100

ظهر الإسلام

تصانيف

ومع مضي الزمن وضعف الخلافة قطعوا هذه الصلة أيضا وتلقبوا بإمرة المؤمنين أو بالخلفاء. وأول من فعل ذلك الفاطميون، فبعد أن فتحوا القيروان سنة 297ه تلقبوا بالخلافة، وشجعهم على ذلك أنهم شيعيون يقولون باغتصاب الأمويين والعباسيين حقهم في الخلافة، فلما تملكوا حققوا نظريتهم في أحقيتهم؛ فتسموا بالخلفاء، فلما رأى الأندلسيون ذلك قلدوهم مع أنهم سنيون، فتلقب عبد الرحمن الناصر أمير الأندلس بأمير المؤمنين نحو سنة 350، وكانوا يلقبون من قبل بالأمراء، وببني الخلفاء. قال المقري: «هو أول من تسمى منهم بالأندلس بأمير المؤمنين عندما التاث أمر الخلافة بالمشرق، واستبد موالي الترك على بني العباس، وبلغه أن المقتدر قتله مؤنس المظفر مولاه سنة 317ه، فتلقب بألقاب الخلافة.»

3

وهنا يصح لنا أن نتساءل سؤالين: الأول: هل كان انقسام المملكة الإسلامية إلى أقسام على النحو الذي أبنا في مصلحة الأقطار الإسلامية أو في غير مصلحتها؟ قد يبدو هذا السؤال غريبا؛ لأن الناس اعتادوا أن يقيسوا رقي المملكة الإسلامية بوحدتها وضعفها بانقسامها، وبعبارة أخرى ربطوا رقي المملكة الإسلامية بحال الخليفة؛ فإذا كان الخليفة قويا باسطا سلطانه على الأقطار كلها، فالدولة قوية، وإلا فهي ضعيفة.

وفي رأيي أن هذا مقياس غير صحيح؛ فقد يضعف الخليفة وتصلح الأقطار والعكس. وهذا ما حدث فعلا، ففي رأيي أن كثيرا من الأقطار الإسلامية كانت بعد استقلالها عن الخلافة في بغداد خيرا منها قبله؛ فيظهر لي أن مصر تحت حكم الطولونيين والإخشيديين والفاطميين كانت حالتها أسعد منها أيام ولاة بغداد قبل الطولونيين، وكذلك حكم السامانيين لفارس وما وراء النهر كان خيرا من حكم من سبقهم من ولاة العباسي، وربما كان شر أيام بغداد هو هذه الأيام التي كانت تخضع فيها للخلفاء، وما حولها مستقل عنها.

فإذا قسنا الأمور بمصلحة المحكومين لا الخلفاء - وهو في نظري أصح مقياس - كان هذا الانقسام في مصلحة الأقطار المستقلة في أغلب الأحوال، وعلى الأقل كان في مصلحتهم نسبيا؛ أعني بالنسبة للحالة السيئة التي كانوا عليها قبل استقلالهم؛ فالإدارة وانتفاع كل قطر بماله يصرفه في مصالحه والعدالة النسبية في توزيع الثروة ونحو ذلك؛ كلها كانت خيرا منها أيام سلطة الخلفاء الضعفاء ومن يتولاهم من الأتراك الأقوياء.

والأندلس لما أتيح لها الاستقلال في بدء العصر العباسي، ومنعتها قوتها وبعدها من أن يخضعها العباسيون لحكمهم، أزهرت وتمدنت وساهمت في بناء المدينة، في العلم والأدب والحضارة، وما أظن أنها كانت تبلغ هذا المبلغ لو عاشت في أحضان الدولة العباسية.

نعم! إنهم - وقد تفرقوا - أصبحوا أضعف أمام العدو الخارجي كالروم، وصار يحمل العبء كله دويلة مستقلة كدولة الحمدانيين، وكان يحمل العبء قبل المملكة الإسلامية كلها، فمن هذه الناحية كان هذا مظهر ضعف للدولة، خصوصا والدول المستقلة لم تستطع أن تتفاهم، وترتب بينها نظاما مشتركا يضمن دفع غارة الأعداء الخارجي؛ لأن هذا النظام يتطلب رقيا في الفكر، وضبطا للعواطف ، وتقديما للمصلحة العامة على الخاصة؛ وهي درجة لم يستطع المسلمون الوصول إليها حتى الآن! إنما كان علاقة كل دولة مسلمة بجارتها المسلمة علاقة عداء غالبا، فلم يتمكنوا من التفاهم على مصالحهم الداخلية فضلا عن المصالح الخارجية، ولو استطاعوا - مع استقلالهم - أن ينظموا شئونهم مع من بجوارهم، وينظموا صفوفهم أمام عدوهم الخارجي لبلغوا الغاية. ولكني مع هذه الشرور كلها أرى أن حالة كثير من البلدان الإسلامية نالت باستقلالها من الطمأنينة والرخاء ما لم تنعم به في الأيام الأخيرة لتبعتها بغداد.

والسؤال الثاني: ما موقف العلم والأدب بعد هذا الانقسام؟ هل أثر فيهما أثرا حسنا أو سيئا؟ وهل انحط العلم والأدب بانحطاط خلفاء بغداد أو رقيا باستقلال الأقطار؟

أرى أن العلم والأدب رقيا عما كانا عليه قبل، وأنه لم يؤثر فيهما كثيرا ضعف خلفاء بغداد؛ ذلك أن حركة الترجمة التي نقلت ذخائر الأمم المختلفة وخصوصا الأمة اليونانية، وضعت أمام أعين المسلمين ثروة علمية هائلة باللسان العربي، فكانت الخطوة الثانية أن تتوجه إليها الأفكار العربية تفهمها وتشرحها وتهضمها وتبتكر فيها وتزيد عليها؛ وهذا ما فعله عصرنا هذا كما سيأتي بيانه. ومن جهة أخرى كان وضع السلطة كلها في يد الخليفة يجعل بغداد المركز العلمي الوحيد، أو على الأقل المركز العلمي والأدبي الهام، وما عداه فاتر ضعيف؛ فكان من تفوق في علم أو أدب فلا أمل في شهرته ونبوغه، وذيوع صيته وثروته، إلا إذا رحل إلى بغداد وتقرب بعلمه وأدبه إلى خلفائها وأمرائها.

فلما استقلت الأقطار أصبحت كل عاصمة قطر مركزا هاما لحركة علمية وأدبية، فأمراء القطر يعطون عطاء خلفاء بغداد، ويحلون عاصمتهم بالعلماء والأدباء، ويفاخرون أمراء الأقطار الأخرى في الثروة العلمية والأدبية ، كما يتفاخرون بعظمة الجند وعظمة المباني. فبدل أن كان للعلم والأدب مركز واحد هام أصبحت لهما مراكز هامة متعددة، وأصبح علماء مصر - مثلا - يساجلون علماء بغداد، وأدباء الشام يفخرون على أدباء العراق، وهذا من غير شك يشجع الحركة العلمية والأدبية ويقويها ويرقيها.

صفحة غير معروفة