حلواء ...
بين عامين
بين شطي الماضي والمستقبل يجري نهر الحياة ثملا بعقيقه الفخم؛ ليصب في بحر الأبدية حيث لا جديد ولا قديم؛ وخيالات البشر تتهادى بين جماجم الموت وأغراس الحياة مخفية طي ضلوعها كثيرا من الآمال، وكثيرا من الكلوم.
فإلى بحر الأبدية، أيها العام الراحل!
وأنت أيها العام الجديد، إلينا! •••
وطئت الأرض طفلا جميلا، فنبهت في قلوب الشيوخ الحنان، وكنت صلة حب بين أرواح الخلصان.
امتزجت نسيماتك بدقائق الأثير فأصبح مغردا لامعا، وامتشقت حسام الصبح ضاربا أعناق جيوش الظلام، فسالت منها الدماء في المشرق، وملأت كتائب النور الأرض والسماء.
وداست أعقابك على هام الأيام، فأفنت قديمها، وغدا اليأس أملا، والنواح تهليلا.
هي الإنسانية طفلة في هرمها كلما ذاقت عذابا رجت حظا، ولئن مزقت أحشاءها الضغائن والأحقاد، فموجات الحب العظيم ما برحت غامرة فؤادها.
فاسمع هتافها متخللا أصوات الصباح: رحماك، أيها العام، رحماك!
لقد كتبت اسمك يد الزمان على باب الوجود، فساعدنا لننقش أسماءنا على باب السعادة!
كنا بالأمس نلمس الأوتار فتسيل عليها الدموع مرخية قواها، فما تسمعنا سوى شكوى المذلة وأنين العبودية. أما اليوم، فنريد أن ننعش أرواح العيدان لنوقع أسمى المبادئ على أعذب الألحان.
رحماك أيها العام الجديد! الإنسانية تتألم؛ فارفق بها! •••
رحماك، أيها الطفل الحبيب!
تعال نعطك القبلات السنوية الثلاث ؛ فعلى جبهتك قبلة الرجاء، وعلى ابتسامتك قبلة الوداد، وعلى يديك قبلة الالتماس والتوسل.
جبهتك مستودع الأفكار، وابتسامتك عبير الأزهار، ويداك رمز القوة المنتقلة أبدية من أدهار إلى أدهار.
هذه أمانينا نلقي بها عند قدميك؛ فلا تدسها فتلاشينا، بل ضمها إليك فتحيينا.
نشيد نهر الصفا
عين زحلتا قرية لطيفة يعرفها الذين اعتادوا الاصطياف في جبال لبنان، وألطف من القرية نفسها غابات الصنوبر التي تحيط بها، وأجمل من هذه وتلك منظر نهر الصفا المتدفق عند قدم الجبل، وعلى بعد أمتار قليلة منه يركن نهر القاعة.
كل من النهرين يسرد حكايته الأبدية على الأشجار المصغية إليهما بحللها السندسية. ويظل النهران في اندفاع وشكوى، وروح الوادي تئن في أثرهما إلى أن تلثم مياههما مياه البحر العظيم.
هنا سالت صور الكون الهيولية وذابت ذرات الأثير.
هنا اجتمعت بلابل أرفيوس لتعيد ذكرى أوريديس ذات القلب الكسير.
هنا تنهدت العطور تنهداتها الغرامية، وتحولت الورود إلى أشعة سحرية.
هنا اغتسل قوس قزح؛ فترك في الماء من ألوانه ألحانا فضية.
ومن دماء الأحلام المتجمدة استخرج قوس قزح ألوانه السرمدية.
هنا بعث بأسراره إلى الأرض مع خيوط من الأثير ذهبية.
هنا نامت الأشباح بين أجفان بنات المياه، فامتزج النور بالظلام، وتلاشت اليقظة بالمنام.
هنا ناحت حمائم الشعر، وغنت أطيار الأنغام.
هنا لثمات النسيم شوق وهيام.
ومداعبة الموجة للموجة تبادل نظرة وابتسام.
وجمود الشاطئ حقد على فتور الليالي ومعاكسات الأيام.
هنا ارتعاش الأوراق على الغصون تحية همت من مقل الكواكب وسلام وتمايل الأفنان ودلالها نجوى ملك الوحي والإلهام.
هنا ليلة أنوار، وفجر ظلام، وألغاز ملامس وألوان وأنغام.
حينما يمر الفجر على قمم الجبال يرى صورته في هذه المرآة البلورية، يرى رمز الشبيبة مع ما يتبعها من الآمال النضرة كالأزهار، والميول المتنقلة كالأطيار، ثم يأتي الغروب ساكبا في أعماقها مرارة أحزانه، مع ما يرافقها من النظرات المتحولة، والابتسامات المتغيبة، والجباه الكئيبة، والشفاه المتحركة بالصلوات، الساكنة بالتأملات.
هنا عيدان الأشجان تبكي، تبكي بقلب جريح، وفي كل لحظة يخيل أنها تسلم نفسها الأخير، بشهيق فيه من اللوعة والكتمان والتجلد بقدر ما فيه من المجد والعظمة، من البسالة وعزة النفس الأبية.
لكن المياه لا تموت ولا تحيا، بل تعيد ذكرى الماضي، وتهمس بنبوءتها في المستقبل، وتكرر أصوات الأفراح، وتردد آهات الأتراح.
هنا لغز من ألغاز الحياة، وليلة من ليالي الزمان، وأنا لغز أمام هذا اللغز، وليلة إزاء هذه الليلة. أهيم وحيدة على الشاطئ الحزين، أنظر ولا أرى، أسمع ولا أفهم، أبحث ولا أجد، أستعلم ولا أعلم ... فؤادي يخفق مع فؤاد النهر الخفي، ونفسي قيثارة الأحلام والألحان، لكني لغز حي تائه في ظل الغصون، ينظر مستفسرا إلى لغر آخر فلا يجد فيه إلا صورته، فيود تمزيقها وسحقها وإن أحبها! •••
عند احتضار النهار، ذهبت إلي رأس النبع وجلست على صخرة قائمة في وسط المياه المتسلسلة من صدر الصخرة الكبيرة. جلست وأرواح الخيال تتنشق الأريج العطري المعانق شعور بنات المياه، وآلهة الألوهية الأربع يتلاعبون بدقائق الشفق سابحين على أمواج الظلام، وحول أشباحهم تلتف أكاليل البنفسج وقلائد الياسمين، وفي ثغورهم يلمع فتيت النجوم، بينا أبكار الشعر تسر لأخواتها خفايا اليأس والرجاء تحت أشجار الصنوبر، وعذارى الطرب تستخرج من عناقيد «باخوس» خمرا تسكر به الآلهة، ومن سكر الآلهة يولد الشعراء والأنبياء.
وعلى هذه الصخرة حيث أنا أحلم ثملة بما شربته مشاعري من رحيق الخيال العلوي، كان يجلس الأمير بشير الشهابي الكبير. كثيرون بعده وقبلي جلسوا هنا وفؤاد كل منهم منقبض تهيبا وخشوعا أمام أنفاس الطبيعة وأصوات الخلود، وما يجول بخاطري الآن كان يجول بخاطرهم؛ لأن الأفكار تتشابه في المصدر، وفي النتيجة، رغم تشعبها وتفرعها، والرغائب الكثيرة اللاصقة في أعماق النفس البشرية هي هي في كل آن ومكان.
جميعنا طرح السؤال الذي ألقيه الآن على المياه المتراكضة: هو سر الأسرار الغامضة الذي يرجعه صدى الهياكل المشادة في قدس أقداس البشرية: من أين وإلى أين؟ من أين وإلى أين؟
من أين تأتين أيتها المياه؟ وإلى أين تذهبين؟
من أين أتينا وإلى أين نذهب؟ ...
المياه تتدفق إثر المياه مهللة مكبرة، وقد رفعت أصواتها في الغناء والنحيب، ودمدمت العناصر فيها أسرار الفيض الإلهي، ورفرفت على جوانبها أجنحة الخلود ...
من أين وإلى أين ...؟
ثقل دماغي بأفكار لا أدركها، وضاق مني الصدر لهموم لا أعرف ماهيتها، فنزعت عن ساعدي ساعة وضعت في أسورة ذهبية، ونظرت إليها قائلة: «أيتها الساعة، أنت رمز الوقت الجاري في نهر الزمان، فيسير قاصدا بحر الأبدية. ها أنا أغطسك في هذه المياه ... عسى أن تحفظي في حياتك المعدنية أثرا لرموز معنوية.» ثم جمعت بعض الحصى الملونة الجميلة الراكدة في أعماق النهر، قائلة: «أيتها الجواهر، سأحملك معي إلى وادي النيل لتذكريني بالعواطف الكثيرة التي تلاطمت في فؤادي أمام نهر الصفا ... أنت ذكر الأبدية التي حييت فيها لحظة.»
وإذ رفعت عيني إلى الأفق رأيت مقلة الزهرة ترقب يد ملك الظلام الراسمة على رداء الليل صور الهيئات السماوية.
فغادرت رأس النبع مرددة: أنهر الصفا! من وأين وإلى أين؟ •••
أنهر الصفا! جئتك تعبة الروح والجسد معا.
قرأت خلاصة الأحوال الحاضرة فدوى في مخيلتي هدير المدافع، وتمثلت لناظري صور الحرب المخيفة، ثم قصدت الاجتماعات فملأ أذني ضجيجها التافه، وضجرت نفسي من معانيها السطحية ومراميها الخبيثة. عجبت لبلاهة الإنسان، وركاكة ميوله، وفتور همته! إذ ذاك سمعت اسمك الموسيقي فأحببته؛ لأن فيه جمالا وعذوبة وسلاما.
لقد أحرقت قدمي الرمال الحارة، ومزقت يدي أشواك الحياة، فجئت أستخلص من أعشابك بلسما لجروحي، تعلق بأهدابي غبار المادة محاولا إخفاء الجمال المعنوي عن عيني، فأتيت أغسل أهدابي بمياهك المقدسة.
جئت لأرطب يدي وعيني برضابك العذب.
ثقل فؤادي علي، فأسرعت لأبعث به معك إلى روح البحر العظيم الذي يناديك من عمق أعماق زرقته البعيدة.
أنت ابن الغيوم، وألعوبة الحرارة الهوائية، وضحكة المادة الدائمة، وقهقهة الجو بين الهضاب والأودية. أنت قبلة الشمس للبحر. أنت أنشودة الجبل في الوادي. أنت الروح الصغيرة المسرعة إلى أحضان الروح الكبيرة.
أنت عميق كأسرار الجنان، عذب كنظرات الولهان، وفي اسمك ألوان وألحان.
أنت تهلمم
1
بي، أيها النهر، فخذني معك بعيدا عن الحياة وضوضائها، خذني معك ... لكن ما هي نسبتي إليك ؟
أنت مجموع سوائل لا وجدان لها، ولا قلب يخفق بين أجزائها، وأنا ... أنا شيء آخر. أنت لغز بين البحار والآفاق، وأنا لغز بين الحياة واللانهاية. أنا أعرف أني لا أفهمك، وأشعر بجهل الإنسان وشقائه، أما أنت ... ما لنا ولك؟
سيري، أيتها المياه، سيري واتركيني. اسقي النباتات والأعشاب، ضعي لآلئ في ثغور الورد، رطبي صدر الأرض الملتهب، ترنمي في وحدة الوادي، أسردي حكايتك التي لا تنتهي. اندبي هللي، اصرخي اهمسي، أنشدي انحبي، اطربي احزني. كل هذا ننسبه إليك. نحن أبناء النشوة والكآبة.
سيري أيتها المياه ودعيني أبكي. لقد تلبد جو فكري بالغيوم القاتمة. وقلبي - ما لك وله! - منفرد حزين ...
الساعة المفقودة
جعلها أرباب التجارة حلية نسائية، وأتقن الجوهري وضعها في سوار ذهبي، فكانت نصيبي في الشراء.
صورة مصغرة للكون، كذلك كانت ساعتي: مساحتها رمز للفضاء، دورتها مسرح اللانهاية، حدودها حدود اللامكان، علامتها مقاطع الوقت الذي رتبه الإنسان، ساعاتها مقياس الأعمال، دقائقها خوف من هجوم الرزايا وترقب لوفود الآمال، ثوانيها دقات القلب ... من الثواني يتألف الزمان، ومن نبضات القلب تنسج الحياة نسجا.
فيا لهول ثواني الزمان! ويا لهول نبضات قلب الإنسان! بين ثانية وثانية يلتقي العدوان في أحشاء الثرى: الماء والنار، فتميد الأرض بمن عليها، وتتفطر أساساتها فتقذف البراكين مقذوفاتها الجهنمية وسوائلها النارية، وتزفر الطبيعة زفرتها القتالة فتلتهم صروح العمران، وتفتح صدرها مرحبة فيتدحرجون إلى الهاوية التي ليس فيها من يعود على وجه البسيطة مخبرا.
بين ثانية وثانية يتلاقى الجيشان في ساحات الوغى فتدوي رعود المدافع في الفضاء، وتختطف بروق السيوف غالي الأرواح. ولأجل كلمة غالب أو مغلوب تندك عروش، وتنتصب عروش، تدمر ممالك ويعمر سواها، تخرب مدائن ويشاد غيرها، يتجندل أفراد وتفنى مجاميع، فترتدي الأقوام سواد الألوان وفي نفوسهم لوعة الفقدان وسواد الأحزان.
بين ثانية وثانية يموت أمل ويحيا يأس، تبتسم شفة وتدمع عين، يخون صديق ويخلص عدو، بين الثانية والثانية!
وبين نبضة ونبضة هناك سر الأسرار؛ دماء منبعثة إلى القلب ودماء منبعثة منه، تتهافت عليه جراثيم الموت فتخرج مطهرة حيوية . بين النبضة والنبضة تأثيرات تهتز لها أسس العمر، وانفعالات تشخص لمرورها ذرات الكيان. اشتعال الفكر وخمود العاطفة، ظفر البلاهة وتقهقر النبوغ، لذعات الغرام والحسرات العظام، قنوط ورجاء، سعادة وشقاء، هتاف الروح المسلمة ولهاث الروح المودعة. •••
يا ابنة أبيك! يغدرنا الزمان ساعة الرجاء، ويخوننا يوم الصفاء، ويهجرنا حين اللقاء؛ فأنت غادرة خائنة هاجرة كالزمان، يا ابنة الزمان!
كم من ساع طيبات وقعت مرورهن على دوران عقربيك وفكري يناجيك بأحاديث هداه وضلاله! أبتسم لك عند السرور فأتخيلك صامتة تبتسمين، وأتنهد حيالك يوم الأسى فأحسبك تتنهدين وتحزنين، وكأن عقربيك ذراعان يمتدان نحو العلاء مستغيثين متوسلين.
لما أفنت قلبي وحدة القلب ضغطت بك على ساعدي قائلة: «أنت الصديقة التي لا تخون.» ولما مزقت سمعي أكاذيب الناس وأحاديثهم المؤذية خاطبتك قائلة: «أنت لا تؤذين لأنك لا تتكلمين.» ولما أذابني الجهل بدعواه، والغرور بسخافته، نظرت إليك قائلة: «أنت عالمة لذلك تصمتين.»
وكنت تعزيتي.
وكنت زماني، يا ابنة الزمان!
وعلى هذا ما كان أطول إعراضك عني، وأقل اهتمامك بي! في النهار، كنت تطوقين ساعدي فيوجعه أثر سلسلتك، وأجيب أنا على هذا العنف بلمسة التلطيف. وفي المساء، كنت تستريحين بجوار وسادتي، فأوقع على موسيقاك الساهية ألحان أحلامي وآمالي، وفي المساء، كنت أول عين أشاهدها، وأول روح أستجوبها.
كل ذلك وأنت لا تنتبهين.
وها قد هجرتني. فقدتك وفقدتني، فسيري بحراسة الله وانسيني!
ولكن انتخبي اليد التي ستطوقينها!
فإذا وقعت في يد شرير وقصد استعمالك ليؤذي أخا له، فانقلبي أفعى لساعة ولا تبرحي مفرغة فيه سمك حتى تصرعيه قتيلا. ... لكن لا! لا، ليس الأشرار إلا ضحايا البشر وضحايا نفوسهم لو كنت تعلمين، وهم أخلق بالرحمة من الأخيار الصالحين؛ فلا تتحولي حية ولا تؤذي شريرا، بل غادري تلك اليد المسكينة، واسقطي في طريق أب فقير صالح؛ لتكوني نصيب فتاة لم تلبس في حياتها حلية. زيني يدا شوهت خشونة الخدمة جمالها، ونامي على زند الفتاة الغريبة بدلال القبلة والتحبب! نامي هناك وأسعدي، ولو ساعة، قلبا بائسا يحسب السعادة في الغنى!
نامي هناك وانسيني، ولكن!
إن كان لديك ذاكرة تذكر، يا ساعتي الصغيرة المحبوبة، اذكري لحظة ما شهدته معي من المسرات واللهفات، اذكري واحفظي ما تعرفين.
ولكن ألست ابنة الزمان الذي ننسب إليه في ضعفنا كل شيء، وهو في قوته لا يبالي بشيء؟ ترى بأي حافظة تذكرين، وبأي ذهن تتأملين؟ إنما علاماتك مداد قد تحجر، وعقربك أصبع يشير إلى علامة يجهل منها المعنى، وأنت آلة ليس إلا، وإن كنت آلة الآلات المثلى.
أنت ابنة الزمان الناسي.
وأنت مثله لا تذكرين!
يا سيدة البحار
أسمعت ما طيرته عنك البروق وما قالته فيك الأنباء؟ لوزيتانيا! أبلغك ما بلغنا وتعرفت ما يكتبون؟
قولي!
