72

ظهر الإسلام

تصانيف

مجر عوالينا ومجرى السوابق

ويدل على عصبيتهم الإسلامية قتالهم للروم، وصدهم عن بلاد الإسلام وحمايتهم للثغور، حتى غزا سيف الدولة الروم أربعين غزوة، ولولاه لاستولوا على الشام في غفلة العباسيين، وقد رووا أنه جمع من الغبار الذي أصابه في غزواته ما صنع منه لبنة بقدر الكف أوصى أن يوضع خده عليها في لحده.

بين هذه العصبيات الثلاث التركية والفارسية والعربية تقسمت المملكة الإسلامية؛ ولأجلها وقعت الحروب وسادت الفتن، فلا تكاد تخلو سنة من حروب بين فرس وترك وعرب، وأحيانا ينضم بعض إلى بعض؛ فقد كان في جيش بني حمدان أحيانا فرق من الجيش التركي ، كما كان مع بعض بني بويه بعض الأتراك، والبلاد تخرب من القتال، والروم ينتهزون فرصة اشتباك أمراء المسلمين بعضهم مع بعض للإغارة على الثغور الإسلامية والتنكيل بها.

وقد اتخذت العصبيات في هذا العصر شكلا واضحا غير الذي كان في العصر العباسي الأول، فقد كان قبل عصبية فارسية وعصبية عربية، ولكنها كانت تعمل في الخفاء غالبا، وكانت قوة الخلفاء تحول دون الطغيان، فإذا أحس الخليفة طغيانا من الفرس نكل بهم، وردهم إلى حدودهم، فلما ضعفت الخلافة، وقتل المتوكل بيد الأتراك، لم يكن للخليفة من النفوذ ما يستطيع أن يصد به هذا الطغيان، فانكشف العصبيات وأصبحت تعمل جهارا، ووسيلتها الحروب.

وكان من نتيجة هذه العصبيات الثلاث، واستعمالها السيف في بسط نفوذها، وضعف الخلفاء عن كبح جماحها؛ انقسام المملكة إلى مناطق نفوذ، فلو نظرنا إلى المملكة الإسلامية في النصف الثاني من القرن الثالث وفي القرن الرابع الهجري، رأينا الأندلس يحكمها الأمويون وهم عرب، وبلاد المغرب يحكم بعضها الأدارسة وهم عرب، وبعض قبائل البربر، والفاطمية وهم عرب، ومصر والشام يحكمها الطولونيون والإخشيديون، وهم أتراك، ثم الفاطميون وهم عرب، والحمدانيون في الموصل وحلب وهم عرب، والعراق يحكمه الأتراك باسم الخليفة العباسي، وينازعهم السلطان عليه الحمدانيون وهم عرب، ثم يستولي عليه البويهيون وهم فرس، وفارس تتقسمها دول مختلفة: الدلفية في كردستان وهم عرب، والصفارية في فارس كلها وهم فرس، والسامانية في فارس وما وراء النهر وهم فرس، والزيارية في جرجان وهم فرس، والحسنوية في كردستان وهم أكراد، والبويهية في جنوبي فارس وهم فرس، والغزنوية بأفغانستان والهند وهم أتراك.

