وذكر «الطبري» أن الجند شغبوا لما بويع لأبي إسحاق - المعتصم - بالخلافة، فطلبوا العباس ونادوه باسم الخلافة، فأرسل أبو إسحاق إلى العباس فأحضروه فبايعه العباس ثم خرج العباس إلى الجند فقال: ما هذا الحب البارد؟! قد بايعت عمي، وسلمت الخلافة إليه. فسكن الجند.
2
لم تمر هذه الحادثة على المعتصم من غير أن تدعوه إلى التفكير العميق؛ حتى لا يتكرر مثل هذا الحادث، ففكر أن يستعين بقوم غير الفرس وغير العرب، فهداه تفكيره إلى الترك، وظل لا يصفو للعباس ولا العباس يصفو له حتى اتهم العباس بأنه يدبر مؤامرة لاغتيال المعتصم، فقبض على العباس وسجن ومنع عنه الماء حتى مات. (2)
وسبب آخر لاستدعاء المعتصم للترك، وهو أن أم المعتصم أصلها من هذه الأصقاع التركية، فقد كانت من السغد، واسمها ماردة، وكان في طباعه كثير من طباع هؤلاء الأتراك، من القوة والشجاعة والاعتداد بقوة الجسم؛ «كان يجعل زند الرجل بين إصبعيه فيكسره». ويقول أحمد بن أبي دؤاد: «كان المعتصم يخرج ساعده إلي ويقول: عض ساعدي بأكثر قوتك. فأمتنع، فيقول: إنه لا يضرني! فأورم ذلك فإذا هو لا تعمل فيه الأسنة فضلا عن الأسنان!»
3
فدعته العصبية التركية والتشابه الخلقي أن يفكر في استدعاء الأتراك ففعل.
استكثر المعتصم من الأتراك حتى ملئوا بغداد وضايقوا أهلها، قال المسعودي: «كانت الأتراك تؤذي العوام بمدينة السلام بجريها بالخيول في الأسواق وما ينال الضعفاء والصبيان من ذلك، فكان أهل بغداد ربما ثاروا ببعضهم فقتلوه عند صدمه لامرأة أو شيخ كبير، أو صبي أو ضرير؛ فعزم المعتصم على النقلة معهم ... فانتهى إلى موضع سامرا، فأحضر الفعلة والصناع وأهل المهن من سائر الأمصار، ونقل إليها من سائر البقاع أنواع الغروس والأشجار، فجعل للأتراك مواضع متميزة، وجاورهم بالفراغنة والأشروسنية ... وأقطع أشناس التركي وأصحابه من الأتراك الموضع المعروف بكرخ سامرا ... إلخ».
4
كان من هؤلاء الأتراك مسلمون أسلموا على أثر فتح المسلمين لبلادهم في العصر الأموي، ومنهم مجوس وثنيون أخذوا يسلمون عند استقدام المعتصم لهم، وكانوا يتكلمون التركية، فأخذوا يتعلمون العربية، وقد عرفوا بالشجاعة والصبر على القتال كما عرفوا بخشونة البداوة وقسوة الطبيعة؛ وحافظ المعتصم على دمائهم أن تبقى متميزة، فجلب لهم نساء من جنسهم زوجهن لهم، ومنعهم أن يتزوجوا من غيرهم.
مكن المعتصم للأتراك في الأرض، وكانوا في أول أمرهم قوة للدولة، وبسببهم - على الأكثر - يرجع انتصارهم على الروم في وقعة عمورية سنة 223ه، فكانت القيادة العليا في يد الأتراك وعلى رأسهم أشناس.
صفحة غير معروفة