أتمردت أرواح الكهرباء في الفضاء، وثارت قوات العناصر في أعماق السماء! أم هجمت أسد البحر على الأسلاك الممدودة تحت الماء طالبة من معارف البشر لداء خفي شافي الدواء؟
قولي! أسمعت بما أذاعته عنك الأنباء؟
لوزيتانيا، أجيبي!
أنت التي خضعت لها رقاب الأمواج أعواما، ولثمت المياه موطئ قدمها شهورا وأياما، أنت التي ذاب لحر أنفاسها جليد البحار القاصيات، وابتسمت لقدومها شموس السواحل الدانيات، أيتها الهازئة بهيجان العواصف، وثورات اللجج، وغضب البراكين، يا صلة العمران النشيطة بين العالمين!
يقال إنك غارقة يا ذات الدلال السائر، ويذاع أنك مندحرة يا قاهرة العنصر القاهر، أصحيح ما يقولون وما هم مذيعون؟ تقعين صريعة نيران الجبار العنيد؟ تتضاءل منك القوى إزاء بطشه فيذوب منك حتى صلب الحديد؟
أنت التي قطعت المسافات الشاسعات ببسالة باسمة، وملأت وحشة البحار الواسعات بزفرات الإنسان وأصواته، أنت الآملة بكل شيء لأنك يائسة من كل شيء، أيتها المرأة المتنمرة، كيف لم تجيبي على صواعق الإنسان بصواعقك المنتقمة؟
ألا تذكرين يوم غادرت العالم الجديد تحملين للأجسام طعاما، وتنقلين للنفوس غذاء، وتمثال الحرية يحييك بقبسه المحيي ويتمنى لك سفرا سعيدا؟ يوم شيعتك أنظار وقلوب وقد أودعتك أموالا وأسرارا وأرواحا غاليات، ألا تذكرين؟ كيف لم تصوني وديعتك سائرة بها إلى مرفأ الأمان سالمة؟ كيف لم تحرصي على ما ضممت إلى قلبك، أيتها العاشقة الصامتة؟
لوزيتانيا! لوزيتانيا! لقد ذقت رعشة الموت، يا ضحية الحياة! وعرفت معنى الأبدية، يا أثر الفكر الزمني!
في أحضان المياه الدامسة حيث لا شموس ولا كواكب ولا أقمار، حيث يتموج من العناصر الاسوداد والاخضرار، حيث لا كلام سوى دمدمة العواصف الهائجة على صفحة الماء، ولا صوت غير صدى الصواعق المنبثقة من جبين الأفق لتخترق وجنة الغبراء؛ حيث تمر أفكار البشر على الأسلاك البحرية صامتة؛ حيث لا أنين ولا نواح ولا إنشاد، في أحضان المياه الغدافية،
1
في الهاوية المرعبة هناك تندثرين، تندثرين في كهوف نبتون السائلة، وفيها متلاشية تقطنين. هناك تحتضنين وديعتك التي لم تستطيعي صيانتها في الحياة، فتكونين في الردى لها من الصائنين.
هل من دمعة تصل إليك مخترقة مياه البحار؟ هل من قبلة تهبط نحوك مداعبة ما لديك من الأسرار؟ لكن قد كفنك السكوت الدائم والجمود المتحرك الذي لا قبلات لديه، ولا دعابة، ولا عبرات.
لوزيتانيا! لوزيتانيا!
سوف ينتقم لك البشر من البشر، سوف يقيم التاريخ لك ولأخواتك جميل الآثار، سوف تنظم لك الأناشيد، ويعزف لذكرك طروب الآلات.
وإذا سئلت في أعماق الهاوية عن الإنسان الذي أبدعك واستخدمك قولي إنه ما زال كبير المطامع، موفور الغرور، إنه في غروره قد أحبك وبكاك، وإذا سألتك روح الهاوية مذهولة: إذن كيف فتك بك؟ أجيبي بما يقولونه في ربوعنا من أن الذي قضى عليك ليس التحالف الملقب بالإنساني، بل المبطاش المنعوت بالجرماني ...
بكاء الطفل
سمعت الطفل يضحك فاختلجت روحي الأثيرية في جسدي الترابي. إن صوت هذا الرضيع ليرجع صدى أصوات الملائكة، وضحكته البريئة المطربة لتحث المفكر على اكتناه الأسرار الأزلية الغامضة.
ثم سمعت الطفل يبكي فهلع قلبي فرقا، وشعرت بشيء كبير يذوب فيه. أواه من بكاء الأطفال! إنه أشد إيلاما من بكاء الرجال!
سمعت الطفل يبكي، ورأيت العبرات تتحدر على وجنتيه الورديتين، فكانت تلك اللآلئ الذائبة جمرات نار تكويني.
ظل الطفل يبكي ودلائل العجز واليأس بادية على محياه الوسيم. ظل يبكي بكاء متروك منفرد لا يحبه في الدنيا أحد. الطفل الحبيب يبكي، فكيف أعيد التألق إلى عينيه ؟ كيف أسمع في ضحكته صدى أصوات الملائكة مرة أخرى؟ •••
فدنوت منه متوسلة، وضممته إلي بذراعي التي لم تضم يوما أخا أو أختا صغيرة، وأجلسته على ركبتي حيث لا يجلس سوى الأطفال الغرباء، ورفعت عقارب شعره عن جبهته الظاهرة بيد ترتجف كأنما هي تلمس شيئا مقدسا. ... ثم وضعت على تلك الجبهة شفتي ساكبة في قبلة كل ما يحوم في جناني من شفقة وانعطاف. ترى من ذا ينبه الانعطاف والشفقة بمقدار ما يفعل الطفل الباكي؟
صمت الطفل حائرا لأنه شعر بأن روحا تناجي روحه. صمت هنيهة، ثم عاد فحدق في بعينين ملؤهما الحزن والتعنيف معا. أتعرفون كيف تحزن عيون الأطفال؟ أتعلمون كيف تعنف أحداق الصغار؟ حدق في سائلا عن أعز عزيز لديه وقال بصوت هادئ كأصوات الحكماء: ماما، ماما! •••
صغيرك يناديك فلماذا لا تجيبين، يا أم الصغير؟ لست بالعليلة؛ لأني رأيتك منذ حين تميسين بقدك تحت قبعتك، والجواهر تطوق العنق منك. أنت صحيحة الجسم، فلماذا لا تسرعين؟ ألا تحرقك دموع الطفل الذي لا ترين؟ ألا يوجعك الشهيق الذي لا تسمعين؟
عودي من نزهاتك الطويلة، وزياراتك العديدة، وأحاديثك السخيفة، عودي واركعي أمام الصغير واستميحيه عفوا.
لقد خلقت امرأة قبل أن تكوني حسناء، وكيفتك الطبيعة أما قبل أن يجعلك الاجتماع زائرة.
تعالي واسجدي أمام السرير، سرير الصغير!
اسجدي أمام هذا المهد الذي لعبت بين ستائره طفلة، وحلمت به فتاة، وانتظرته زوجة، فما خجلت أن تهمليه أما.
اسجدي أمام المهد؛ فإن المهد محجتك القصوى!
اسجدي أمام السرير، ولا تدعي رب السرير يبكي لئلا تملأ قلبه مرارة الوحدة، حتى إذا ما شب رجلا تحولت المرارة كرها وصرامة.
اسجدي أمام السرير وناغي الصغير! إن دموع الأطفال لأشد إيلاما من دموع الرجال.
دمعة على المغرد الصامت
ما أسرع ما تتمزق أثواب الورود! وما أتعس القلوب الشديدة التأثر!
يمر النسيم العليل على الأزهار النضرة فتتشقق بوطئه جلابيبها، وتنتثر وريقاتها. كذلك تكفي ملامسة الألم النفس المنفردة ليثير منها الأشجان، ويستقطر من محاجرها العبرات.
من الرجال من يكتفون بالمجد والوجاهة والفخر ، ومن النساء من لا يفهمن الحياة إلا بالزينة والغنى وارتفاع القدر.
أما أنا فلا هذه العطايا تغرني، ولا تلك المواهب تستهويني. شيء واحد تام الجمال، في تقديري، هو ما يشترك في تركيبه قسم كبير من الفكر وقسم أكبر من القلب، شيء واحد ينبه إعجابي، وهو ما كان مترفعا عن الصغائر والدنايا؛ هو زهرة نادرة المثال، شمس الذكاء والمعرفة تحييها، ومياه العواطف العذبة ترويها.
ما أتعس القلب الحساس وما ألينه؛ لاستحكام الجراح في ثنياته! •••
طائر صغير نسجت أشعة الشمس ذهب جناحيه وانحنى الليل عليه فترك من سواده قبلة في عينيه. ثم سقطت عليه يد البشر فضيقت دائرة فضائه وسجنته في قفص كان عشه في حياته ونعشه في مماته.
طائر صغير أحببته شهورا طوالا. غرد لكآبتي فأطربها، ناجى وحشتي فآنسها، غنى لقلبي فأرقصه، ونادم وحدتي فملأها ألحانا.
امتزج ذكره بحياتي فحل عندي محل صديق لا تصلني به اللغة، ولا يقربه مني التفاهم الروحي، بل يعززه إلي حضوره الدائم وإن لم يبال هو بحضوري، وصوته الرخيم وإن لم يغرد إلا لأن التغريد من طبعه، وسروره الذي لا يعرف الكآبة، واصطباره على ضيق الفضاء، وقناعته بما قدر له من النور والهواء.
لما أبكتني الآلام أريته منديلي مبللا بالدموع فأعرض عني. إنما تستدر الدموع ظلمة الأحزان كما يستدر الندى ظلام الليل، وروح الأطيار شعاع مغرد، فكيف يتفهم النور الظلام؟
ثم أشرت بيدي إلى الأثير البعيد لعلي أرى من طائري زفرة تنبئني عن لوعة في قلبه، ولكنه أخذ يتنقل على قضبان قفصه غير مبال بي، كمن يقول: «النور لا ينظر إلى الشمس، والقلب لا يحدق في الروح؛ لأن كليهما واحد. أنا لا أنظر إلى الأثير؛ لأن في نقطة منه. إني فيه وإن بعدت عنه، كالشاعر الذي يظل محلقا في سماء الخيال والمعاني، وإن وثق الناس من أنه يجالسهم مصغيا إلى أحاديثهم.»
وإذا أتيته بالأزهار نازعة عنها وريقاتها، فارشة بها مهبط القفص لعلي أرضيه، شرع يدوسها استخفافا متابعا تغريده، كأنه فيلسوف لا يكترث للصغائر وإن جملت منها المظاهر، ولا يهتم إلا بما ينبه قوى البحث والتفكير في جنانه.
في الصباح، كنت أفتح عيني فيستقبل استيقاظي بالغناء، وتسيل موسيقى أنغامه على قلبي فتذيبه وتسكره معا.
وفي النهار كنت أجلس للدرس والتحبير، فتشمئز نفسي أحيانا من عبوس الكتب، ويثقل يراعي في يدي كأنه صولجان تنازل عن ملكه، فيأخذ كناري في الزقزقة والتغريد، وتأتي جماعة طير من الخارج فتتوحد التغاريد عند نافذتي كما تمتزج الألحان في قلب الأمواج؛ إذ ذاك تبتسم الأفكار على صفحات الكتب أمام ناظري، ويتمايل قلمي تمايل الصفصاف قرب الغدير، وتنجلي الغيوم عن صفحات نفسي، وتطرب روحي.
وفي المساء، كان الكنار يصمت إجلالا لقداسة الظلام، فيخفي رأسه بين جناحيه، ويجمد جمود المفكر. ساعتئذ تأتي بنات خيالي محلولة الشعر، وورد الابتسام منور على شفتيها، ومصباح الشعر متقد في يمينها، فتعقد حلقة وتدور راقصة حول أحلامي، ومنشدة أناشيدها بألحان سرية كأعماق اللجج، أناشيد عجيبة لم يسمعها إلا خيال روحي المتهادي بين أولئك العذارى الراقصات. ولم أفهمها إلا بحاسة سادسة تنبثق في قلب الشاعر في ساعات الوحدة والكآبة، بينا ملوك الجوزاء تطل في أعالي علاها ناظرة إلي من نافذتي المفتوحة على آفاق الليل، والكنار يرقبني بعينيه المخفيتين تحت جناحيه الذهبيين. •••
والآن أنظر إلى القفص!
لقد صمت الطائر المغني، وجمد الشعاع المحيي، فلا ترى في القفص إلا قليلا من الشمس المائتة!
مات الصغير الغريد، مات صغير حشاشتي!
مات عند بزوغ الفجر وقبل انقضاء الربيع، ولا يبقى في خاطري إلا أثر من ذلك اللحن المتواضع البديع. شعاع ذهبي أطل حينا واختفى في كبد الآفاق، ابتسامة لطف أشرقت، وما لبثت أن توارت في أخفية الظلام.
نور فكر ضاء ثم اضمحل في لجج العدم، وردة أثير تنفست فعطرت وأسكرت، ثم ذبلت.
نغمة حب تموجت ساعة ثم تلاشت في هاوية السكينة.
صديق صغير غرد فأطربني، وسكن في جواري فآنسني، ولما مزق قلبي العالم بشره وصغائره غنى طائري فأنساني قبح القباحة، وجعلني أفكر في كل حسن بهي.
هذه قيثارتي فقدت أحد أوتارها فناحت بلابل أنغامها.
فما أتعس القلوب الشديدة التأثر! وما أمر الجرح الصغير الذي يفتح جراحات كبيرات! •••
سر الوجود وسر الفناء من يستطيع اكتناههما؟
في كل ذرة من ذرات الكون ظمأ لارتواء خمرة الحياة، وشوق مبرح للنمو وبلوغ أكمل الحالات الممكنة. فما غاية هذا الشوق؟ ولماذا وجد ذلك الظمأ؟ إذا كان الفناء كعبة الكمال ونهايته؟
أتلاشى ما كان في طائري من أنس وإيناس؟ أضاعت نفسه الصغيرة الحلوة في الأثير كما امتزجت تغاريده بأمواج الهواء وعناصر جسمه بالتراب والماء؟ أم هو يحفظ جوهر ذاتيته ويظل هو هو في مجاهل الفضاء؟
علام وجد؟ ولماذا قضى؟
ألهذا الفناء ترقى نوعه حتى صار طائرا غريدا؟ أعاش يوما وكان من نصيبي لكي يطربني ثم يوحشني، يزيل كآبة نفسي حينا ثم يتركني حائرة في أمره وأمري؟
أين الحكيم يكشف لنا هذه السرائر ويزيح الستار عما في الحياة من الغوامض؟
وأنتم أيها الموتى، أطيارا كنتم أم بشرا، ألا تنطقون مرة واحدة لكي تفضوا إلينا بما طوي من الأسرار وراء حجب الردى؟ ألا تهمسون في نفوسنا بالكلمة الأولى من اللغز الأزلي السرمدي الكامن في ضمير الوجود؟
نحو مرقص الحياة (1)
... ولما انتهى دور الوقوف في الكوة وجدتني بين الجماهير ووجهتي مرقص الحياة، جاهلة من ذا يسيرني وإياهم، وبأي دافع هم يسيرون، فتناولني حينا دوار الاختلاط بالجمع الكبير، إلا أن الشخصية العامة لم تستول علي فتغرق في قدرتها عجزي، بل بقيت أنا تلك الصغيرة الضعيفة الحائرة وسط المعضلات والرزايا. ولم يفتأ ذلك الوحي المعذب يهمس في سورته، وذلك الاحتياج المتوهج يضرم في ناره، ففهمت أمرا آخر؛ وهو أنه حيث تكون العاطفة متيقظة مرهفة، فهناك النزاع الأليم والاستشهاد، وإذا رافقتها الأنفة وشرف السكوت على مضض الحروق والكروب، فهناك مأساة الصلب تتجدد مع الأيام ...
نحو مرقص الحياة (2)
في ليل مسترخي السدول سرت على شط بحر الأيام مع السائرين، سرت نحو مرقص الحياة في ليلة غار نجمها وادلهم ديجورها؛ على شط بحر الأيام سرت مع السائرين بين ما طمسته عصور، وخلفته عصور، وشادته عصور، على شط بحر الأيام سرت أتلمس سبيلا قريب المنفذ نظيفا أنيقا، لئلا تلطخ الأوحال نعلي الإغريقي الأبيض، وتمزق السموم وريقات زهرة رأسي، زهرة الياسمين التي زنت بها رأسي.
أنوار المرقص هناك عيون تناديني، وفي كل من قدمي جناحان يحثانني على الرقص قبل الوصول. يا لطول الطريق المتشعبة في الدجى! يا لطول الطريق! ويا لهول الطريق! أليس من هاد يهديني بين جماهير السائرين؟ •••
جاءني خيال سائلا وفي صوته لهجة المتأدب: إلى أين تقصدين؟
قلت: أرأيت القصر العظيم الذي تتهامس في صدره أسرار الألحان، ونوافذه ألحاظ أنوار تناديني؟ أرأيت القصر العظيم؟ إنما إليه أقصد لأنه مرقص الحياة.
قال: وما عملي إلا قيادة الناس إلى المرقص، قيادة من شاء من السائرين.
قلت مبتهجة: أصحيح ما أنت قائل؟ ومن أنت إذن لتفعل ما أنت فاعل؟
قال يقدم نفسه: أنا الغريب. أنا الغرباء. أنا التاجر والطبيب والمهندس والمحامي والنائب والحاكم. أنا العامل والخادم، والباني والهادم، وأنا المتهم والقاضي. أتعاطى جميع الحرف، وأعمل للناس وهم لي يعملون. أخدمهم في بابي ليكون كل منهم لي في بابه خادما. أقدم لهم ما لا يحصلون عليه بدوني، وأعقد فيما بينهم بروابط لولاها ما تبودلت فائدة، ولا اشترك في منفعة. أنا الغريب الذي تجعله المصلحة قريبا لكل غريب.
قلت: عرفتك يا سيدي. هذا سواري أعطيكه فقدني نحو مرقص الحياة.
في مركبة الغريب سرت مسافة طويلة، قطعنا جبالا وأودية لم أر منها الصعاب، ولم تتعثر قدمي فيها بالصخور، وإذ وصلنا سلسلة الأطواد المتساندات في حدود الأفق، ودعني الغريب لأن مركبته لا تستطيع المسير، ودعني الغريب ومضى. •••
دار المرقص اقتربت منها قليلا، ولكن بيني وبينها سلسلة الأطواد المتساندات. رأيتني وحدي، فلذعني البرد، وهددتني دياجير الآفاق، وشاكتني أشياء لم ألمسها بيدي. وإذا خيال يقترب متعمدا مماشاتي، فوقفت واجفة وسألت: من أنت الذي تعترضني في طريقي؟
أجاب وفي صوته شر واستهزاء مهين: من أنا؟ أنا الدياجير المهددة، وأنا الأشياء الشائكة في الظلام. أنا النميمة والاغتياب والوقاحة والشراسة والامتهان. أنا الشفة التي تبتسم هازئة لأن وراءها أنيابا تنهش نهشا . أنا اليد التي تضرب لتثأر بلا ثأر. أنا القلب الذي يكظم الحقد والضغينة بسبب وبلا سبب. أنا الكيد والغيرة والخبث والحسد، وأنا الذم القبيح المختبئ وراء شهد التمليق وتكلف السكوت. أنا العدو. أنا الأعداء.
قلت مرتعشة: لعلك تعني سواي بهذا الكلام. أنا لا أكره أحدا، ولا أحقد على أحد، ولا أعداء لي. وإذا صدر مني أذى فإما عن سهو، وإما عن سوء تفاهم، وأنا أول من يتألم له بعد حدوثه.
أجاب وقد تضخمت معاني البغض في صوته: بل إياك أعني، أنا عدوك أنت ولا أستطيع أن أكون لك إلا ذلك. عبثا تتحاشين طريقي، وعبثا تتبعين سبل الحذر والتحفظ. سوف أؤذيك بأصغر الأسلحة، وأوفرها اقتدارا، وأحدها مضاء، وأبعدها عن منطقة العقوبة: اللسان.
وبينا كلماته تنقض علي كالصواعق، توارى عني ففطنت لنفسي. فطنت لنفسي فوجدتني أقطع نفقا ضاق منه الجو، وثقل فيه ضغط الهواء، حتى خلته قبرا ملأته عقارب توجعني، وحيات تلسعني، وألسنة لهيب تكويني. سرت هائمة والعبرات متحجرات في أقاصي قلبي. ولما عثرت على منفذ أخرجني من النفق الرهيب، وجدت تحمسي يأسا، والأجنحة في قدمي أغلالا. خلفت سلسلة الأطواد المتساندات، ولم يبق بيني وبين المرقص إلا منبسطات السهول. عندئذ بكيت ثم مسحت دموعي المتسابقات لأفسح مجالا لدموع جديدات، ثم قلت: ترى لأي شيء يوجد في الوجود شيء؟ •••
بلطف النسيم امتدت اليد إلي. يد ترسل أناملها نورا، وتبعث من حركاتها حرارة تدفئ روحي. ولما أن أجفلت قال صاحب اليد: هاتي يدك.
فنظرت إلى الخيال قائلة: كفاني ما لقيت من الخيالات في طريقي. إني لا أطلب مساعدة أحد، وقد عدلت عن الذهاب إلى المرقص، فدعني وحيدة في كآبتي، دعني في سآمتي ويأسي وحيدة.
قال: لا أستطيع أن أدعك هنا، ولا أنت تستطيعين إلا قبول مساعدتي.
قلت: كيف ذلك؟ ومن أنت؟
قال وكأن ابتسامات الملائكة قد تجمعت في صوته إخلاصا وحلاوة: أنا الصديق. أنا ذاك الذي يشعر ويدرك ويفهم ويعلم. أنا ذاك الذي يعلم. أنا التعزية وموضع الثقة والأمان. أنا الصديق.
قلت: لا ثقة لي بأحد، وأنا لا أعرفك ولا أريد أن أعرفك.
قال: إرادتك وعكسها عندي سيان. هذه السهول لا يعرف خفاياها غيري. طريقك فيها وليس لك من دليل غيري. وعندي لك رسالة وقد جئت مرغما لأبلغها إليك.
قلت: ممن هذه الرسالة؟ وما هو مضمونها؟
قال: لا أدري. لقد دفعتها إلي يد الخفاء، وحجمها في نفسي يدلني على أنها ليست لي، ثم زاد وفي صوته إلحاح وكآبة: خذيها، هي لك! وستعلمين سرها ساعة تأخذينها وتناولينني رسالة أخرى لي عندك. كذلك قال لي الصوت المجهول الذي بعث بي إلى هذا المكان. خذي ما لك وأعطيني ما لي! •••
إلى بحر الأيام، حولت نظري طالبة إرشادا، إلا أن صوت الأمواج متشابه لمن لا يسأل، ولكن في أنة الأمواج لكل سائل جوابا، فارتفع الحباب قليلا قليلا ونمق لي الأمثولة بحروف فضية: «يقسم المرء الناس إلى غريب وعدو وصديق؛ فذاك يبتغي الدرهم متاجرا متأدبا، والآخر لا يظهر إلا معاندا معذبا منتقما، وهذا يتكلم باسما ودودا فينطلق صوته وبسمته إلى سويداوات القلوب، ويستقر صوته وبسمته في سويداوات القلوب. وما كان كل من هؤلاء إلا مؤدبا مرشدا إلى سبل الحياة، وما كان كل منهم إلا أستاذا يدرس عليه ما لا يعلم من سواه؛ لأنه يحمل في يده رسالة خفية قد أؤتمن عليها من آلهة الغيب والأسرار.» •••
على شط بحر الأيام سرت مع السائرين. ومن منهل الغبطة المتدفق في سكبت تعزية. ومن الشمس المنيرة في جناني وزعت أنوارا على الذين معي من السائرين. وزعت من شمس جناني أنوارا ومن منهل غبطتي تعزية على المحزونين من السائرين.
الذكرى الجديدة
أصبحت اليوم وبين يدي ذكرى جديدة حارة تتضور وتتأوه وتتلوى كالنفس المترددة بين البقاء والانتحار، وأخذتني منها شفقة فحملتها برأفة إلى معبد الأذكار القائم في أعماق روحي.
عبرت العتبة متأنية والتهيب يلاشي وقع خطواتي، وجثوت بين تذكارات متبحرات في شفق التأمل العميق؛ حيث لكل ميت مضى اسم، ولكل حدث انقضى رسم، فتقلصت التذكارات من ذواتهن الهيولية، وحنون علي هامسات وقلن: «نحن فيك وأنت فينا.»
فرددت همسهن وقلت: «أنا فيكن وأنتن في.»
ونهضت بالذكرى الجديدة أعين لها مستقرا، فاستوت على متوسط المذبح، وأخذت أنسق أمامها طاقات الأزهار، وأنثر على جوانبها فرائد العطر والندى، وأوقد حولها الشموع والمصابيح، وأذكي نار المجامر بالمر واللبان، ثم وقفت أرقبها بانشراح؛ إذ رأيت الهدوء يباغت اضطرابها وتوجعها.
وفي النهاية مشيت متراجعة إلي المدخل. وبعد نظرة الوداع غادرت معبد الأذكار وبي ارتياح من أدى واجبا عزيزا، وفخر من أتى أمرا عظيما. •••
والآن ستتسارع الشهور حتى تنتظم أعواما، وتتساند الأعوام حتى تترتب عقودا، ويتقاذفني موج العمر فلا أعي يوما إلا وأثر ذكراي الخفي يبدو في جميع أعمالي.
فإذا تكلمت واتخذ صوتي قرارا بعيدا كان متكلما فيه صوت ذكراي.
وإذا أحرجني موقف فأحجمت، فهممت، فأقدمت، فتجاوزته إلى غيره، كان الفضل لأمثولة ألقتها علي ذكراي.
وإذا سرت أحيانا بخطوات يخلن لتريثهن مفكرات بأرض يطوينها، كان ذلك التباطؤ هوى من إهواء ذكراي.
وإذا استفزني التحمس لمظلوم واستبسلت في الدفاع عن ذي حق، فما ذلك إلا مكافحة لطغيان استدر الدموع والدماء من قلب ذكراي.
ذكراي.
وإذا شعرت يوما بزمهرير البحار المتجلدة يجاور في كياني تأجج الرمضاء المستعرة، وتلاطم بين جوانحي هبوب الصرصر بلوافح السموم، فما ذلك سوى ثورة جديدة تقوم بها عناصر ذكراي.
وإذا شمت خيرات العالم فقرا، وازدحام العالم قفرا؛ فلأن لا ائتناس ولا غنى في غير عالم تبدعه ذكراي.
وإذا رآني جليسي وناظراي يخترقانه إلى أبعاد شاسعات؛ فلأني ألمح بين طبقات السحب خيالا من ذوي القربى لذكراي.
وإذا نما حبي بغتة واحتوى الموجودات بقوة كأن الروح الكلية اتخذته لحظة رسول عطفها على الخلائق، فما ذلك إلا اختمار فطير ذكراي. •••
وعندما أعود إلى منشأ الكائنات ومرجعها، وأرقد بين جلال المدافن في قبري الضيق؛ حيث تنقلب صورتي البشرية ترابا، فهباء، وينحل ما ارتبط من اسمي الصغير، فلا تمثل الميم منه والياء سوى حرفين من حروف الأبجدية فحسب، يومذاك سيكون التماسك والحياة نصيب ذكراي.
وبعدئذ ستمر الذراري الجديدات وتحل محلها الذراري اللاحقات، فتجلس فتاة في صباح خريف شجي كهذا الصباح على مقربة من نافذتها وراء الأستار المخرمة، وترسل نظرها إلى الأفق الذابل يتفتنها سحر الطبيعة ساكبا أنوار الفجر في نقي السحاب، وتسأل نفسها: «أين السعادة؟» فتتملكها رغبة فجائية في ركوب تلك السحابة ذات الشكل الطودي واثقة من أن السعادة كلها في اعتلاء متن النور والهواء.
فتاة المستقبل سترجع بعد حين وتضحك من رغبتها قائلة: «إن هذا لجنون!»
أما أنا ابنة الحاضر، فأعلم منذ الساعة أن تلك الرغبة في النفس الصغيرة المجهولة سوف يثيرها عمل الذكرى التي أدخلتها معبد الأذكار، ووضعتها على المذبح حارة تتضور وتتأوه وتتلوى كالنفس الحائرة بين البقاء والانتحار.
العيون
تلك الأحداق القائمة في الوجوه كتعاويذ من حلك ولجين.
تلك المياه الجائلة بين الأشفار والأهداب كبحيرات تنطقن بالشواطئ وأشجار الحور.
العيون، ألا تدهشك العيون؟
العيون الرمادية بأحلامها.
والعيون الزرقاء بتنوعها.
والعيون العسلية بحلاوتها.
والعيون البنية بجاذبيتها.
والعيون القاتمة بما يتناوبها من قوة وعذوبة. •••
جميع العيون.
تلك التي تذكرك بصفاء السماء.
وتلك التي يركد فيها عمق اليموم.
وتلك التي تريك مفاوز الصحراء وسرابها.
وتلك التي تعرج بخيالك في ملكوت أثيري كله بهاء.
وتلك التي تمر فيها سحائب مبرقة مهضبة.
وتلك التي لا يتحول عنها بصرك إلا ليبحث عن شامة في الوجنة.
العيون الضيقة المستديرة، والعيون اللوزية المستطيلة.
وتلك الغائرة في محاجرها لشدة ما تتمعن وتتبصر.
وتلك الرحيبة اللواحظ البطيئة الحركات.
وتلك التي تطفو عليها الأجفان العليا بهدوء كما ترفرف أسراب الطيور البيضاء على بحيرات الشمال.
وتلك الأخرى ذات اللهيب الأخضر التي تلوى شعاعها كعقافة كلاب على القلب فتحتجنه، وغيرها، وغيرها، وغيرها.
العيون التي تشعر.
والعيون التي تفكر.
والعيون التي تتمتع.
والعيون التي تترنم.
وتلك التي عسكرت فيها الأحقاد والحفائظ.
وتلك التي غرزت في شعابها الأسرار. •••
جميع العيون وجميع أسرار العيون.
تلك التي يظل فيها الوحي طلعة خبأة.
وتلك التي تكاثفت عليها أغشية الخمول.
وتلك التي يتسع سوادها أمام من تحب وينكمش لدى من تكره.
وتلك التي لا تفتأ سائلة: «من أنت؟» وكلما أجبتها زادت استفهاما .
وتلك التي تقرر بلحظة «أنت عبدي!»
وتلك التي تصرخ: «بي احتياج إلى الألم، أليس بين الناس من يتقن تعذيبي؟»
وتلك التي تقول: «بي حاجة إلى الاستبداد، فأين ضحيتي؟»
وتلك التي تبتسم وتتوسل.
وتلك التي يشخص فيها انجذاب الصلاة وانخطاف المصلي.
وتلك التي تظل مستطلعة خفاياك وهي تقول: «ألا تعرفني؟»
وتلك التي يتعاقب في مياهها كل استخبار، وكل انجذاب، وكل نفي، وكل إثبات.
العيون، جميع العيون، ألا تدهشك العيون؟ •••
وأنت ما لون عينيك، وما معناهما، وإلى أي نقطة بين المرئيات أو وراءها ترميان؟
قم إلى مرآتك!
وانظر إلى طلسميك السحريين، هل درستهما قبل اليوم؟
تفرس في عمق أعماقهما تتبين الذات العلمية التي ترصد حركات الأنام، وتساير دورة الأفلاك والأزمنة.
في أعماق أعماقهما ترى كل مشهد وكل وجه وكل شيء.
وإذا شئت أن تعرفني، أنا المجهولة، تفرس في حدقتيك يجدني نظرك في نظرك على رغم منك.
الحكيم ومطالب الحكمة
كان يتكلم والطلبة حوله ينصتون.
كان يتكلم عن ذلك الاتجاه الفكري في القرن التاسع للهجرة، وقد دعاه العرب «فلسفة طبيعية».
فاستطرد الحكيم قائلا: «وسمي هذا الاتجاه أيضا فلسفة على الإطلاق من حيث إنه مقابل لفلسفة المتكلمين أو الفلسفة الكلامية.
وكان الطب أهم مباحث تلك الفلسفة المشار إلى المشتغل بها بالمزج المعتاد بين لفظتي حكيم وطبيب.
واستمرت تلك الأبحاث إلى القرن العاشر.
فكان أشهر القائمين بها الطبيب الرازي (المتوفى عام 923 أو 932).
عديدة هي الكتب المنسوبة إلى الرازي، وأكثرها رسالات وجيزة، وقد تشتت جزء يذكر منها في مكاتب مختلفة.
ومن تلك المؤلفات كتاب في الكيمياء القديمة أهداه الرازي إلى أمير خراسان، منصور بن إسحاق الساماني.
ولما عجز الرازي عن أن يبرهن عمليا عما أثبته في كتابه مبدئيا ضربه الأمير على وجهه
أحد الطلبة : «فعل الأمير ذلك لأن الاعتقاد بفعل الكيمياء القديمة ضرب من الأوهام، وملاحقة الأوهام توجب الردع؛ فعمل أمير خراسان لم يكن إذن توحشا، بل عقابا عادلا.»
الحكيم (بعد سكوت قصير) : «إذن أنت ترى أن هذا الرجل استحق فقد عينيه؛ لأنه كان يلاحق ما دعوته أوهاما؟»
الطالب : «نعم.»
الحكيم (بعد سكوت آخر) : «إذا كانت ملاحقة الأوهام والاعتقاد بها تستوجب عقوبة العمى، فمن ذا منا يا ترى؛ من ذا من البشر يا ترى يستحق أن يكون بصيرا؟»
ليلة عيد النصر
عاملان اثنان يتجاذبان الجنان: عامل الحزن وعامل السرور، على أن قطرة حزن في عمقها توازي بحر سرور في اتساعه ...
صوتان اثنان يناديان المرء من سحيق أقطاب الحياة: صوت السعادة وصوت الشقاء، فينطلق يعدو والسعادة وجهته، على أن صخور الوعر تهشم قدميه، وأشواك القتاد تدمي يديه، وتأوه الثكل والوداع يفطر لبه، وتجهده المسئولية في معترك الأعمال، فينسى السعادة بين الشفقة والنضال؛ لأن الشقاء حقيقة والسعادة خيال ...
عاملان اثنان يتجاذبان الجنان: الحزن والسرور، على أن قطرة حزن في عمقها توازي بحر سرور في اتساعه ... •••
من لا يذكر ذلك النهار والليلة التي تبعته، يوم قامت دول الحلفاء تذيع بشائر النصر بدوي مدفع طالما هدر لدى الكريهة مجاهرا باستصغار الحياة وإكبار المفاداة؟ من لا يذكر مهرجانا انتشرت بهجته على ضواحي العاصمة، وتقاسم أفراحه صاحب الكف الندي الذي أجزل للمعدم العطاء، وصاحب اليد الفارغة التي أثقلتها أكياس الطعام والحلوى؟
إلا أن نور النهار باهت لزخرف الأعياد، ولا تتم الحفلات وتسطع الزينات إلا تحت رواق الظلام الغدافي.
وأنت، أيها الظلام، أمين على مواعدك، دقيق في الوفاء بها. ما شرعت الشمس مرة في الأفول إلا دنوت أنت متلمسا متمهلا، كأنك ذلك المحب المحبوب الذي ينفث في روع إلفه الكلمة المنتظرة طويلا قبل أن ينبس بها، ويقولها بأساليب شتى قبل انتهاج الأسلوب الأوحد.