وكان كل جنس من هذه الأجناس يطبع البلاد التي يحكمها بطابعه الخاص، فطابع التركية حب للجندية والفروسية، والاستكثار من الجنود من جنسهم لتقوية حكمهم، ثم كثرة الخلافة فيما بينهم، وتعصب كل فريق لقائد كالبدو في تعصبهم للقبائل واعتزازهم بقبيلتهم، ونظرهم في شيء من الاحتقار إلى أهل البلاد المحكومة بهم، وانتصارهم لمذهب أهل السنة، وعدم ميلهم إلى الفلسفة والجدل في الدين، وتقريبهم علماء الدين وخاصة علماء التفسير والحديث، وحبهم للأموال يأخذونها من الرعية في غير حكمة وأناة ونظر بعيد، فبدل أن يعنوا بموارد المال من ري، ونظام ضرائب، وإصلاح أراض، وتنظيم تجارة، واستغلال منابع الثروة يجيلون أبصارهم في الناس ، ويتعرفون ذوي الثروة، فينتهزون الفرصة لمصادرتهم أو التنكيل بهم أو نحو ذلك، ثم ينفقون ما تصل إليه أيديهم في الترف والنعيم، فإذا أسرفوا وخلت أيديهم من جديد ثاروا على من لديه المال، ترى تاريخهم في العراق في ذلك العهد سلسلة مطالبات للخليفة بالأموال، فإذا لم يعطهم خلعوه، وإن أعطاهم سكتوا عنه أن يفرغ مالهم، ثم أعادوا الكرة، وهكذا فعلوا في الوزراء والكبراء والتجار، وهم مع كل هذا لا ينظرون إلى وسائل المال ليصلحوها؛ ولذلك سرعان ما ينضب معين الدولة لقد كان لدى الخلفاء ثروة هائلة تقدر بالملايين، فما زالوا يلحون عليهم في طلب المال، والخلفاء يفتدون أرواحهم بالعطاء حتى تركوهم ولا شيء في أيديهم، ومن أجل هذا نقرأ كثيرا في تاريخ هذه العصور دفن الأموال في الأرض، وبناء الحوائط عليها، وتظاهر الأغنياء بالفقر، ونحو ذلك.

وطابع الفرس حب الفخفخة والظهور، قد ورثوا مدينة قديمة مملوءة بالتقاليد والأوضاع، فطبعوا عليها بمحاسنها ومساويها؛ فلهم قدرة على تنظيم الحكم، ومعرفة واسعة بما يزيد الثروة ويضعفها، ولهم عقول مثقفة تتذوق الأدب والعلم وتهتز لهما، فهم يشجعون العلم لا بالمعنى الضيق الذي يشجعه التركي، ولكن بمعناه الواسع الذي يشمل الفلسفة بفروعها المختلفة، قد كثرت المذاهب الدينية القديمة عندهم من مانوية وزرادشتية ومزدكية، فكثرت في الإسلام مذاهبهم من زيدية واثني عشرية وسبعية وغير ذلك، وورثوا ما يرثه أبناء كل أمة تحضرت وهرمت من ميل إلى الترف والنعيم، وانهماك في اللذائذ، وأورثهم ضغط الدولة الأموية عليهم وتحقيرهم ميلا كامنا إلى الانتقام من العرب والأخذ بالثأر منهم في لين وهوادة، وعلمهم التشيع التقية، فمكروا وعملوا في الخفاء وتستروا، وأسسوا المؤامرات للقضاء على خصومهم بالثورات أحيانا، وبالدعوة المقنعة بالعلم أحيانا، إلى غير ذلك.

وطابع العرب ميل إلى البداوة، وحكم بالقبلية، واعتزاز بدمهم، واحتقار لغير جنسهم، وزهوهم بسيفهم ولسانهم، وقلقهم واضطرابهم، فإذا أحسوا ضعف رئيسهم فما أسرع ثورتهم! ثم هم أسرع ما يكون قبولا للتأقلم والتحضر، فإذا تحضروا انغمسوا في النعيم، ومالوا إلى خصب العيش، وتأنقوا في المأكل والملبس والمشرب ، كما كان شأن الفاطميين بعد انتقالهم من المغرب إلى مصر، وكما كان شأن من نزل من العرب في الأندلس، وكما كان شأن العرب الفاتحين لبلاد فارس والروم، وهم في أول أمرهم شجعان صرحاء بسطاء، فإذا انغمسوا في النعيم، وقعوا في سيئات الحضارة، ففقدوا صراحتهم وبساطتهم، أحب إليهم الأدب والشعر لا الفلسفة والعلم، إلا أن يستعينوا بغيرهم من الموالي في تجميل دولتهم بالفلسفة والعلم.

وكثيرا ما كان يتعاقب على القطر الواحد هذه الأجناس الثلاثة أو جنسان منها، فتعاقب على العراق العرب والفرس والترك، وعلى مصر العرب والترك، وإذ ذاك يسقيه كل جنس بكأسه، ويتكون لكل قطر مزاج هو نتيجة طبع الأمة مع من تعاقب عليها من الأجناس.

وهناك عنصران آخران كان لهما أثر في الحياة الاجتماعية في هذا العصر، وإن كان هذا الأثر في المنزلة الثانية، وأعني بهما الروم والزنج.

صفحة غير معروفة