واليوم، لدن حلولك، تتكيف غيوم المغرب متلونات وتترجرج خلالها الأنجم الزاهرات، كأن هذه وتلك أوسمة العز، وأشرطة الفخار على صدور الأبطال.
وأقواس النصر هيفاء تحت بنود ألوية تعاقدن عليها، والأنوار تتغامز متفاهمات عن بعد كأرواح الأحباب، وأجواق الموسيقى تنبثق من جميع الشوارع والزوايا، والجيوش تجوب الأحياء بطبولها دون أن يعلم من أين تجيء وأنى تغدو.
ولأسراب الطيارات عزيف إذ تحلق في السماوات العلى باعثات من جوانبها إلى الأرض بذيول الضياء، مرصعات هواء الشفق ببسمة نجوم البرايا لنجوم الباري.
هو ذا مائج على الآفاق لألاء المواسم والأعياد. ومن أحشاء المدينة يصعد هزج النشوة والظفر. كل شيء يلمع ويموج ويهتف ويتلظى. وقد سرت إلي عدوى الطرب، فها أنا أعتلي سطوح الحمى لأشرف على فرح الفارحين وأنال منه نصيبي.
ولكن ...
عاملان اثنان يتجاذبان الجنان: الحزن والسرور، على أن قطرة حزن في عمقها توازي بحر سرور في اتساعه. •••
إذ بينا الإنسان يبتهج حاسبا أن أنظمة الاجتماع قد انحلت، ونواميس الطبيعة توقفت حتى انقضاء سروره، إذا بالنواميس والأنظمة نافذة في أدق مغازيها. ... وفي وسط الهتاف المنسجم تعالت نغمة شاذة.
وقفت عند الزاوية المشرفة على الديار المجاورة أبحث عن مصدر الأجيج، وما لبثت أن عثرت عليه في فاجعة من فواجع البؤس العديدة، تلك التي تذوب حيالها لفائف القلوب.
هاك أربعة رجال على أحد السطوح المحاذية يعالجون أمتعة أخرجت من غرفة صغيرة، ويزجرون امرأة بينهم تتوسل وتنتحب؛ مسكينة احدودب ظهرها، وقبحت هيئتها، ونثر شتاء العمر على هامتها ثلج الشيخوخة. لقد مرت شهور خمسة ولم تؤد بدل الإيجار، فتسلح المالك القوي بالقانون وحجز متاعها ليباع بالمزاد، وأما هي فتطرد طردا من الغرفة الصغيرة القائمة في طرف السطح، وتطرد من المنزل إلى تحت قبة السماء.
الجماهير السعيدة ترقب أفاعي النور التي شرعت تتلوى في الظلام، ترقبها وتهتف، والشيخة التعسة تجيل الطرف وتبكي. وما كانت الدموع لتنقلب يوما ذهبا وفضة يفيها المدين، ويرضى بها الدائن!
هذه هي الطاولة التي تتناول عليها طعامها الغث الجاف، وهذا هو المقعد الذي طالما جلست عليه تستطلع خبايا الليل البهيم، وهذه هي المرآة الكالحة البلور التي ترجع صورة وجهها الكئيب، وقامتها الممسوخة، ودموعها الغزيرة.
وجيع، وجيع مشهد دموع اليأس في المرآة الصلبة الباردة!
كم كانت تحرص على هذه الأمتعة الحقيرة! هي تلمسها الساعة ملاطفة، شاكية، شاكرة، آسفة، إلا أنها لم تعد لها، فمن أين هي آتية بمثلها الآن؟
تعاون الرجال على إخراج أكبر متاع من الغرفة، فهرولت الشيخة إليهم، والزفير في صوتها يقطع الشهيق: هو ذا السرير! السرير الذي طالما أنال أعضاءها الكليلة راحة بعد مشقة النهار الطويل.
وضع السرير بجوار الحوائج الأخرى، ووقفت هي عنده واستولى عليها الهدوء بغتة، وطفق رأسها ينحني ببطء حتى استقر عند نحرها، وظلت كذلك كأنها في جمودها تمثال الحزن على ضريح ميت حبيب.
الجماعات تضج والمدافع تقصف، والأضواء تجعل الليل نهارا وهاجا، غير أني لم أعد أرى سوى نقاب القنوط المجلل وجه الشيخة الذليلة، وكأني لمحت غائرات الكواكب يتشاورن في مؤاساة تلك المرأة الوحيدة؛ الوحيدة وسط ازدحام الجماهير. •••
عاملان اثنان يتجاذبان الجنان: الحزن والسرور، على أن قطرة حزن في عمقها توازي بحر سرور في اتساعه.
صوتان اثنان يناديان المرء من سحيق أقطاب الحياة: صوت السعادة وصوت الشقاء، فينطلق يعدو والسعادة وجهته، على أن صخور الوعر تهشم قدميه، وأشواك القتاد تدمي يديه، وتأوه الثكل والوداع يفطر لبه، وتجهده المسئولية في ميدان الأعمال، فينسى السعادة بين الشفقة والنضال؛ لأن الشقاء حقيقة والسعادة خيال.
عاملان اثنان يتجاذبان الجنان: الحزن والسرور، على أن قطرة حزن في عمقها توازي بحر سرور في اتساعه.
تدافعت الجماهير في الشوارع المؤدية إلى حديقة الأزبكية لحضور المهرجان الأكبر، فهل من باحث يهتدي إلى الشيخة وسط العباب البشري المتزاحم؟
فقدك بصري، ولكني لا أفتأ أتحزن لك، أيتها الطريدة، إلى أين تذهبين؟ أتقصدين إلى جمعية خيرية كلهن الليلة موصدات الأبواب؟ أم تطرقين باب كريم وكرام البشر لا يعبئون بغير لطيف الجمال أنيق الهندام؟ أم تهجعين في مدخل منزل عظيم والناس كالشرطة يعتبرون من لا منزل له لصا متشردا؟ أم تبكين كما رأيتك باكية، وتمدين يدك المرتعشة للتسول فيعرض عنك الفرحون؛ لأن نائحا يعكر صفو الأنس مكروه بحق! أم تستنهضين همة صديق ولست بالشابة المليحة ليتحمس لك المتحمسون، ولا بالوجيهة القديرة ليتقرب إليك المتقربون؟ أم أنت وطدت النفس على زيارة النيل السخي الذي يجود ولا ينتظر وفاء، فتجدين من أمواجه صدرا لينا، ومن أمواهه عطفا عذبا، وتباركين موتا احتضنك عندما نبذتك الحياة. •••
أيا كانت وجهتك، قفي قليلا لأودعك.
نظري بعيد عنك، وإنما هو حائم حولك، وتتبعك شفقتي الدامية، تتبعك روحي المتفطرة معك.
روحي المتفطرة تعانقك، أيتها المسكينة، أشاعرة أنت بوجودي؟ أنا الفتاة أستطيع أن أكون لك لحظة أما، أيتها الشيخة الطريدة. أنت الآن ككل سقيم تحتاجين إلى حنو الأم، وما كان كل ذي أم نائلا من الحياة حنوا! سأهمس في مسمعك كلمات حلوة لا تعرف سرها سوى شفاه المظلومين، وسأمسح عبراتك بأنضر ورود البستان، ثم أهدي الوردة وما امتصته من لآلئ القلب إلى آلهة العبرات والأشجان.
لا تشكي الوحدة، فإخوانك الأشقياء كثير، ولا تندبي حظك فأنواع العذاب جمة، وصنوف الذل لا تحصى. لست بالقبيحة ما كان لك جمال اليأس الرائع، ولا أنت بالعجوز ما ظل منها البكاء فيك فتيا كما كان منذ فجر العالم.
فيك يتجلى الليلة الفرد الجوهري بينا الفرحون يمثلون الفرد المجازي. أنت الذات الجليلة المفجعة وهم الذات الهزلية الطائشة. أنت الحقيقة الناضجة وهم الوهم الخالي. أنت قطرة الحزن التي توازي بحر السرور؛ لأن وراء اللهو والجزل فراغا وخلوا، ووراء الحسرة والقنوط نفسا زاخرة بالعواطف، متسعرة بالحرق، روية بالدموع يتناظر في غورها جبارا الحياة: الممكن والمستحيل.
صوتان اثنان يناديان المرء من سحيق أقطاب الحياة: صوت السعادة وصوت الشقاء، فينطلق يعدو والسعادة وجهته، على أن صخور الوعر تهشم قدميه، وأشواك القتاد تدمي يديه، وتأوه الثكل والوادع يفطر لبه، وتجهده المسئولية في معترك الأعمال فينسى السعادة بين الشفقة والنضال؛ لأن الشقاء حقيقة والسعادة خيال.
عاملان اثنان يتجاذبان الجنان: الحزن والسرور، على أن قطرة حزن في عمقها ترجح بحر سرور في اتساعه.
الطبيعة المعمرة المدمرة
بتلك الشجيرة الخضراء، كنت أزين ردهة الاستقبال كل يوم عيد وكل يوم اجتماع.
وفي أحد الأمساء، وقد خرج الزائرون، سمعنا جلبة سقوط وتكسر، فسارعنا، فإذا الهرة البيضاء واقفة في الظلام وقد دهشت لما نتج عن تلك القمزة الواحدة من قمزاتها العديدة.
وكان الإناء الخزفي قد انقلب وتحطم، فتبعثرت أجزاؤه، وانفصل عنق الشجيرة المليح عن جذعها وتجندل بعيدا كمن يعلم أنه صائر إلى لا شيء بعد الذبول والجفاف، مع وريقات أنيقة لصقت به، فتخللت خضرتها تلك الخطوط الدقيقة من حمراء وبرتقالية وفستقية وصفراء.
فجمدت جمود الآسف.
ثم وضعت العنق الطويل وما انتشر عليه من بهيج الوريقات في آنية طافحة بالماء، لعله يستبقي حسنه أياما أخرى أو ساعات، وأحكمت الجذع وما تشبث به من متراكم التراب في إناء خزفي جديد، وجعلت له مكانا توفر فيه الهواء والنور والحرارة.
وما انقضى أسبوع وجاء آخر إلا وبدت طلائع الوجود في ذلك الجذع المجدوع، وأسفرت عند جوانبه بسيمات خضراء.
فزدت تعلقا به وحرصا عليه، أرقب فيه تفرع قدود الأغصان، وتكون صور الأوراق، ولم يعد ينتظر سوى مرور الأيام لينمو ويتكامل.
فوقفت أعجب به ذات صباح وهتفت قائلة: «بورك بك، أيتها الطبيعة السخية الوهوبة! ما أتلفت يد الضياع ودمرت إلا رممت يد العطاء منك وجددت. سترد إلي بفضلك شجيرتي الحسناء، أضعها في صدر الردهة، فتبدو لي الردهة بها إيوانا صغيرا. بورك بك أيتها الطبيعة الملبية الشفيقة؛ لأن إشارتك الأخيرة هي دوما إشارة الذل والبناء!»
في هذه اللحظة، أقبلت طفلة الهرة المولودة حديثا تفتح عينيها المغمضتين للتعرف بما حواليها. وما لبثت أن لمحت الآنية الخزفية أمامها، فمدت إليها يدها الصغيرة وقمزت إلى حافتها تشتم وريقات النبتة المتجددة. ... ترى، أتأتي البنت ما سبقتها الأم إلى فعله؟
يوم الموتى
ريح خريفية تعصف في الأشجار فتنزع عنها الأوراق، وتسفي التراب فتذره في الجو عجاجا، وأشجان خريفية تشتد في مكامن النفس فتثير فيها تذكارات، وتهيمن على تذكارات.
اليوم تجرحني الأصوات والخطوات والنظرات، وأرى كل حركة يأتيها الناس تمثلا، كأنما الحكمة المثلى لدي في تكتم الصور المتوارية تحت صدرة القبور، وفي هجوع الأشكال المتقلصة لحين ما من أحكام البعث والنشور.
اليوم عيد الموتى، وهذا شهر الموتى. هذا شهر الكآبة المزدوجة: كآبة الحسرة والدموع عند الشعوريين، وكآبة التأمل والتبحر عند الباحثين والمفكرين. للأموات من البشر يعيد المعيدون. وأنا أعيد لمن عاش ومضى، وعلم ونسي، ولما ظهر واختفى، وأبرق وانطفأ؛ أي لكيفيات الحياة المعروفة والمجهولة جميعا.
اليوم عيد جميع الموتى.
عيد العيون الجامدات، والقلوب الساكنات، والأوراق الذابلات، والآمال الذاويات؛ عيد شريف الانكسارات وذليل الانتصارات، عيد آلهة تزلف لها العباد، ونحروا على هياكلها الأفئدة قرابين، ثم قاموا يدكون قوائمها، ويحرقون معالمها ليدوسوا رمادها بأقدامهم الطاغيات؛ وعيد مذاهب شيدت صروحها في مجاهل الغابات، وعلى قمم الراسيات، بما تجمد من دماء القلوب وتصلب من لهب العواطف، ثم انبرى مؤمنو البارحة يصيحون بين جدرانها صياح الهادم الأثيم. عيد كل ما قدس من رمز ثم احتقر، وكل ما فوخر به من رأي ثم دحر. عيد مدنيات دون العلم ارتفاعها واندثارها، ومدنيات غور ذكرها في غلس التاريخ وما زالت حية ظاهرة في استعداداتنا وميولنا. عيد عوالم خبت أنوارها في الإطار الفلكي، وتطايرت غازاتها، وتفتتت أجزاؤها متفرقة في المدى الشاسعات؛ لينضم كل منها إلى ما يجذبها من عنصر أو كوكب، وعيد شموس طالما بعثت بالنور والحرارة إلى أنظمة جليلة، فصفرت وإياها في الهاوية الرهيبة صفورا، وليس من يلتفت لغيابها؛ لأن عين العلم وإن تسلحت بالتلسكوب ضعيفة عاجزة، ولأن الأكوان لاهية بأنانيتها الحيوية، مسوقة إلى تتميم دورتها المفروضة، فلا يستوقفها في سبيلها ما يلتهب من شمس، ويتحطم من عالم، ويحترق من سيار.
بل اليوم عيدك، أيتها المجرة العظيمة، بما تراكم وتلازب فيك من ملايين الكواكب المتتابعة التكون والتحول، وأنت على هذه الضخامة لست غير جزء من الخليقة الشاملة؛ حيث تتعاقب الأكوان الفخمة فتملأ الفضاء الذي لا يحد، وتتجدد في كل اتجاه على أبعاد لا يدركها قياس، ثم تبلى وتختفي في ظلمات اللانهاية. •••
ولكن قبل أن يطير الفكر منا إلى أبراج خاويات وشموس متجلدات، ما ذكرنا الموت إلا احتضنتكم قلوبنا أيها النازحون الراقدون. ما ذكرنا الموت إلا سمعناكم متكلمين، وخلناكم باسمين، وشعرنا بنبضات قلوبكم في راحات أيدينا، فنسألكم: «أين أنتم؟» فتجيب القبور: «ها هم في حماي.» فتفرغ قلوبنا من عناقكم، وراحاتنا من نبضات قلوبكم، ولا يرن في مسامعنا غير تنهد الأسى، ولا تبصر عيوننا غير سائل عبرات. •••
سرت البارحة بين الأضرحة متمهلة أستنشق جثمان الماضي الفسيح، فتاقت أعضائي إلى الرقاد في ظل الغصون الحنونة. يا لغرور الذين أقاموا هذه القبور المرمرية ناصبين حواليها التماثيل الفنية! عجان المنايا يسوي من كبريائنا الصعود والهبوط؛ إذ يلقي بنا في معمل التحول العام، فتعود أيدينا الحقيرة إلى إعلاء الآكام، وحفر الحفرات؛ تمييزا لذليل الأسماء! وبدلا من أن نبعث بذوينا إلى باريهم على ما يريد ترانا نوثقهم بكتائف التظاهر والدعوى، ونثقل كواهلهم بالجدران والتماثيل؛ خوفا من أن نكون بسطاء متواضعين، ولو في أحزاننا فحسب! ولكن أصوات الموتى تتشابه وراء القبور البسيطة الجليلة والقبور المزخرفة الحقيرة. هذا ضريح شهم عظيم سألته حكاية نزيله فقال: لقد عاش وأحب وتعذب وجاهد، ثم قضى.
وهذا مضجع فقير ينزوي وراء المضاجع سألته عن ضيفه فأجاب: لقد عاش وأحب وتعذب وجاهد، ثم قضى.
وهذا قبر فتاة لم ير الناس منها غير اللطف والبسمات، وفي قلبها الآلام والغصات، وهو كذلك يقول: لقد عاشت وأحبت وتعذبت وجاهدت، ثم قضت.
وهذا قبر امرأة صالحة أسعدت زوجها وأبناءها جميعا، وصوته يقول: لقد عاشت وأحبت وتعذبت وجاهدت، ثم قضت.
وهذا قبر من كان عالة على نفسه وعلى ذويه، وعلى كل محيطه، حتى من لقيه صدفة في طريقه، وصوته يقول: لقد عاش وأحب وتعذب وجاهد، ثم قضى.
وهذا قبر طفل رضيع لم يحسب عمره بغير الأيام، وهو يقول هذه هي حكاية الموتى، وهذه هي حكايتنا نحن اللاحقين بهم.
هذه هي حكاية الموتى على الإطلاق، حكاية الظالم منهم والمظلوم، والكبير والصغير، والذكي المعتوه، والأحمق والحكيم، صاحب القبر المرمري الذي لا تبلغ الهامات عتبته، وصاحب المضجع الترابي الذي تدوس هامته الأقدام، كل منهم عاش مرغما، وأحب مرغما، وتعذب وجاهد بإمكانه الفطري والاكتسابي، ثم دعاه الردى فلبى صاغرا. •••
وإذا تحولنا عن هذه المقبرة ذات الحدود إلى مقبرة الخليقة التي لا حدود لها، سمعنا من الزهرة والشجرة والحيوان والإنسان والشعب والجنس والمدنية، ومن كل سيار، ومن كل شمس، ومن كل نظام شمسي، هذه اللازمة التي تأبى التغير: لقد عاش بقوة الحياة التي كونته وشكلته وأدمجته في فصائلها، ولقد أحب بقوة الجاذبية الشفيقة العنيفة التي تضمد جراح القلوب لتمزقها، وتواسي أوجاع الأرواح لتضنيها، وتجلو للعقول أسرارا لتثقلها بغوامض الأسرار، ولقد تعذب لأن العمر ارتفاع وانحدار، ونمو وتناقص. وبين هذه المتناقضات المحتمة يتفطر الفرد في احتياجه إلى التوازن والثبات. ولقد جاهد لأن الجهاد وسيلة يزعمها موصلة إلى الثبات والتوازن، وهي لا توصل إلى غير نفسها لو علم العالمون! لقد جاهد ضد العناصر وضد الفصول، ضد الأجناس وضد الجماعات، ضد الاصطلاحات المتحجرة والمجازفات المتهورة، ضد الغنى والفقر معا، ضد الجمال والقباحة، وضد البله والذكاء. جاهد ضد الغرباء، وضد الأعداء، وضد الأصدقاء، وجاهد ضد أحب الأحباب. وكان أوجع جهوده ضد ذاته - تلت الجهود التي تكسر لولب القدرة وتبيده بينا الجهود ضد العالم الخارجي تعززه وتقويه، ثم عندما تحلبت منه القوى بالحياة والحب والعذاب والجهاد قضى؛ أي التحف باللغز الأعظم، وأسدل على حقيقته الظاهرة حجاب الخفاء، وغاص في مغذية الكائنات ليتقمص في النار شرارة، وفي الهواء نسمة، وفي الماء قطرة، وفي التراب ذرة. وما هي الذرة؟ أهي مادة أم هي قوة؟ أهي فاعلة أم هي منفعلة؟ أهي بصيرة أم هي كفيفة؟ ولماذا تتجمهر ومثيلاتها لتشكل الصور ثم تحلها، ثم تشكلها ثم تحلها؟ أفي المادة كل وعود الحياة وكل قواها، أم في الحياة كل وعود المادة وكل قواها؟ ولماذا تتعاون الحياة والمادة حتى تصيرا في دماغنا إدراكا، وفي جناننا عاطفة، وفي أعضائنا حركة، وفي ألحاظنا نورا، وفي محاجرنا دموعا. ماذا تريد منا الحياة، وماذا تبتغي المادة منا؟ ومتى تنتهي هذه الألعوبة السحرية التي تبتدئ بالاهتزاز، وتستطرد بالاهتزاز، ولا اهتزاز ينهيها؟
والآن إذ أسمع الرياح تعتول وتندب، والأجراس تطن طنين الغم والكرب، والأرغون يعزف ألحان التفجع والانتحاب، ثم تتراءى لي أودية وجبال زرعت فيها العظام منا وامتدت الأعصاب، وتنبسط لمخيلتي سهول ومروج تغذت من أجسامنا، وارتوت بدمائنا، وتضج حولي أصوات الباكين الحزانى، وتتزاحم أمام ناظري جميع مشاهد الفراق - فراق مر يحتمه الموت، وفراق أمر تقضي به الحياة، فأذوب وأتضاءل، ثم أذوب حيال بحر الشقاء العام حتى ألبث ذرة واحدة متوجعة متلهفة متفجعة تتوق إلى التلاشي؛ إذ ذاك تنقشع عن عاقلتي حجب الجهل والأنانية، وتلقي بي يد الروح الأعظم في فضاء اللانهاية، ويحملني جناحان قويان إلى حيث أجد الموت حدثا عرضيا، والفناء خيالا زائلا؛ إذ ذاك ينمو كياني ويتعالى ويعظم، فيتنشق هواء الحياة الواحدة السائدة في كل مكان.
من أعماق اللجج إلى أعالي الجبال، من نواة السلب المبعثرة في المادة الخرساء إلى نواة الإيجاب الكامنة في بوارق الكهرباء، من ذرة الرمل إلى الشجرة المزهرة، إلى الهواء الملامس أفنانها، إلى طير سابحات تحت الغمام، إلى فتيت شموس تلبد في حضن المجرة، إلى أبعاد لا يدركها غير الخيال العظيم، إلى ما وراء ذلك من إطار الخليقة السلبي، إلى كل نقطة من كل مسافة في كل مكان من كل زمان في كل أبدية تتموج حركة الحياة النضناض متتابعة متقطعة، متفردة متنوعة، متظاهرة متوارية، متلاطفة متخاشنة، متمهلة متضاعفة، متشددة متعادلة، أبدية أزلية سرمدية. صوتها العجيب يتراجع من حنجرة إلى حنجرة، ومن أفق إلى أفق، ومن عالم إلى عالم، ومن سكوت إلى سكوت، مولولا مع الإعصار، هامسا مع النسمات، نادبا مع البحار، مدمدما مع العناصر، متمتما مع ثلاثمائة ألف من أجناس الحشرات، صامتا مع جميع المكروبات والذرات، آجا مع المجهولات، ملعلعا مع الآلات، حافا في حفيف الأفلاك، داويا بجميع أنغامه ونبراته في ملايين الملايين من أصوات الخلائق.
تكسونا الحياة كرداء سحري لا تبلى خيوطه، وتحضننا السماء، فنحن فيها مقيمون قبل الحياة وبعد الموت، والجحيم والفردوس في نفوسنا يتناوبان. تغزونا الحياة في الاندحار وفي الانتصار، فنحن أبطالها ونحن ضحاياها، سواء أشئنا أم لم نشأ.
ما الأرض والبحار وأبعاد الأفلاك سوى مدافن دهرية. إنما هي الوقت نفسه معامل توليد وتكوين. نحن نخلد الحياة بفنائنا، وهي تفنينا بخلودها، ونحن أبدا كذلك حتى تثلج الشموس، وتضمحل قوى العناصر، وتتفكك عرى الأكوان سابحة في الفناء الأنور، في البقاء الأوحد، في حضن الله.
إذن أعيد الموتى اليوم أم عيد الأحياء؟
إنما اليوم ككل يوم، عيد الناموس الفرد الذي يعجن أشكالا تبدعها الطبيعة العلماء. يجبلها باليد الواحدة التي تدعى التكييف قطعا ذات صور معينة. ولا يفتأ يستخرج الجديد من القديم، ويدغم القديم في الجديد؛ ليتم للأحقاب تعاقبها بالبشر والأفلاك والزمان في مجاهل اللانهاية الخالدة.
في مرقص الحياة
... ودرجت في التيار المكتسح الملايين، فبلغت جوانب الميدان الفسيح الذي تلجه الأفواج من جميع المناهج، حتى إذا أنمتها الأيام والاختبار تغلغلت فيه شيئا فشيئا. في ذلك الميدان، تقيم الحياة مرقصها، ليس في قصر واحد كما ظننت قبلا، بل في مئات الألوف من القصور والمنازل والأكواخ وما بينها من الصحارى والواحات والجبال والوهاد والبحار. وما كنت إخاله ألحاظ نور تناديني وجدته مزيجا من مشاعل الانتصار، وأضواء الأفراح، ولمعان الأسلحة، وشموع الجنازات، ووقود التدفئة، ومسارج النذور، ونباريس الاجتهاد والعناء، والنشيد الذي حسبته أهزوجة طرب وحبور، كان خليطا هائلا من صراخ الصرعى، وعويل الهلكى، واستغاثة الغرقى، وأنين المحرومين، واسترحام المتوجعين، وتهليل الفرحين والسعداء والمستفلحين، وابتهال الأتقياء والزهاد والمصلين، وزفير الحفيظة والشماتة، وصعق التحريض والتهديد والاستنزال، وحمد القناعة والشكر والرضوان، وألوف ألوف الأصوات المؤلفة نشيد الحياة الرائع المستديم.
والقدرة الخفية التي أوقفتني في الكوة ثم دفعت بي إلى السير، وأوصلتني إلى هذا الميدان، هي التي سوتني، والذين جعلتهم حولي يصفقون ويلطمون، فتذمرت مع الضعفاء، وانتصرت مع الأقوياء، وتواكلت كالطفيليين، وتنشطت كالنبلاء، فعرفت كيف يعز الناس وكيف يذلون، كيف يجوعون ويشبعون، كيف يؤلمون ويتألمون، كيف يستبدون ويظلمون. عرفت عبودية المساكين وحسدهم ولجاجتهم، واستقلال الأغنياء وأناقتهم وجفافهم، عرفت أن لكل امرئ غما وإن هش وبش، وأن لكل عاتق حملا وإن تقوم وانتصب، وأن لكل من أسرى الحياة أطماعا ومطالب وشكايات؛ فواحد يبتغي الفوز بالحذق والجهود، وواحد يكد ولا ينال شيئا، وواحد لا يتعب ولكنه ينال كل شيء، وواحد يصيح بأنه ذو حق ونصيب، وليس له الكفاءة والاجتهاد اللازم للظفر بذلك الحق، والتمتع بهذا النصيب. وبينا جلبة الأصوات تتعالى من كل صوب؛ يطغى المد جارفا الجماهير والأنظمة والجهود والمطامع فيحتضنها من الحياة العباب الرجاف ، كما يحتضن الخضم الزاخر ملايين القطرات التي لا تعد ولا تحصى، وتظل الحياة محيية مرقصها حيث تتابع الأشباح والصور واللغو والحركات والأنوار والظلمات ...
وها أنا ذا أسير في أطراف مرقص الحياة معانية ما يعانيه مساجين الوجود جميعا، يبرح بي وإياهم الشوق إلى السعادة، وأتلقى مثلهم ذلك الوحي المتجدد بوجودها، وعند كل خطوة خيبة وكمد، وعند كل خطوة أمل وجذل، وعند كل خطوة روعة حيال هذا السيل الحيوي الذي يتدفق مرغيا مزبدا إلي حيث لا يدري، وعند كل خطوة استفهام لا جواب له عن معنى الحياة وغايتها، عن معنى الألم وغايته، عن معنى الطرب وغايته، وعند كل خطوة سؤال للكون: لماذا وجدت النفس الإنسانية كالنحاس المجوف ترجع لكل صوت يقرعها صدى رنانا عميقا وجيعا ...
كن سعيدا
في هيكل الأشجان الإنسانية وقف الزعيم الأكبر يخطب في القوم فسمعته يقول: «إذا كنت غنيا كن سعيدا؛ لأن مزاولة الأمور الخطيرة هيئت لك، وكنت مشكور الصالحات مرجو الجميل. لقد عز جانبك، ومنعت حوزتك، ونشر رواق العز فوق ذمارك، فتم لك وجه من وجوه الحرية والاستقلال، وإن كنت فقيرا فكن سعيدا! لأنك سلمت من شلل معنوي ابتلي به من دانت لرغبته جميع المطالب، ووقيت ما عرض له السري من حسد وكره، فلا تتلظى الصدور لنعمتك، ولا ينظر إلى متاعك بعين مريضة.
إذا كنت محسنا فكن سعيدا؛ لأنك ملأت الأيدي الفارغة، وسترت الأجساد العارية، وكونت من لا كيان له فرضيت عن نفسك، ووددت إسعاد عشرات ومئات لتتضاعف مسرتك النبيلة الواحدة بتعدد المنتفعين بأسبابها. وإن عجزت عن الإحسان فكن سعيدا؛ فقد أجلت ساعة تشهد فيها نكران الجميل ممن صانعت، فاتخذ المعروف سلاحا يهددك به، حاسبا التجني شجاعة، والسفاهة حذقا. تلك الساعة لا بد من مرورها، فتتوتر لها أعصابك، ويفوز سخطك، وتقسو عواطفك، ويجف منهل كرمك، وتحتقر الإنسان، وتيأس من إصلاحه قبل أن تصل إلى قمة الغفران السامي، والتغاضي الحكيم.
إذا كنت شابا فكن سعيدا؛ لأن شجرة مطالبك مخضلة الغصون، وقد بعد أمامك مرمى الآمال، فتيسر لك إخراج الأحلام إلى حيز الواقع إذا كنت بذلك حقيقا، وإذا كنت شيخا فكن سعيدا؛ لأنك عركت الدهر وناسه، وألقيت إليك من صدق الفراسة وحسن المعالجة مقاليد الأمور، فكل أعمالك إن شئت منافع، والدقيقة الواحدة توازي من عمرك أعواما؛ لأنها حافلة بالخبرة والتبصر وأصالة الرأي، كأنها ثمرة الخريف موفورة النضج، غزيرة العصير، أشبعت بمادة الاكتمال والدسم والرغبة.
إذا كنت رجلا فكن سعيدا؛ لأن في شهامة الرجولة يتجسم معنى الحياة الأكبر، وإذا كنت امرأة فكن سعيدا؛ فالمرأة منشودة الرجل، ونبلها موضع اتكاله، وعذوبتها مستودع تعزيته، وبسمتها مكافأة أتعابه.
إذا كنت رفيع الحسب فكن سعيدا؛ فقد فزت بثقة الجماعة دون أن يوصي بك أحد، وإن كنت وضيع النسب فكن سعيدا؛ لأنه خير لك أن تكون مؤسس عيلتك، ورافع عمادها الذي تعرف به، وتفاخر بذكراه، من أن تكون أحد أبنائها المرغمين بطبيعة الحال على حمل اسمهم، ولا فضل لهم بإعلائه.
إذا كنت كثير الأصدقاء فكن سعيدا؛ لأن ذاتك ترتسم في ذات كل منهم، والنجاح مع الصداقة أبهر ظهورا، والإخفاق أقل مرارة، وجمع القلوب حولك يستلزم صفات وقدرات لا توجد في غير النفوس ذات الوزن الكبير، أهمها الخروج من حصن أنانيتك لاستكشاف ما عند الآخرين من نبل ولطف وذكاء، وإذا كنت كثير الأعداء فكن سعيدا؛ لأن الأعداء سلم الارتقاء، وهم أضمن شهادة بخطورتك، وكلما زادت منهم المقاومة والتحامل، وتنوع الاغتياب والنميمة، زدت شعورا بأهميتك، فاتعظت بالصائب من النقد الذي هو كالسم يريدونه فتاكا، ولكنك تأخذه بكميات قليلة، فيكون لك أعظم المقويات، وتعرض عما بقي، وكان مصدره الكيد والعجز، إعراضا رشيقا. وهل يهتم النسر المحلق في قصي الآفاق بما تتآمر له خنافس الغبراء؟
إذا كنت صحيحا فكن سعيدا؛ فقد استبان فيك توازن الناموس الكلي وانسجامه، وأهلت لمعالجة المصاعب ودحر العقبات، وإن كنت عليلا فكن سعيدا؛ لأنك مسرح تتقاتل فيه قوتا الكون العظيمتان، فالغلبة لما تختار منهما، والشفاء موقوف على ما تريد.
إذا كنت عبقريا فكن سعيدا؛ فقد تجلى فيك شعاع ألمعي من المقام الأسنى، ورمقك الرحمن بنظرة انعكست صورتها على جبهتك فكرا، وفي عينيك طلسما، وفي صوتك سحرا، والألفاظ التي هي عند الآخرين أصوات ونبرات ومقاطع، صارت بين شفتيك وتحت لمسك نارا ونورا تلذع وتضيء، وتحرق وتهنأ، وتخجل وتكبر، وتذل وتنشط، وتوجع وتلطف، وتسخط وتدهش، وتقول للمعنى «كن!» فيكون. وإن كنت خاملا فكن سعيدا؛ لأن الألسنة لا ترهف حدها لتذكرك، والأنظار لا يستعر فيها لهيب التفحص وحب المنافسة إذ تتجه إليك. هاك القمة فاقتحمها إن كنت كفؤا، وإلا فاقنع بأنك جزء مهم من أجزاء الكون تستعملك الكفاءة وقودا؛ فالإيوانات الباذخة لا تقوم بغير الحجارة الصغيرة، وأنت متمتع براحة لا ينعم بها من لا ترتوي شفتاه بغير ماء الحياة، ولا تغتسل روحه بغير سيول الإلهام.
إذا كان صاحبك وفيا فكن سعيدا؛ لأن الأيام حبتك بكنز من أثمن كنوزها، وإن كان خائنا فكن سعيدا؛ لأنه لم يكن على استعداد لاستماع أمثولة خفية تلقيها عليه نفسك، ولا يغادر امرؤ حظيرة المحبة إلا ليفسح مكانا لمن هو خير منه وأجدر.
إذا كنت حرا فكن سعيدا؛ ففي الحرية تتمرن القوى، وتتشدد الملكات، وتتسع الممكنات، وإن كنت مستعبدا فكن سعيدا؛ لأن العبودية أفضل مدرسة تتعلم فيها دروس الحرية، وتقف على ما يصيرك لها أهلا.
إذا عشت في وسط يفهمك ويقدرك فكن سعيدا! فهناك اكتسبت كل يوم شبابا جديدا، وقوة جديدة، ونمت روحك ثم نمت حتى أذهلتك منها الآفاق والبحار، وإن عشت في وسط متقهقر منحط، أيها التعس، فكن سعيدا؛ لأنك في حل من أن تخلق لك جناحين تطير بهما فوقه؛ إلى حيث تبدع من أشباح روحك عالما حوى قوتا لجوع فكرك، وشرابا لظمأ جنانك.
إذا كنت محبا محبوبا فكن سعيدا؛ فقد دللتك الحياة، وضمتك إلى أبنائها المختارين، وأرتك الألوهية عطفها في تبادل القلوب، واجتمع النصفان التائهان في المجاهل المدلهمة، فتجلت لهما بدائع الفجر، وهنأتهما الشموس بما لم تهتد بعد إليه في دورتها بين الأفلاك، وأفضى إليهما الأثير بمكنون أسراره؛ لذلك هما يتأملان حيث يتصابى الخالي، ويصمتان حيث يتكلم، ويمزحان حيث يجد، ويتفرسان في خطوط البقاء حيث لا يلمح هو خيالا.
وإن كنت محبا غير محبوب فكن سعيدا؛ لأن النابذ يحب المنبوذ في أعلى طبقات كيانه، حبا لا يدانيه افتتانه بمن يهوى، والهجران حالة جمة المعاني والألغاز ترقق ما ضخم من الرغبات، وتصفي ما عكر من الانفعالات، حتى يغدو الفؤاد شفافا نورانيا متلألئا كآنية تتناول فيها الآلهة كوثر الخلود.
ولسوف تفوز بمن تريد إن لم يكن في تلك الصورة الأنسية المتباعدة ففي سواها. تهيأ للحب مهما أثقلتك المشاعر؛ لأن للحب هبات وسكنات، وأنت لا تعرف ساعة مروره. كن عظيما ليختارك الحب العظيم، وإلا فنصيبك حب يسف التراب، ويتمرغ في الأوحال، فتظل على ما أنت أو تهبط به، بدلا من أن تسمو إلى أبراج لم ترها عين، ولم تخطر عجائبها على قلب بشر؛ لأن هياكل مطالبنا إنما تقام على خرائط وهمية وضعتها منا الأشواق.
كن سعيدا لأن أبواب السعادة شتى، ومنافذ الحظ لا تحصى، ومسالك الحياة تتجدد مع الدقائق. كن سعيدا دواما، كن سعيدا على كل حال!» •••
انفض القوم فإذا الجماعات تقف عند بقية جدار خارج الهيكل لتنتحب وتبكي، ومضى غيرها في سبيله ضاحكا هازئا، فنظرت إلى شبح انتصب قربي نظرة استفهام فقال: «أنا روح الخطاب جئت أرى تأثيري في الناس!»
قلت: «إذن أنت تعلم ما هذا الذي يبكي الناس عنده.»
قال: «هذا جدار الدموع.»
قلت: «وهل هؤلاء يهود؟ وهل نحن في أورشليم؟»
فقال: «للإنسانية كما لليهود «جدار دموع» تبكي عليه وتتحسر.»
قلت: «ولماذا يبكي هؤلاء بعد تلك الخطبة المعزية الموحية الرجاء؛ خطبة السعادة الجميلة؟»
قال: «منهم من يبكي لأنه لم يسمعها من قبل، ومنهم لأنه سمعها قبل الآن ولم يستفد، وآخر لأنه استفاد أياما ثم تغلب عليه المحيط، وجرته الوراثة بأثقالها الباهظة إلى هوة القنوط، وغيره يبكي بكاء عصبيا لأن الباكين يحيطون به، ولو ضحكوا ورقصوا لكان أول المقلدين، وغيره ليظهر أنه ذو نفس حساسة تستوعب كل تأثير صالح، ويبكي غيره لأنه يرى في الجدار المحطم صورة لآماله الذاوية، وهو من الذين يندبون حيال متراكم الأخربة، ومندثر الديار، ومتعفي الآثار.»
قلت: «وأولئك الضاحكون؟»
قال: «هم ذوو الأذهان المحددة التي لا تعترف بما لا تفهم، وتهزأ بكل ما لا تعترف. إنهم أحق بالإشفاق من الباكين.»
قلت: «وهناك خيالان لا يبكيان ولا يضحكان؛ رجل وامرأة يسيران جنبا إلى جنب بخطوات هادئة بطيئة منحنيي الجبهة، وفي عيونهما تتتالى دوائر الأفكار. أتدري من هما؟»
فرنا إليهما الشبح وقال: «هما الأرض المخصبة. هما الشعلة المقدسة. هما اللذان فهما واستفادا.»
فقلت مكتئبة: «أسفا على الخطاب البليغ تسمعه الجماهير الغفيرة فلا يستفيد به سوى اثنين!»
فتألق وجه الشبح بنور سماوي وقال: «بل ما أنفعه خطابا هو في هذين الروحين غلة للدهور، وفي هذين الفكرين مجدد للقديم، وفي هذه الأيدي مشعل يتطاير منه الشرر، فتتقد به شموس الأفلاك، وشموس الأذهان. بورك به خطابا، بورك به!»
وغادرني الشبح وسار إلى ذينك الخيالين فنشر من كتفيه جناحين خفيين وحلق فوق رأسيهما يقودهما ويرعاهما.
السهرات الراقصات
دنا موسم السهرات الراقصات فيممها أهل المدينة أفواجا، وسرت في جملة السائرين بثوبي القرمزي المردن، والقلب يحدوني بشدو الشباب والطرب، وما خطوت في القاعة الساطعة خطوة حتى ترنحت لتوقيع العازفات والعازفين، واستحثني تمايل الراقصات والراقصين، فأغفلت ذكر اللواعج والتباريح، ونسيت أنه بينا في رحبات الجذل يتمتع السعداء ويلهون إذا في كهوف القدر تتفطر حشاشات وتدمع عيون.
رقصت مع كل راقص ذي كياسة، واحتسيت الكوثر من كئوس عسجدية، وبسمت شفتاي لكل شفة باسمة، ولمعت عيناي لكل عين لامعة. ولما طاف طائف الكرى بين أجفاني عدت مستوفية السرور إلى مضجعي، ونمت نومة طويلة عميقة.
واستيقظت في الغد فأذهلني أن أشعر بترضرض في روحي، وبطعم الفناء في فمي، وبأثقال تميع على صفحة وجداني كأنها أحمال الدماء.
وفي السهرة الثانية حياني أظرف رجل بين الرجال وقال: «هل لك في دورة تتوافق وأنين الأوتار؟»
قلت: «بل عفوت اليوم عن نفسي وعن أبناء الأنس أجمعين، فلا هم يتعبون بمراقصتي، ولا أنا أتحف بتعليقهم عليها.»
قال: «إذن نجلس في خلوة المقصف حيث الشراب والحلوى والمجاملة.»
قلت: «لا ، بل على الشرفة الصغيرة حيث النور رقيق يمازج الظلام ولا يزيله. اتصل بي محدث ألمعي، فكل سهرتي هذه إصغاء.»
ففتل شاربيه بأناقة، ورنا إلى طرفيهما بإعجاب ثم انحنى شاكرا لأنه متواضع، ثم سار بي إلى الشرفة وقال: «تفضلي إذن واستريحي على هذا المقعد ذي العلاقة بصاحبة الملايين.»
قلت: «ومن هذه؟ هات بطرف من حكايتها!»
ففعل بظرف وأضحكني شديدا، ثم قدم إلي زهرة أهدى مثلها ذلك النبيل إلى تلك العظيمة، وسرد حكايتهما، ثم تلا علي رسالة جاءته من تلك الجميلة، وأخرى وردت إليه من ذلك الوزير، وسرد حكايتهما.
ثم حدثني عن آخرين وأخريات. وكان الراقصون يتتابعون أزواجا متخاصرة وذاكرة نديمي سجل حفظت صفحاته الأمينة تواريخ الأفراد والجماعات صعودا إلى آباء الآباء بما يزينها من فضل، وما أقله! وما يشوبها من نقص، وما أوفره! وتطرق إلى الإلماع عن تأثيره الحالي في تقسيم الممالك، واتفاق الدول، وعقد المؤتمرات، وسن القوانين. تلك شئون لم يكن ليعرفها أحد، وإنما هو كان يسر بها إلي لأنه ينظر إلي بعين الإكبار والإعجاب، وكل ما يتبع هذين أو يسبقهما من الاعتبارات، فكنت أصغي متفكهة ضاحكة؛ إذ أجد فيما يقول ظرفا لا يبارى، وتوقدا لا يخمد، وفطنة لا يلحقها كلل أو نضوب، إلا أني كنت أهمس لنفسي: «ليته يسرد لي حكايتي لأعلم كيف هي في الغد تكون!»
وأتينا على آخر السهرة فقلت بإخلاص: «ما كان أقصر هذه الساعة!»
ففتل شاربيه بأناقة، ورنا إلي طرفيهما بإعجاب، ثم انحنى شاكرا لأنه متواضع، ثم قال مشيرا إلى رجل بطيء الخطى، مهيب المنظر، مر على مقربة منا؛ قال: «لا أدري ما إذا كانت قصيرة في نظر هذا.»
فسألت: «ومن هو هذا؟»
أجاب محدثي: «هذا أحد اثنين: فإما يظل صامتا فلا يدرك المرء لسكوته معنى ولو عاشره مليون سنة، وإما يتكلم ... فينطبق عليه قول يزعم أحد الظرفاء أن الله قاله عن الرئيس ابن سينا!»
قلت: «ألا أخبرني بما يزعم ذلك الظريف أنه تعالى قاله عن ابن سينا!»
فحدثني نديمي قائلا: «يزعم صاحبي المليح النكتة أنه لما مضى ابن سينا إلى ربه جاءه الملكان وسألاه: «ما هو الله؟»»
فأجابه لفوره: «هو أسطقس فوق الأسطقسات.»
فتبادل الملكان نظرة فلم يفهما، فذهبا إلى الحق - سبحانه - وقالا: «ربنا، لقد جاء الساعة عبد من عبيدك البشر، رجل يتكلم كالمتكلمين، ولكننا لا نفقه لقوله معنى.»
فسأل الحق - جل وعلا: «وماذا يقول هذا الرجل؟»
فأجاب الملكان: ربنا، سألناه: «ما هو الله؟» فقال: «هو أسطقس فوق الأسطقسات.»
فأطرق المولى - سبحانه - وقد ألبس عليه مغزى الكلام وقال: «إن أمر هذا الرجل لغريب! وما اسمه، أيها الملكان؟»
فقال الملكان: «ربنا، اسمه عبدك الرئيس ابن سينا.»
فضحك ذو الجلال وقال: «هاهاها! لقد عرفته؛ فدعاه وشأنه. هذا رجل قضى عمره متكلما فلم تفهم خلائق الأرضين كلمة من أقواله.»
ذاك، على زعم صاحبي، ما قاله الله - تعالى - عن الرئيس ابن سينا.
فضحكت ثم ضحكت، وودعت محدثي قائلة: «حقا إنك رجل ظريف!» وهمست لنفسي مرة
•••
واستيقظت في الغد فأذهلني أن أشعر بترضرض في روحي، وبطعم الفناء في فمي، وبأثقال تميع على صفحة وجداني كأنها أحمال الدماء.
وبكى في قلبي لما شهدته من الدعوى الفارغة، واللغو المزعج، والتمثيل الكاذب، والعاطفة السقيمة، ثم قلت مصممة: «إذن فالليلة لا رقص ولا حديث.»
وجن الليل فقصدت إلى السهرة الحافلة. تجنبت قاعة الراقصات والراقصين، وهربت من أظرف رجل بين الرجال، وانتحيت مكانا فيه ينفرد الرجل السكوت.
بادرته بالتحية فلم يرد التحية، وألقيت عليه الأسئلة فلم يحر جوابا، وإنما نظر إلي نظرة رأيت وراءها محافل الأجيال ومواكب الدهور، فجلست في ظل سكوته، ولم يكن سكوته سوى سكوت الفضاء المملوء بحفيف الأفلاك، وانبسطت دوائر فكره، وترامت قليلا قليلا فاحتوت هالة كياني، واجتذبتني منه القوة السرية إلى سويداء قلب الوجود؛ حيث الليل الأليل يفضي إلى برج الأضواء.
وانتهت السهرة قبل أن تبتدئ. ولما عدت إلى مضجعي لم أرقد إلا لأواصل السير في عالم السكوت.
واستيقظت في الصباح فحركت روحي جناحيها وقد لونتهما أشعة قوس الغمام ، وارتفعت جبهتي تحت تاج معنوي قد ركز عليها، ونموت وكبرت فجأة؛ لأن مختلف الرغبات في المعرفة والاطلاع انبثقت في.
وها قد انقضت ملايين أعوام فيها تعلمت جميع لغات الإنس والجن، ووعيت جميع علومهم، واستظهرت جميع مصنفاتهم، وتتلمذت لجميع أساتذتهم، وجادلت جميع فلاسفتهم، ومحصت جميع أقوالهم، وسبرت أغوارهم، وتسلقت جميع قممهم، ولمست قدماي الداميتان عتبات الغيوب دون أن أظفر بإدراك أبسط معنى يجول في خاطر الرجل السكوت.
الموضوع التائه
جاء من «النادي الأسنى» وفد كبير يدعوني إلى إلقاء خطبة في الحفلة السنوية، فخاطبت الوفد قائلة:
أيها السادة العلماء والأعيان والفضلاء
أنتم تمثلون في أشخاصكم المحترمة جميع مراتب المدعوين. ولما كنت طامعة في رضاكم ورضى الجمهور لئلا يضيع الوقت سدى، ونكون عرضة للانتقاد، فأنا أطلب إليكم أن تتفق كلمتكم على موضوع أخاطب الناس به، فأقبل دعوتكم بارتياح.
فقال أحد الأعضاء: «حبذا الاقتراح الحصيف! أما ونحن عند حركة نسائية نبتغي أن تتناول نساءنا وبناتنا، فأحر بك أن تتكلمي في ترقية المرأة عن طريق العلم والتهذيب؛ لأنها، وهي دعامة العائلة، إنما عليها تقوم عظمة الأمة وسلامة العمران.»
فقال آخر: «عفوك سيدي، كل موضوع غير هذا حسن. أما إذا ذاكرتنا بهذا الشأن فقد ينسحب المدعوون واحدا بعد الآخر، كما سبق أني فعلت وبعض أصحابي يوم قامت سيدة تلوك أمامنا ما سئمنا سماعه، حتى صرنا نحسب أنها مرددة أسطوانة فارغة تحوك الألفاظ ولا تعي. فلتحدثنا إذن خطيبة الغد عن الحركة العمرانية الكبرى، وروح العصر العامة؛ فذلك أنسب وأنفع.»
فقال ثالث: «أنزعج ابنتنا بتهيئة ما قد نلم به من مطالعة الصحف السيارة وإنباء البرق والبريد؟ نريد أن ننشط النساء ونبث فيهن حب الرقي والعرفان، كما نريد تحويل الرجال عن القهاوي، وموائد المقامرة، وحانات الرقص. فلتتكلم إذن في موضوع علمي فلسفي يشحذ القرائح، ويغذي النفوس.»
فقال آخر: «سينعقد الاجتماع بعد طعام العشاء؛ أي ساعة لا يكون هناك متسع «للتغذية»، ويكون «الشحذ» في غير أوانه. وما نفع كلام لا يفهمه سوى النفر القليل فتزهق أرواح الآخرين، فيحسبون الخطيبة متقعرة ، ويمقتون في جهلهم وتخلفهم العلم للنساء؟ ألا فلتلقي علينا بحثا فيما مارسته أخواتها دواما حتى في العصور المظلمة؛ كالموسيقى والرقص والغناء، فيجيء كلامها سائغا ملطفا بعد عمل النهار الشاق، ولا تغلق معانيه على أحد.»
فاعترض آخر قائلا: «أتريد لتتسلى أنت وترتاح أن تجعلها هدفا لتبجح السخفاء الذين سيقولون: بدلا من أن تلقي علينا دروسا نظرية في الرقص والغناء، فالأوفق أن ترينا منهما الدرس العملي طارحة عنها عناء العلم والبحث والتنقيب.» قلت: «إذن إنه خير لنا ولها أن تعمد إلى عادة من عاداتنا الشائنة فتحكم تمحيصها وإظهار أضرارها، مشيرة إلى عادة أخرى يحسن الجري عليها، فنخرج من تلك الحفلة متفاهمين مستفيدين.»
فقال آخر: «إذا طلبنا الوعظ والإرشاد واحتجنا إلى التهذيب والتقويم، فعندنا الكاهن في الكنيسة والخطيب في المسجد. أما ونحن في تطور قومي كبير، فلتلفتنا إلى ما نفتقر إليه من المشروعات الزراعية والآلية والاقتصادية العائدة على البلاد بالثروة والفرج، فتحثنا على تأييده، ويكون لقولها تأثير عظيم.»
فتأفف آخر قائلا: «ولكنك تخلط، يا صاحبي، بين احتفالات الأندية وبين أحزاب الإصلاح ولجان التقرير. ليس قصدنا سن قوانين جديدة للبلاد، وتعديل ميزانيتها، وإلقاء الدروس على ولاة الأمور، وإبدال برامج التعليم بسواها. إن نحن إلا أعضاء ناد اجتماعي من رجال ونساء يحيون ليلة أنس وطرب، فأرى أن تترجم مقالا أو قصيدة عن كاتب أو شاعر غربي؛ لأن الغربيين سبقونا إلى الابتكار الذهني، فتتحفنا بأفكار جديدة نبتهج لها بلا إجهاد.»
فصاح آخر قائلا: «فلتسقط الترجمة إلى الحضيض، وليهبط التعريب إلى قعر الهاوية! حرام على من كان ذكيا أن يفني وقته في عمل جدير بمعشر الببغاوات البشرية. أما ونحن في هذا الاجتماع شرقيون لا أجنبي بيننا؛ فلتتكلم إذن، ولتتكلم بحماسة عن وجوب تعلق القوم بلغتهم؛ ليفهم المتفرنجون كم هم ضالون وخليقون بالسخرية والاحتقار!»
فقال آخر: «وما ذنب النادي إليك، يا عزيزي، لتقترح اقتراحا يعود عليه بالتداعي؟ إن جل الأعضاء متفرنجون ومتفرنجات؛ أتريد أن يسخط هؤلاء تاركين قاعاتنا بلاقع؟ دع الناس يتكلمون بما شاءوا من لغات أنزلها الله . أما خطيبتنا فلتصدق جنسها النسائي في حكاية غرامية تصف فيها بعض طبقات الناس، وبعض عادات البلدان، وتشرح عواطف المرأة ونزعاتها المتنافرة؛ فالرواية اليوم، مسهبة كانت أم موجزة، غدت آلة فريدة لنشر الآراء التاريخية، والنظريات العلمية والفلسفية، فضلا عن وصف أحوال الشعوب، وتسيير الإصلاح الاجتماعي والديني في وجهة معينة.»
فقال آخر: «لا أرى الرواية مناسبة لهذا الموقف، ولا يجعل للرواية هذه الأهمية إلا ذوو الأذهان الكليلة الذين يأنفون الأبحاث الجادة مجردة من الأوهام والتلفيق، بل فلترم هي إلى الإفادة المباشرة وتحدثنا بما نكبره في فتاة؛ كالطبيعيات والفلك، فأنا لا أحتمل من الكتاب والخطباء إلا الذين تنالني منهم فائدة علمية ما.»
فقال آخر: «وهل الإفادة محصورة في العلوم الطبيعية والرياضية؟ وهل هي قائمة في التلقين الأبله كما يلقن المعلم صغار المتعلمين؟ أرى أن الكاتب الأمثل هو الذي لا يتصور نفسه فوق الآخرين علما وذكاء، بل يسترسل في أبحاثه واثقا من أن الجميع يفهمونه، ولكل منهم أن يحتضن من آرائه الخاصة ما يتفق مع ميوله وحاجاته. هذا هو الكاتب الفنان الذي أعزه وأحبه وأهوى مجالسته عند صفحات الأوراق؛ لأنه يعرف كيف يثير مني الشجون والرغبات، وكيف يفتح أمامي جديد الآفاق. أما الذي ينصب نفسه معلما لي، فهو الجاهل المركب، هو الدعي المغرور الذي ألقي على تنطعه وتفيقه نظرة واحدة لأزداد وثوقا مما أعلمه، وهو أنه يخيفني من ماء غيره، وأنه ليس عنده أكثر مما يعطيني متعاظما ...»
فتنهد آخر قائلا: «رباه! هل جفت مناهل العواطف في قلوب الناس حتى صاروا لا هم لهم سوى العلوم والأبحاث؟ ألا فلتسمعنا قصيدة منها منظومة أو منثورة، فهي شاعرة قبل كل شيء، ونحن في حاجة إلى أجنحة المثل الأعلى تساعدنا على النهوض من حمأة المادة لنعيش، ولو لحظة، في أبدية الجمال.»
فاحتج قوم على الشعر المنظوم والمنثور قائلين إنه آفة هذا الجيل، وانبرى آخرون يدافعون عنه قائلين إنه سلوى الحياة ووحيها ورونقها، واشتبك الفريقان في المناقشة والجدال.
فاختليت أنا بنفسي أبحث عن الموضوع، فوجدت في أخلاطا نفيسة من معارف ومدركات وقدرات كانت وستظل دواما إرث بني الإنسان؛ فهناك الأبحاث الفلسفية والتاريخية، وهناك الاكتشافات والاختراعات، وهناك الآداب واللغات، وهناك العلوم الطبيعية والرياضية، وهناك المذاهب اللاهوتية والباطنية، وهناك الفنون الجملية على اختلافها، وهناك الروايات والأشعار، وعلوم البيان، ووصف الأسفار، وهناك الموضوعات الخفيفة الرشيقة المفكهة، والأخرى الوجيعة الرثائية المحزنة. وعلى مقربة منها أساليب النقد، واقتراحات الإصلاح، وخرائط المشروعات المتنوعة.
وبينا جلبة وفد النادي تصطخب حولي، جعلت أنا أخلق لذاتي الجماهير المتعددة - كما تمثل أحيانا رواية مصغرة خلال تمثيل الرواية الكبيرة - وصرت أخطب في كل جمهور بما يحب ويتطلب، فاقتضب الكلام هنا، وهناك أطيله. أتكلم مرة بتحمس الشاعر، وبتدقيق الباحث أخرى. حينا بصرامة العلم الطبيعي، وحينا بسيطرة الفكر الفلسفي. هنا بعذوبة الحب وأنينه، وهناك بقسوة الإصلاح واستئثاره.
خلقت لذاتي الجماهير لا لأعلم بل لأتعلم، لا لأفيد بل لأستفيد، لا لأوقف الآخرين على أسرارهم وممكناتهم، بل لأهتدي إلى أسراري وممكناتي. تكلمت ودرست وكتبت وخطبت لأهذب نفسي وأدللها، لأعزيها وأنميها. فعلت ذلك لأطير ونفسي فوق الشواهق، ونحسو ماء الغدران، ونكتنه غور الأعماق، ونمتص عصير الأزهار، فأعيش وإياها تلك الحياة الداخلية الرائعة التي يشرف منها وحدها على بدائع الكون.
وما زلت أفعل ذلك والناس يتناقشون في أي الموضوعات أنسب وأنفع، وفي أي الموضوعات علي أن أعالج!
أنت أيها الغريب
أنا وأنت سجينان من سجناء الحياة.
وكما يعرف السجناء بأرقامهم يعرف كل حي باسمه.
وقد التقينا وسط جماعات المتفقين فيما بينهم على الضحك من سواهم حينا، والضحك بعضهم من بعض أحيانا.
أنا منهم وإياك غير أن شبهك بهم يسوءني؛ لأني إنما أقلدهم لأريك وجها مني جديدا، وأنت أتجاريهم بمثل قصدي، أم الهزء والاستخفاف فيك طوية وسجية؟
ولكن رغم انقباضي للنكتة منك والظرف، ورغم امتعاضي للتغافل منك والحبور، أراني وإياك على تفاهم صامت مستديم يتخلله تفاهم آخر يظهر في لحظات الكتمان والعبوس والتأثر.
بنظرك النافذ الهادئ تذوقت غبطة من له عين ترقبه وتهتم به، فصرت ما ذكرتك إلا ارتدت نفسي بثوب فضفاض من الصلاح والنبل والكرم، متمنية أن أنثر الخير والسعادة على جميع الخلائق.
لي بك ثقة موثوقة، وقلبي العتي يفيض دموعا. سأفزع إلى رحمتك عند إخفاق الأماني، وأبثك شكوى أحزاني؛ أنا التي تراني طروبة طيارة.
وأحصي لك الأثقال التي قوست كتفي، وحنت رأسي منذ فجر أيامي؛ أنا التي أسير محفوفة بجناحين متوجة بإكليل.
وسأدعوك أبي وأمي متهيبة فيك سطوة الكبير وتأثير الآمر.
وسأدعوك قومي وعشيرتي؛ أنا التي أعلم أن هؤلاء ليسوا دواما بالمحبين.
وسأدعوك أخي وصديقي؛ أنا التي لا أخ لي ولا صديق.
وسأطلعك على ضعفي واحتياجي إلى المعونة؛ أنا التي تتخيل في قوة الأبطال ومناعة الصناديد.
وسأبين لك افتقاري إلى العطف والحنان، ثم أبكي أمامك وأنت لا تدري.
وسأطلب منك الرأي والنصيحة عند ارتباك فكري واشتباك السبل.
وإذا أسيئ التصرف وأرتكب ذنبا ما فسأسير إليك متواضعة واجفة في انتظار التعنيف والعقوبة.
وقد أتعمد الخطأ لأفوز بسخطك علي فأتوب على يدك وأمتثل لأمرك.
وسأصلح نفسي تحت رقابتك المعنوية مقدمة لك عن أعمالي حسابا؛ لأحصل على التحبيذ منك أو الاستنكار، فأسعد في الحالين.
وسأوقفك على حقيقة ما ينسب إلي من آثام، فتكون لي وحدك الحكم المنصف.
وما يحسبه الناس لي فضلا وحسنات، سأبسطه أمامك فتنبهني إلى الغلط فيه والسهو والنقصان.
ستقومني وتسامحني وتشجعني، وتحتقر المتحاملين والمتطاولين؛ لأنك تقرأ الحقيقة منقوشة على لوح جناني.
كما أكذب أنا وشاية منافسيك وبهتان حاسديك، ولا أصدق سوى نظرتي فيك وهي أبر شاهد.
كل ذلك وأنت لا تعلم!
سأستعيد ذكرك متكلما في خلوتي لأسمع منك حكاية غمومك وأطماعك وآمالك، حكاية البشر المتجمعة في فرد أحد.
وسأتسمع إلى جميع الأصوات علي أعثر على لهجة صوتك.
وأشرح جميع الأفكار، وأمتدح الصائب من الآراء؛ ليتعاظم تقديري لآرائك وأفكارك.
وسأتبين في جميع الوجوه صور التعبير والمعنى لأعلم كم هي شاحبة تافهة؛ لأنها ليست صور تعبيرك ومعناك.
وسأبتسم في المرآة ابتسامتك.
في حضورك سأتحول عنك إلى نفسي لأفكر فيك، وفي غيابك سأتحول عن الآخرين إليك لأفكر فيك.
سأتصورك عليلا لأشفيك، مصابا لأعزيك، مطرودا مرذولا لأكون لك وطنا وأهل وطن، سجينا لأشهدك بأي تهور يجازف الإخلاص، ثم أبصرك متفوقا فريدا؛ لأفاخر بك وأركن إليك.
وسأتخيل ألف ألف مرة كيف أنت تطرب، وكيف تشتاق، وكيف تحزن، وكيف تتغلب على عادي الانفعال برزانة وشهامة؛ لتستسلم ببسالة وحرارة إلا الانفعال النبيل، وسأتخيل ألف ألف مرة إلى أي درجة تستطيع أنت أن تقسو، وإلى أي درجة تستطيع أنت أن ترفق؛ لأعرف إلى أي درجة تستطيع أنت أن تحب.
وفي أعماق نفسي يتصاعد الشكر لك بخورا؛ لأنك أوحيت إلي ما عجز دونه الآخرون.
أتعلم ذلك، أنت الذي لا تعلم؟ أتعلم ذلك، أنت الذي لا أريد أن تعلم؟
قرب منعطف السبيل
قرب منعطف السبيل، عندما تمثلت انقضاء الماضي، وجمود الحاضر، واستحالة السير إلى الأمام، لم يبق لي سوى اختيار إحدى الميتتين: ميتة طويلة مفعمة بحشرجة القنوط، وميتة الانتحار السريعة المنقذة.
فاخترت هذه على أن أجعلها كيسة مأنوسة لا تلطخها الدماء، ولا تتلوى فيها الأعضاء، واهتديت إلى الأزهار المزعوفة التي تطعم منعها العطر بالسم ولهاث الردى. ولكن، هناك، في تلك الزاوية الضائقة حيث أقام القدر من دواهيه على صدري جدران الحديد ومعاقل الرصاص، هناك قرب حلول الشفق برزت فجأة أمامي.
وأخذت تتكلم عن معان اختفت طي المعاني، وأشياء توارت في الأشياء، وممكنات حجبت في المستحيلات، وخير حصحص وراء الشر، ونور أشرق في لجج الظلام، وسمو تجلى جلال الحقارة.
وكانت يدك تتحرك متريثة متأنية، فبدت منها الإشارات سحرية ساهية، كأنما هي انعكاس إشارات خفية على المرايا المتبحرة في مهجور القصور، وضاء الجو حولي بلألاء الشرف والأبهة والسؤدد، ومشي نظرك توا إلي يكتشف في جديد العوالم.
نظرت، فعلمتني إعزاز الوجود، وأدركت أني ما تخليت أجلي - عند حينه إلا لأتشدد وأتحضر لوثبة كبيرة - كما يتنفس المتسابقون منتعشين متجددين قبيل خطير الأشواط.
فارتدت الحوائط قليلا قليلا، وتنحت الحصون مسفرة عن المروج والرياض، واتشحت الكائنات بنقاب وسيم لا تنسجه سوى يد الوجد على زعم المتيمين.
ولكن أنى جاء الوجد؟
أنت لم تكن تهتم بي، وأنا لم أكن أهتم بك، ولكن علام تشل أوصال روحي للدنو من مكان حللته؟ وعلام اضطرابك وارتعاش يديك إذ تلمح خيالي عن بعد؟
أنت لم تكن تنظر إلي وأنا لم أكن أنظر إليك، ولكن لماذا كانت تتبلبل خواطري، وأهرب عند قدومك؟ وأنت إن لم تستطع السكوت، لماذا يخرج صوتك متقطعا متهدجا كأنك تجاهد لتقهر تأثرا ما؟
أنت لم تكن تعبأ بوجودي، وأنا لم أكن أعبأ بوجودك.
ولكن لماذا كنت أخاشنك متعملة الإعراض وعدم الانتباه؟ ولماذا، وأنت مثال الوداعة والتهذيب، كنت تكفهر لحضوري وتنقبض كمن يود أن يتجنى علي، أو كمن يخشى أن يرمى بالبشاشة والمجاملة، ثم يعود نظرك في المرة التالية يستفحصني عن زلته؛ أنا التي كنت أغتفر لك وأتناسى مرغمة قبل أن تحدث نفسك بالاستغفار.
أنت لم تكن تفكر في وأنا لم أكن أفكر فيك، ولكن لماذا كنت أحيد عن طريقك لئلا ألتقي بك؛ أنا التي أود أن أبحث عنك في كل مكان؟ ولماذا كنت تتقن خطواتك إذ تعلم أني أرقبها، وتنغم نبرات صوتك وتنوعها إذ تعلم أنها واصلة إلي؟
أنت لم تكن لي شيئا، وأنا لم أكن لك شيئا، ولكن وجوه القائمين حولك كنت أراها متألقة بنورك، وأنت كانت تدهشك كل حركة مني كأنها لم يأتها قبلي إنسان.
أنت لم تكن لي شيئا، وأنا لم أكن لك شيئا، ولكن أليس إن إرادتك حلقت فوق خواطري كيد آمرة، فتقت لأجلها إلى الطاعة والخضوع؟ أوليس إنك كنت تحاول إرضائي وإثارة إعجابي حتى ارتفعت بذلك فوق ذاتك المألوفة، فتجليت بهيا عظيما؟
من أنت؟ وماذا كنت؟
أكنت وحيا من فيض شاعريتي المكتظة، وطيفا من أطياف شوقي وعذابي؟ أم أنت حقيقة محسوسة مرت في أفق حياتي مرور السفن في البحر إلى الشواطئ النائية؟ لقد كنت وحيا من فيض شاعريتي المكتظة، وكنت طيفا من أطياف شوقي وعذابي، وأنت حقيقة محسوسة مرت في أفق حياتي مرور السفن في البحر إلى الشواطئ النائية.
يا مهذبي!
أين وطني؟
عندما ذاعت أسماء الوطنيات.
كتبت اسم وطني ووضعت عليه شفتي أقبله.
وأحصيت آلامه مفاخرة بأن لي كذوي الأوطان وطنا.
ثم جاء دور الشرح والتفصيل فألممت بالمشاكل التي لا تحل.
وحنيت جبهتي وأنشأت أفكر.
وما لبث أن انقلب التفكير في شعورا.
فشعرت بانسحاق عميق يذلني.
لأني، دون سواي، تلك التي لا وطن لها.
يوقظني في الصباح نفير الجيوش المودعة. ولدوي أبواق النحاس أنغام تثقلها دموع الفراق، وأهازيج يجنحها طلب التفادي والاستبسال، فأمقت الظافرين، وأود لحظة أن أتوحد وإياهم لأنسى في ثروتهم فقري، وفي بطشهم هواني.
وإذ تمر مواكب الأمم المظلومة منكسة أعلامها وراء نعوش الشهداء، وهتاف الحرية والاستقلال يتغلب على أنين الثكل والتفجع منها، أعتز لأني ابنة شعب في حالة التكون والارتفاع، لا تابعة شعب تكون وارتفع ولم يبق أمامه سوى الانحدار.
ولكن الشعوب تهمس همسا يطرق مسمعي، فهؤلاء يقولون: «أنت لست منا لأنك من طائفة أخرى.» ويقول أولئك: «أنت لست منا لأنك من جنس آخر.»
فلماذا أكون، دون سواي، تلك التي لا وطن لها؟ •••
ولدت في بلد، وأبي من بلد، وأمي من بلد، وسكني في بلد، وأشباح نفسي تنتقل من بلد إلى بلد، فلأي هذه البلدان أنتمي، وعن أي هذه البلدان أدافع؟
يمضي الموتى تاركين للأحفاد وراثات حسية ومعنوية ينعمون بها، وشرفا قوميا يعززونه، وتقاليد يحافظون عليها. أما أنا فلم يبق لي من آثار موتاي سوى الأثقال المعلقة في يدي وعنقي؛ أثقال إذا حاولت طرحها والفرار جرت قدماي ما هو أثقل منها، فهبطت على طريق جلجلتي تشير نحوي أصابع المتشفين الساخرين، وليس من يد رحيمة تعين وتؤاسي.
وأما متاع موتاي فاستولى عليه أولئك الأباعد، ولو تخلوا عنه لتحكم بي هؤلاء الأقارب الذين عيرتني منهم القحة بصفات انقلبت عندهم عيوبا، وأنكر علي الحسد منهم والخمول حق التمتع بما اشتريته بالجهود والعبرات.
بأي اللهجات أتفاهم والناس، وبأي الروابط أرتبط؟ أأتقيد بلغة جماعتي وهي، على زعمهم، ليست لي ولم توجد لأمثالي؟ أم أكتفي بلغة الغرباء وأنا في نظرهم متهجمة عليها؟ أأصون عادات قديمة يحاربها اليوم الناهضون، أم أقبل الأساليب الحديثة فأكون لسهام المحافظين هدفا؟
إذا جاملت العتي توصلا إلى ما لا غنى عنه قالوا عبدة تمرغ جبهتها في التراب وتتزلف، وإذا جعلت لي من المصارحة سلاحا، ومن الأنفة حصنا، سطت علي اليد الحديدية، ومزقتني ألسنة «الإخوان»، وانفض من حولي «المخلصون»؛ لأنهم إنما خلقوا لمساعدة نفوسهم.
فلماذا قدر علي أن أكون ابنة وطن تنقصه شروط الوطنية، فأمسي تلك التي لا وطن لها؟ •••
كل أمة تحدث عن عظمتها وفضلها على المدنية ونبلها في صيانة حقوق الضعفاء، فبأي الأمم أعجب؟
وكل أمة - دون سواها - تحمي ذمار الحرية، وتذود عن العدل والمساواة والإخاء، فعلى أي الأمم أتكل؟
وكل دين - دون سواه - احتكر لأتباعه الشرف والفضيلة في الحياة، والسماء والألوهية بعد الممات؛ فأي الأديان أعتنق؟
وكل حزب يدعي الصدق والعصمة، وكل فرد صائب الرأي يضحي الخير الخاص للخير العام، فأي الأحزاب أصدق؟ وأي الأفراد أتبع؟
ما سمعت وصف بلاد إلا سعى إليها اشتياقي.
ولا حدثت عن بسالة أمة وسؤددها إلا تمنيتها أمتي.
ولا أصغيت إلى صوت قوم إلا خلته صوت يأسي وأملي.
ولا تبينت عيوب شعب ومفاخره إلا أدركتها صورة مفاخري وعيوبي.
ولا رمت طائفة طائفة بالتعصب والمغالاة إلا وجدت في هذه المغالاة وذاك التعصب.
ولا تخيلت مسافات الأرض وأبعاد الفلك والصحاري والبحار والكواكب والعوالم إلا اهتاجني الحنين إليها كأنها أوطان يردد هواؤها ترنيمة طفولتي، وتنتظرني فيها قلوب الأحباب والخلان.
أما وقوى إعزازي تتوزع باستهتار وجنون، فلماذا تتجمع قوى اكتئابي عميقة مرهفة؛ لأني أنا وحدي في الدنيا، تلك التي لا وطن لها؟ •••
بنسيم وطني امتزج الوحي والنبوءات.
ومع أشعة الشمس فيه انتشرت صور الجمال.
فكانت له حياة وهاجة متلظية وراء مظاهر الجمود والهجران وخيالات الآلهة تسير أبدا فيه متمهلة متأملة.
من القمم والأودية، من الصخور والينابيع، من الأحراج والمروج تتعالى معاني بلادي في الضحى، وعند الشفق تتكامل أرواح الأشياء وتتجمهر كأنها تتداول في إنشاء عوالم جديدة.
أحب عطور تربة الجدود ورائحة الأرض التي دغدغها المحراث منذ حين، أحب الحصى والأعشاب، وقطرات الماء الملتجئة إلى شقوق الأصلاد.
وأحب الأشجار ذات الظل الوارف؛ أكانت محجوبة في أحشاء الوادي أم أسفرت مشرقة على البحر البعيد.
وأحب الطرق الوعرة المتوارية في قلب الغاب، وتلك المتلوية على أكتاف الجبال كالأفاعي البيضاء، وتلك السبل الطويلة الممتدة الممتدة وكأن الغبار الذهبي منها ينتهي إلى قرص الشمس.
ولكن أيكفي أن نحب شيئا ليصير لنا؟ وهكذا رغم حبي الأفيح أنا في وطني تلك الشريدة الطريدة لا وطن لها.
جربت من الوطنيات صنوفا: وطنية الأفكار والأذواق والميول.
وتلك الوطنية القدسية المثلى: وطنية القلوب.
فوجدت في عالم المعنى ما عرفته في عالم الحس.
إلا بقعة بعيدة تفردت فيها الصور وتسامت المعاني.
ثقفني أبناء وطني، وأدبني أبناء الأوطان الأخرى.
وأسعدني أبناء وطني، وأسعدني الغرباء أيضا.
ولا ميزة لأبناء وطني في أنهم أوسعوني إيلاما.
فقد نالني من الغرباء أذى كثير.
فبأي الأقيسة أقيس أبناء الوطن؟
ولماذا أكون أنا وحدي تلك التي لا تدري أين وطنها؟ •••
أيها السعداء ذوي الأهل والأوطان، عرفوا لي سعادتكم وأشركوني فيها!
رضيت حينا بأنه ليس للعلم والفلسفة والشعر والفن من وطن. أما اليوم فصرت أعلم أن للعالم والفيلسوف والشاعر والفنان وطنا. صرت أعرف ضعف الإنسان الذي إذا مال إلى النوم والراحة طلب مضجعا ناعما لجسمه المضنى، لا مرجا واسعا يتناوله منه الحر والبرد، ولا بحرا عرمرما تبتلعه منه اللجج.
إني أعبد تفطرك الصامت، أيها الفيلسوف القديم، أنت الذي بعد أن اكتشفت آيات الفكر وعجائبه، أرسلت زفرة كأنها شكوى الدهور فقلت: إنما أريد صديقا لأموت لأجله.
وأنا أجثو الآن خاشعة أمام ذكرك مرددة ما يشبه قولك: إنما أريد وطنا لأموت لأجله أو لأحيا به!
عند قدمي أبي الهول
الأفق واسع واسع، والليل عميق عميق، وأنوار المساكن وأضواء الشهب في أحشاء الدجى جراح وحروق، وأصوات المدينة تحدث عن أوصاب المدينة جاهلة ما عداها؛ لذلك جئت ناديك أنشد اختلاء وراء تلال فصلت بين عمران البشر الضاج المقيد، وعمرانك المستقل في حضن السكوت غير المتناهي.
تتتالى على البسيطة شعوب ودول تأتي بالأديان والشرائع واللغات والعادات، وتتبارى في محق عمل الأجيال زلازل وبراكين وصواعق وأوبئة وثورات وزعازع وطوفانات، وأنت هنا رابض أمام أهرام انتصبت في وجه الفضاء تنقض أحكام الفناء، والهياكل تلقي بين يديك حديث الدهر بألفاظ الحجر والصوان، وتعززه بصور الأرباب والملوك والكماة.
وكأن ما نزل بها من العاديات بعض تلك الصور المنيلة خطابها بلاغته وروعته.
ههنا تربض فريدا على وثير الرمال في مملكتك الفيحاء؛ مملكة الكتمان والجلال والإيماء، وعظمة القياصرة حديثة النعمة، ودميمة حيال عظمتك المجردة الرفيعة. والإنسان المتطاول الشغوف بهتك الأستار يدخل أيوان وحدتك السني، ولكنك في غيبوبتك غير منظور لهذه الأشباح الفانية، وغير ملموس لهذه الأيدي الذبابية المتنقلة على مخالبك ومنكبيك تلهيا واستقصاء.
غير أن الإنسان ليس بالمتلهي المستقصي فحسب، بل هو خصوصا الدنف المتألم. يتناوله من الكون قهرا دوار الفواجع والنوائب، فيدرك أن الثبات العام منسوج من الوجل والاضطراب، وأن البقاء الظاهر مصنوع من التغير والتحول. يدرك مأساة الكفاح بين الحرية والقدر، يدرك أن عجاجات القوى تضيع جزافا في شلال الذراري والأنسال الجارف الآلهة والمحاربين والشارعين والقديسين والأنبياء والقتلة والقتلى سواسية. يرى التعاسة على طريق العروش، والصوالجة والتيجان تختلط بقيود المجرمين. يرى الأعراس والجنازات والمواليد والوفيات يتخللها العوز والبطر، والمرض والعافية، والخيانة والأمانة، والدعوى والتطير، والضلال والهدى. وإزاء ما يفطره ويعذب سواه يظل الكون على ما هو، والخلائق والأشياء تتوثب فيه وتتولد كالمياه الرهوة الرجراجة، وكل ما خال منها وشيكا كان نهاية تعقبها بداية، وأنقاضا تستوي عليها الأسس.
وإذ يزفر طالبا للحوادث تفسيرا يقال له: «هذه هي الحياة!» «ما هذا إلا الحياة.» «لا تكون الحياة إلا كذا.» نعم، يا أبا الأهوال الساهي، إزاء الهبة والحرمان، والوفاء والغدر، والبياض والسواد، والفخار والمذلة، والغلبة والاندحار، إزاء كل مسرة وكل توجع، التفسير واحد لا يتغير! إننا نفسر الحياة بالحياة، ونداوي داء الحياة بمصل الحياة، ونهرب من الحياة لنجدنا والحياة وجها لوجه. •••
وأنا صورة من ملايين صور الحياة نهضت أتفهم الحياة كما نهض جميع أولئك المساكين. وكما وقفت قديما على طريق طيبة تلقي الأسئلة على العابرين، وقفت أسأل أبناء السبيل عن معنى الحياة، فقال أحدهم: «هي صدر الأم.»
فالتصقت بصدر أمي فإذا أنا منه في عش دفء وحرارة، وحصن مناعة وأمان، لا ترعبني الرياح العاصفة، والرعود الداوية، والبروق الملعلعة، والسيول المتدفقة. ومر يوم، فضاق بي صدر أمي، وعدت إلى موقفي أسأل: «ما هي الحياة؟»
فأجاب مجيب: «هي الدين والتقوى.»
فبادرت أمرغ جبهتي على عتبة المذبح مخفية أداة التقشف والإماتة تحت مزركش الأثواب، وأقرع صدري مستغفرة عن آثام لم أرتكبها، وذنوب لم تخطر على بالي، فناجتني الصور الصامتة في أطرها، وهمست لي الصلبان بنكال الحربة والمسامير. فمر يوم، وصدر الهيكل الذي كان لينا عطوفا انقلب كالمرمر صلابة وبرودة، وصارت الطقوس الدينية ترتيبا مسرحيا، وأرواح البخور التي كانت تنزل علي فيض الوحي والإلهام غدت مزعجة كعطور تنشرها ذوات الذوق الكثيف، فعدت إلى مكاني من السبيل سائلة: «ما هي الحياة؟»
فقال صوت الغرور: «وهل هي للفتاة غير التيه والدلال والتظرف؟»
فمضيت أساجل مرآتي فتعشقت صورتي فيها، ولم أكن أفارق تلك الصورة إلا لأبحث عما يزينها ويجملها، وكان يبكيني مشهد الباكين، فأصبحت وقد تذوقت لذة اللهو واللعب في نسل خيوط القلوب. ومر يوم، فأطل شبح الملل في عيني، فعدت أسأل أبناء السبيل: «ما هي الحياة؟»
فعلا صوت الحضارة في صفير البخار وجلبة الآلات وقال: «هي الثروة، والجاه العالمي، وأبهة العمران.»
فعدوت في سبيل هذه، سوى أني لم أصرف ساعة حتى تحجر كياني، فعدت والضجر يقتلني أسأل: «ما هي الحياة؟»
سألت طويلا وبكيت غزيرا، وقنطت حتى طلبت الموت فانبثقت صورة من غور عنائي. لم تتكلم وإنما فهمت أن الحياة عندها. أرأيت، يا أبا الهول، النجوم راقصة؟ بلحظة تململ ثابت النواميس فرقصت جميع النجوم حولي، وخشعت الكائنات سجودا لدى من هو شفيعها عند ذي الجبروت، وتناقلت الموجودات صورة وجه واحد، أو فخرت بنسخ خط من خطوطه، وانتحال معنى من معانيه، واستحدثت جميع الأشرقة نورها من تألق عينين اثنتين، وصارت زرقة الجو، وبهجة الربيع، وطلاوة الأمواج انعكاسا مبهما ضئيلا لتلك البسمة؛ تلك البسمة البطيئة الرقيقة النادرة، واستدعتني الألوهية إلى عرشها، فوضعت يدي ويد الباري على لولب الوجود، وقمت وإياه بإدارة حركة الأكوان. فمر يوم، فقمعت ثورة النجوم وقدمت خضوعها للنظام الأوحد، وعادت لكل كائن أهميته في الخليقة، فرجعت أسأل العابرين: «ما هي الحياة؟»
فقال صوت العلم الرزين: «أنا الحياة؛ لأني أشرح الحياة.»
فألقيت بنفسي في الخضم الزاخر أعالج العلم المادي تارة، والفلسفة الروحانية أخرى. كم من علم خلقنا، أيها المليك، لنبحث عما لا يعلم، وكم من لغة أبدعنا لنشرح ما لا يشرح! فهداني الجهابذة إلى القوة التي يتم بها التفاعل الكوني بين الأجرام، فلا تتفلت من عناقها شمس ولا ذرة: الجاذبية، فسألت: وما هي هذه الجاذبية؟ من رآها؟ من سمعها؟ من لمسها؟ أهي وسيط ينتقل على تموج الأثير، أم هي سيال يتموج بنفسه مستقلا عن العناصر؟ فأجابوا: «ذاك سر الحياة، وهو مجهول.»
الحياة! مجهول! لفظتان تمثلان الانفصال والاتحاد جميعا.
هذه الرمال التي تفرش ربوعك بطنافس ناعمة منذ أربعة آلاف سنة، يا حارس الصحراء، منذ أربعة آلاف سنة والعلم يقلب الذرة الواحدة منها ويديرها، ويقسمها ويجزئ تقسيمها. لقد نحرها بحثا ودرسا وتحليلا متلمسا علة تركيبها، واللغز المتواري وراء محلها، فسارت جهوده من مجهول إلى مجهول، ومن استفهام إلى استفهام، وما زال مثلي أنا الطفلة الغريرة يسأل: «ما هي الحياة؟ ما هي الحياة؟»
كذلك طال استجوابي للسابلة، فضحك كثيرون ومضوا؛ لأنهم لم يفهموا، والقليلون الذين وقفوا وأجابوا أرهفوا في اللجاجة والحرقة والأسى. •••
يا وليد بابل أم السحر والتعاويذ، إلى أي حقيقة رمز بك الرامزون؟ ولماذا جعلوا بين كفيك درجات خفية تفضي إلى سرداب امتد وتاه في مجاهل الأهرام؟ ولماذا أودعوا قلبك مفتاح باب الغيب حيث كان العرافون يستمعون للآلهة الهواتف؟ ولماذا لا يعرف موضع أصغرك إلا جوف منك سوى شفتيك المطبقتين على كر الأعقاب؟
تفتر شفتاك دون كشف وإعلان، أتأكيد هذه البسمة أم إيهام؟ أإشفاق على دماء المفاداة وقد أذيبت فيها الأوحال، أم لأن ما هو كائن أقلص من ظل حصاة حيال ما سيكون؟
هذا نيلك رضاب الطبيعة المحيي عبد من منبعه إلى مصبه لما يظهره من أريحية ووفاء. أتدرك معنى احمراره الصيفي ومعنى خصبه؟ أتفهم معنى شكل هندسي تجلب به أهرامك الخالدة؟ أنت الذي نحتك الكلدان قبل أن يرسموا دائرة البروج، أتعلم ما إذا كانت هذه الأهرام منائر للصحراء، أم مدافن للفراعنة، أم حصون دفاع، أم مستودعات كنوز، أم مجتمع عشاق، أم محفلا فيه يدين أوزريس موتاه؟ أتعلم لماذا أدرجت أوراق البردي وأسرارها الهيروغليفية طي الأكفان مع الموميات في التوابيت والنواويس؟ أتعرف معنى سوسن الماء وزهرات عرائس النيل العائمة على النهر المقدس؟ نحن الجهلاء نعلم أن جميع هذه إنما هي رموز إلى الحياة المتحكمة فينا. وأنت، ألم يبق لك ما يكتسب ها هنا لتحول نظرك وتسكت سكوتا لا ينتهي؟
أم أنت لا ترقب هناك سوى ما نرقب؟ أترصد حركة الأصبع الموجه الإبرة الممغنطة نحو الشمال تجر بعدها النظم الشمسية وهيئات الكواكب؟ أم تستعرض مواكب الأنوار والظلمات، وجيوش الثوابت والسيارات، وجحافل الأمكنة والأزمنة، أم أنت تتهجأ اسم الحياة يخطه قلم النواميس بحروف الشموس والمذنبات والسدم والعوالم؟ أم يذهلك تدفق الفيض الإلهي من وراء حجب الوجود ليتكون أثيرا وهواء ونارا وماء وهيولى؟
نحن مثلك نترقب ونتوقع، ونتوقع ونترقب، فهل تعلم ما هذا الذي ننتظره وتنتظره الآفاق المنحنية علينا؟ لقد سجنا في حالك الظلمات تخترقها خيوط النور حينا بعد حين، فنهب نحسبها مقدمة لتحقيق الرجية، وما هي غير السراب الخداع، فيزيد الظلام حلكا، ونلبث في الانتظار مترددين.
لقد دفن نصفك في الرمال المغيرة على علاك وما زلت ترقب الشرق وتبتسم، ونحن تغزونا الكوارث، وتفتك بنا الدواهي، فنظل نترقب ونرجو.
أصحيح أن لغزك لغز الدهور، أم خلقك الإنسان رمزا له كما خلق آلهته على صورته ومثاله؟ لقد أعطاك من الثور الخاصرتين؛ مكمن الغريزة الجوفية الرامزة إلى السكوت، ومن الأسد براثن التحمس والاستماتة الرامزة إلى الجرأة، ومن النسر الجناحين المحلقين في بعيد المدى، الرامزين إلى المعرفة، ومنه - من إنسانيته - أعطاك الرأس، مشيرا إلى التبصر والإرادة المدركة المتغلبة على الغريزة والانفعال والخيال. فكيف يحصر فيك جميع هذه النزعات التي تتجاذبه ، ولا يضيف إليها ما بقي؟ لماذا لا يكون ابتسامك الدائم صورة الأمل المتجدد أبدا فيه؟ أليس إنه مثلك لأنك مثله؟ أليس إن في أعماقه أبا هول شاخصا أبدا في السموات العلى، كما ظفر بفجر وشروق لبث يتوقع بزوغ كوكب جديد، وشروق شمس ساطعة؟
صفحة غير معروفة