١١٥ - أَنْشَدَنَا أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ قَالَ: أَنْشَدَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَحْمَدَ الطَّبَرِيُّ قَالَ: أَنْشَدَنِي عَلِيُّ بْنُ النَّجْمِ قَالَ: أَنْشَدَنِي الْبُحْتُرِيُّ لِنَفْسِهِ:
[البحر الخفيف]
وَأَرَى هِمَّتِي تُكَلِّفُنِي حَمْـ ... ـلَ أَمْرٍ خَفِيفُهُ لَثَقِيلُ
وَلَوَ انِّي رَضِيتُ مَقْسُومَ حَظِّي ... لَكَفَانِي مِنَ الْكَثِيرِ قَلِيلُ
١١٦ - أَنْشَدَنَا أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ قَالَ: أَنْشَدَنِي أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ قَالَ: أَنْشَدَنِي مُظَفَّرٌ الْقِرْمِيسِنِيُّ: [البحر الوافر] أَفَادَتْنِي الْقَنَاعَةُ كُلَّ عِزٍّ ... وَهَلْ عِزٌّ أَعَزُّ مِنَ الْقَنَاعَهْ فَصَيِّرْهَا لِنَفْسِكَ رَأْسَ مَالٍ ... وَصَيِّرْ بَعْدَهَا التَّقْوَى بِضَاعَهْ
فَصْلٌ فِي الْعُزْلَةِ وَالْخُمُولِ قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ مُلَخِّصًا لِكَلَامِ ابْنِ الْجَوْزِيِّ، وَأَصْلُهُ لِلْإِمَامِ الْغَزَالِيِّ: اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْعُزْلَةِ وَالْمُخَالَطَةِ: أَيَّتُهُمَا أَفْضَلُ؟ مَعَ أَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا لَا تَنْفَكُّ عَنْ فَوَائِدَ وَغَوَائِلَ، وَأَكْثَرُ الزُّهَّادِ اخْتَارُوا الْعُزْلَةَ، وَمِمَّنْ ذَهَبَ إِلَى اخْتِيَارِ الْعُزْلَةِ: سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ أَدْهَمَ وَدَاوُدُ الطَّائِيُّ وَالْفُضَيْلُ وَبِشْرٌ الْحَافِي فِي آخَرِينَ. وَمِمَّنْ ذَهَبَ إِلَى اسْتِحْبَابِ الْمُخَالَطَةِ: سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَشُرَيْحٌ وَالشَّعْبِيُّ وَابْنُ الْمُبَارَكِ فِي آخَرِينَ، وَلِكُلِّ طَائِفَةٍ فِيمَا ذَهَبَتْ إِلَيْهِ حُجَجٌ. فَوَائِدُ الْعُزْلَةِ وَغَوَائِلُهَا وَكَشْفُ الْحَقِّ فِي فَضْلِهَا وَاعْلَمْ أَنَّ اخْتِلَافَ النَّاسِ فِي هَذَا أَيْضًا كَاخْتِلَافِهِمْ فِي فَضِيلَةِ النِّكَاحِ وَالْعُزُوبَةِ، وَقَدْ ذُكِرَ أَنَّ ذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ وَالْأَشْخَاصِ فَكَذَلِكَ نَقُولُ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ، فَلْنَذْكُرْ أَوَّلًا فَوَائِدَ الْعُزْلَةِ وَهِيَ سِتٌّ: الْأُولَى: الْفَرَاغُ لِلْعِبَادَةِ وَالِاسْتِئْنَاسِ بِمُنَاجَاةِ اللَّهِ ﷾، فَإِنَّ ذَلِكَ يَسْتَدْعِي فَرَاغًا وَلَا فَرَاغَ مَعَ الْمُخَالَطَةِ، فَالْعُزْلَةُ وَسِيلَةٌ إِلَى ذَلِكَ خُصُوصًا فِي الْبَدَاءَةِ. وَاعْلَمْ أَنَّ مَنْ تَيَسَّرَ لَهُ بِدَوَامِ الذِّكْرِ الْأُنْسُ بِاللَّهِ، أَوْ بِدَوَامِ الْفِكْرِ تَحْقِيقُ مَعْرِفَةِ اللَّهِ، فَالتَّجَرُّدُ لِذَلِكَ أَفْضَلُ مِنْ كُلِّ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْمُخَالَطَةِ. الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ: التَّخَلُّصُ بِالْعُزْلَةِ عَنِ الْمَعَاصِي الَّتِي يَتَعَرَّضُ لَهَا الْإِنْسَانُ غَالِبًا بِالْمُخَالَطَةِ، وَهِيَ أَرْبَعَةٌ: أَحَدُهَا: فَإِنَّ عَادَةَ النَّاسِ التَّمَضْمُضُ بِالْأَعْرَاضِ، وَالتَّفَكُّهُ بِهَا. الثَّانِيَةُ: الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ، فَإِنَّ مَنْ خَالَطَ النَّاسَ لَمْ يَخْلُ عَنْ مُشَاهَدَةِ الْمُنْكَرَاتِ، فَإِنْ سَكَتَ عَصَى اللَّهَ، وَإِنْ أَنْكَرَ تَعَرَّضَ لِأَنْوَاعٍ مِنَ الضَّرَرِ وَفِي الْعُزْلَةِ سَلَامَةٌ مِنْ هَذَا. الثَّالِثَةُ: الرِّيَاءُ، وَهُوَ الدَّاءُ الْعُضَالُ الَّذِي يَعْسُرُ الِاحْتِرَازُ مِنْهُ، وَأَوَّلُ مَا فِي مُخَالَطَةِ النَّاسِ إِظْهَارُ التَّشَوِّقِ إِلَيْهِمْ، وَلَا يَخْلُو ذَلِكَ عَنِ الْكَذِبِ، إِمَّا فِي الْأَصْلِ وَإِمَّا فِي الزِّيَادَةِ، وَفِي الْعُزْلَةِ الْخَلَاصُ عَنْ هَذَا. الرَّابِعَةُ: مُسَارَقَةُ الطَّمَعِ مِنْ أَخْلَاقِهِمُ الرَّدِيئَةِ، وَهُوَ دَاءٌ دَفِينٌ قَلَّمَا يَتَنَبَّهُ لَهُ الْعُقَلَاءُ فَضْلًا عَنِ الْغَافِلِينَ. الْفَائِدَةُ الثَّالِثَةُ: الْخَلَاصُ مِنَ الْفِتَنِ وَالْخُصُومَاتِ وَصِيَانَةُ الدِّينِ عَنِ الْخَوْضِ فِيهَا؛ فَإِنَّهُ قَلَّمَا تَخْلُو الْبِلَادُ مِنَ الْعَصَبِيَّةِ وَالْخُصُومَاتِ، وَالْمُعْتَزِلُ عَنْهُمْ سَلِيمٌ. الْفَائِدَةُ الرَّابِعَةُ: الْخَلَاصُ مِنْ شَرِّ النَّاسِ؛ فَإِنَّهُمْ يُؤْذُونَكَ مَرَّةً بِالْغِيبَةِ وَمَرَّةً بِالنَّمِيمَةِ وَمَرَّةً بِسُوءِ الظَّنِّ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ الشَّرِّ الَّتِي يَلْقَاهَا الْإِنْسَانُ مِنْ مَعَارِفِهِ، وَفِي الْعُزْلَةِ خَلَاصٌ عَنْ ذَلِكَ. الْفَائِدَةُ الْخَامِسَةُ: أَنْ يَنْقَطِعَ طَمَعُ النَّاسِ عَنْكَ وَطَمَعُكَ عَنْهُمْ، أَمَّا طَمَعُهُمْ: فَإِنَّ رِضَاهُمْ غَايَةٌ لَا تُدْرَكُ، فَالْمُنْقَطِعُ عَنْهُمْ قَاطِعٌ لِطَمَعِهِمْ فِي حُضُورِ وَلَائِهِمْ وَإِمْلَاكَاتِهِمْ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَأَمَّا انْقِطَاعُ طَمَعِكَ: فَإِنَّ مَنْ نَظَرَ إِلَى زَهْرَةِ الدُّنْيَا تَحَرَّكَ حِرْصُهُ وَانْبَعَثَ بِقُوَّةِ الْحِرْصِ طَمَعُهُ، وَلَا يَرَى إِلَّا الْخَيْبَةَ فِي أَكْثَرِ الْمَطَامِعِ فَيَتَأَذَّى. الْفَائِدَةُ السَّادِسَةُ: الْخَلَاصُ مِنْ مُشَاهَدَةِ الثُّفَلَاءِ وَالْحَمْقَى وَمُقَاسَاةِ أَخْلَاقِهِمْ، وَإِذَا تَأَذَّى الْإِنْسَانُ بِالثُّفَلَاءِ لَمْ يَلْبَثْ أَنْ يَغْتَابَهُمْ، فَإِنْ آذُوهُ بِالْقَدْحِ فِيهِ كَافَأَهُمْ فَأَنْجَزَ الْأَمْرَ إِلَى فَسَادِ الدِّينِ، وَفِي الْعُزْلَةِ سَلَامَةٌ مِنْ ذَلِكَ. فَصْلٌ فِي آدَابِ الْعُزْلَةِ اعْلَمْ أَنَّ مِنَ الْمَقَاصِدِ الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ مَا يُسْتَفَادُ مِنَ الِاسْتِعَانَةِ بِالْغَيْرِ وَلَا يَحْصُلُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْمُخَالَطَةِ. وَفِي فَوَائِدِ الْمُخَالَطَةِ التَّعَلُّمُ وَالتَّعْلِيمُ، وَالنَّفْعُ وَالِانْتِفَاعُ وَالتَّأْدِيبُ وَالتَّأَدُّبُ، وَالِاسْتِينَاسُ وَالْإِينَاسُ وَنَيْلُ الثَّوَابِ فِي الْقِيَامِ بِالْحَقِّ وَاعْتِيَادِ التَّوَاضُعِ وَاسْتِفَادَةِ التَّجَارِبِ مِنْ مُشَاهَدَةِ هَذِهِ الْأَحْوَالِ وَالِاعْتِبَارِ لَهَا، فَهَذِهِ فَوَائِدُ الْخُلْطَةِ، فَإِذَا عَرَفْتَ فَوَائِدَ الْعُزْلَةِ وَغَوَائِلَهَا تَحَقَّقْتَ أَنَّ الْحُكْمَ عَلَيْهَا مُطْلَقًا بِالتَّفْضِيلِ نَفْيًا وَإِثْبَاتًا خَطَأٌ، بَلْ يَنْبَغِي أَنْ يُنْظَرَ إِلَى الشَّخْصِ وَحَالِهِ، وَإِلَى الْخَلِيطِ وَحَالِهِ، وَإِلَى الْبَاعِثِ عَلَى مُخَالَطَتِهِ وَإِلَى الْفَائِتِ بِسَبَبِ مُخَالَطَتِهِ مِنَ الْفَوَائِدِ، وَيُقَاسُ الْفَائِتُ بِالْحَاصِلِ، فَعِنْدَ ذَلِكَ يَتَبَيَّنُ الْحَقُّ وَيَتَّضِحُ الْأَفْضَلُ. مِنْ آدَابِ الْعُزْلَةِ يَنْبَغِي لِلْمُعْتَزِلِ أَنْ يَنْوِيَ بِعُزْلَتِهِ كَفَّ شَرِّهِ عَنِ النَّاسِ، ثُمَّ طَلَبَ السَّلَامَةِ مِنْ شَرِّ الْأَشْرَارِ، ثُمَّ الْخَلَاصَ مِنْ آفَةِ الْقُصُورِ عَنِ الْقِيَامِ بِحَقِّ الْمُسْلِمِينَ، ثُمَّ تَجْرِيدَ الْهِمَّةِ لِعِبَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى أَبَدًا، فَهَذِهِ آدَابٌ بَيِّنَةٌ. الْخُمُولُ اعْلَمْ أَنَّ أَصْلَ الْجَاهِ هُوَ حُبُّ انْتِشَارِ الصِّيتِ وَالِاشْتِهَارِ، وَذَلِكَ خَطَرٌ عَظِيمٌ، وَالسَّلَامَةُ فِي الْخُمُولِ، وَأَهْلُ الْعِلْمِ لَمْ يَقْصُدُوا الشُّهْرَةَ وَلَمْ يَتَعَرَّضُوا لَهَا، وَلَا لِأَسْبَابِهَا، فَإِنْ وَقَعَتْ مِنْ قِبَلِ اللَّهِ تَعَالَى فَرُّوا عَنْهَا وَكَانُوا يُؤْثِرُونَ الْخُمُولَ، الْمَذْمُومُ طَلَبُ الْإِنْسَانِ الشُّهْرَةَ، وَأَمَّا وُجُودُهَا مِنْ جِهَةِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ غَيْرِ طَلَبِ الْإِنْسَانِ فَلَيْسَ بِمَذْمُومٍ، غَيْرَ أَنَّ فِي وُجُودِهَا فِتْنَةً عَلَى الضُّعَفَاءِ، فَإِنَّ مَثَلَ الضَّعِيفِ كَالْغَرِيقِ الْقَلِيلِ الصَّنْعَةِ فِي السِّبَاحَةِ، إِذَا تَعَلَّقَ بِهِ أَحَدٌ غَرِقَ وَغَرَّقَهُ، فَأَمَّا السَّابِحُ النِّحْرِيرُ فَإِنَّ تَعَلُّقَ الْغَرْقَى بِهِ سَبَبٌ لِنَجَاتِهِمْ وَخَلَاصِهِمْ.
١١٧ - أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ، حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ، أَنْبَأَنَا الْعَبَّاسُ بْنُ الْوَلِيدِ بْنِ يَزِيدَ، حَدَّثَنِي أَبِي، حَدَّثَنَا الْأَوْزَاعِيُّ، حَدَّثَنَا الزُّهْرِيُّ، عَنْ عَطَاءِ بْنَ يَزِيدَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: «أَيُّ النَّاسِ أَفْضَلُ؟» قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، فَأَعَادَهَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهُ مَنْ جَاهَدَ بِمَالِهِ وَنَفْسِهِ؟ قَالَ: «ثُمَّ مَنْ؟» قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: «مُؤْمِنٌ يَعْتَزِلُ فِي شِعْبٍ يَتَّقِي رَبَّهُ، وَيَدَعُ النَّاسَ مِنْ شَرِّهِ» ⦗٩٣⦘، مُخَرَّجٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ الْأَوْزَاعِيِّ
١١٦ - أَنْشَدَنَا أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ قَالَ: أَنْشَدَنِي أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ قَالَ: أَنْشَدَنِي مُظَفَّرٌ الْقِرْمِيسِنِيُّ: [البحر الوافر] أَفَادَتْنِي الْقَنَاعَةُ كُلَّ عِزٍّ ... وَهَلْ عِزٌّ أَعَزُّ مِنَ الْقَنَاعَهْ فَصَيِّرْهَا لِنَفْسِكَ رَأْسَ مَالٍ ... وَصَيِّرْ بَعْدَهَا التَّقْوَى بِضَاعَهْ
فَصْلٌ فِي الْعُزْلَةِ وَالْخُمُولِ قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ مُلَخِّصًا لِكَلَامِ ابْنِ الْجَوْزِيِّ، وَأَصْلُهُ لِلْإِمَامِ الْغَزَالِيِّ: اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْعُزْلَةِ وَالْمُخَالَطَةِ: أَيَّتُهُمَا أَفْضَلُ؟ مَعَ أَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا لَا تَنْفَكُّ عَنْ فَوَائِدَ وَغَوَائِلَ، وَأَكْثَرُ الزُّهَّادِ اخْتَارُوا الْعُزْلَةَ، وَمِمَّنْ ذَهَبَ إِلَى اخْتِيَارِ الْعُزْلَةِ: سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ أَدْهَمَ وَدَاوُدُ الطَّائِيُّ وَالْفُضَيْلُ وَبِشْرٌ الْحَافِي فِي آخَرِينَ. وَمِمَّنْ ذَهَبَ إِلَى اسْتِحْبَابِ الْمُخَالَطَةِ: سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَشُرَيْحٌ وَالشَّعْبِيُّ وَابْنُ الْمُبَارَكِ فِي آخَرِينَ، وَلِكُلِّ طَائِفَةٍ فِيمَا ذَهَبَتْ إِلَيْهِ حُجَجٌ. فَوَائِدُ الْعُزْلَةِ وَغَوَائِلُهَا وَكَشْفُ الْحَقِّ فِي فَضْلِهَا وَاعْلَمْ أَنَّ اخْتِلَافَ النَّاسِ فِي هَذَا أَيْضًا كَاخْتِلَافِهِمْ فِي فَضِيلَةِ النِّكَاحِ وَالْعُزُوبَةِ، وَقَدْ ذُكِرَ أَنَّ ذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ وَالْأَشْخَاصِ فَكَذَلِكَ نَقُولُ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ، فَلْنَذْكُرْ أَوَّلًا فَوَائِدَ الْعُزْلَةِ وَهِيَ سِتٌّ: الْأُولَى: الْفَرَاغُ لِلْعِبَادَةِ وَالِاسْتِئْنَاسِ بِمُنَاجَاةِ اللَّهِ ﷾، فَإِنَّ ذَلِكَ يَسْتَدْعِي فَرَاغًا وَلَا فَرَاغَ مَعَ الْمُخَالَطَةِ، فَالْعُزْلَةُ وَسِيلَةٌ إِلَى ذَلِكَ خُصُوصًا فِي الْبَدَاءَةِ. وَاعْلَمْ أَنَّ مَنْ تَيَسَّرَ لَهُ بِدَوَامِ الذِّكْرِ الْأُنْسُ بِاللَّهِ، أَوْ بِدَوَامِ الْفِكْرِ تَحْقِيقُ مَعْرِفَةِ اللَّهِ، فَالتَّجَرُّدُ لِذَلِكَ أَفْضَلُ مِنْ كُلِّ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْمُخَالَطَةِ. الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ: التَّخَلُّصُ بِالْعُزْلَةِ عَنِ الْمَعَاصِي الَّتِي يَتَعَرَّضُ لَهَا الْإِنْسَانُ غَالِبًا بِالْمُخَالَطَةِ، وَهِيَ أَرْبَعَةٌ: أَحَدُهَا: فَإِنَّ عَادَةَ النَّاسِ التَّمَضْمُضُ بِالْأَعْرَاضِ، وَالتَّفَكُّهُ بِهَا. الثَّانِيَةُ: الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ، فَإِنَّ مَنْ خَالَطَ النَّاسَ لَمْ يَخْلُ عَنْ مُشَاهَدَةِ الْمُنْكَرَاتِ، فَإِنْ سَكَتَ عَصَى اللَّهَ، وَإِنْ أَنْكَرَ تَعَرَّضَ لِأَنْوَاعٍ مِنَ الضَّرَرِ وَفِي الْعُزْلَةِ سَلَامَةٌ مِنْ هَذَا. الثَّالِثَةُ: الرِّيَاءُ، وَهُوَ الدَّاءُ الْعُضَالُ الَّذِي يَعْسُرُ الِاحْتِرَازُ مِنْهُ، وَأَوَّلُ مَا فِي مُخَالَطَةِ النَّاسِ إِظْهَارُ التَّشَوِّقِ إِلَيْهِمْ، وَلَا يَخْلُو ذَلِكَ عَنِ الْكَذِبِ، إِمَّا فِي الْأَصْلِ وَإِمَّا فِي الزِّيَادَةِ، وَفِي الْعُزْلَةِ الْخَلَاصُ عَنْ هَذَا. الرَّابِعَةُ: مُسَارَقَةُ الطَّمَعِ مِنْ أَخْلَاقِهِمُ الرَّدِيئَةِ، وَهُوَ دَاءٌ دَفِينٌ قَلَّمَا يَتَنَبَّهُ لَهُ الْعُقَلَاءُ فَضْلًا عَنِ الْغَافِلِينَ. الْفَائِدَةُ الثَّالِثَةُ: الْخَلَاصُ مِنَ الْفِتَنِ وَالْخُصُومَاتِ وَصِيَانَةُ الدِّينِ عَنِ الْخَوْضِ فِيهَا؛ فَإِنَّهُ قَلَّمَا تَخْلُو الْبِلَادُ مِنَ الْعَصَبِيَّةِ وَالْخُصُومَاتِ، وَالْمُعْتَزِلُ عَنْهُمْ سَلِيمٌ. الْفَائِدَةُ الرَّابِعَةُ: الْخَلَاصُ مِنْ شَرِّ النَّاسِ؛ فَإِنَّهُمْ يُؤْذُونَكَ مَرَّةً بِالْغِيبَةِ وَمَرَّةً بِالنَّمِيمَةِ وَمَرَّةً بِسُوءِ الظَّنِّ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ الشَّرِّ الَّتِي يَلْقَاهَا الْإِنْسَانُ مِنْ مَعَارِفِهِ، وَفِي الْعُزْلَةِ خَلَاصٌ عَنْ ذَلِكَ. الْفَائِدَةُ الْخَامِسَةُ: أَنْ يَنْقَطِعَ طَمَعُ النَّاسِ عَنْكَ وَطَمَعُكَ عَنْهُمْ، أَمَّا طَمَعُهُمْ: فَإِنَّ رِضَاهُمْ غَايَةٌ لَا تُدْرَكُ، فَالْمُنْقَطِعُ عَنْهُمْ قَاطِعٌ لِطَمَعِهِمْ فِي حُضُورِ وَلَائِهِمْ وَإِمْلَاكَاتِهِمْ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَأَمَّا انْقِطَاعُ طَمَعِكَ: فَإِنَّ مَنْ نَظَرَ إِلَى زَهْرَةِ الدُّنْيَا تَحَرَّكَ حِرْصُهُ وَانْبَعَثَ بِقُوَّةِ الْحِرْصِ طَمَعُهُ، وَلَا يَرَى إِلَّا الْخَيْبَةَ فِي أَكْثَرِ الْمَطَامِعِ فَيَتَأَذَّى. الْفَائِدَةُ السَّادِسَةُ: الْخَلَاصُ مِنْ مُشَاهَدَةِ الثُّفَلَاءِ وَالْحَمْقَى وَمُقَاسَاةِ أَخْلَاقِهِمْ، وَإِذَا تَأَذَّى الْإِنْسَانُ بِالثُّفَلَاءِ لَمْ يَلْبَثْ أَنْ يَغْتَابَهُمْ، فَإِنْ آذُوهُ بِالْقَدْحِ فِيهِ كَافَأَهُمْ فَأَنْجَزَ الْأَمْرَ إِلَى فَسَادِ الدِّينِ، وَفِي الْعُزْلَةِ سَلَامَةٌ مِنْ ذَلِكَ. فَصْلٌ فِي آدَابِ الْعُزْلَةِ اعْلَمْ أَنَّ مِنَ الْمَقَاصِدِ الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ مَا يُسْتَفَادُ مِنَ الِاسْتِعَانَةِ بِالْغَيْرِ وَلَا يَحْصُلُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْمُخَالَطَةِ. وَفِي فَوَائِدِ الْمُخَالَطَةِ التَّعَلُّمُ وَالتَّعْلِيمُ، وَالنَّفْعُ وَالِانْتِفَاعُ وَالتَّأْدِيبُ وَالتَّأَدُّبُ، وَالِاسْتِينَاسُ وَالْإِينَاسُ وَنَيْلُ الثَّوَابِ فِي الْقِيَامِ بِالْحَقِّ وَاعْتِيَادِ التَّوَاضُعِ وَاسْتِفَادَةِ التَّجَارِبِ مِنْ مُشَاهَدَةِ هَذِهِ الْأَحْوَالِ وَالِاعْتِبَارِ لَهَا، فَهَذِهِ فَوَائِدُ الْخُلْطَةِ، فَإِذَا عَرَفْتَ فَوَائِدَ الْعُزْلَةِ وَغَوَائِلَهَا تَحَقَّقْتَ أَنَّ الْحُكْمَ عَلَيْهَا مُطْلَقًا بِالتَّفْضِيلِ نَفْيًا وَإِثْبَاتًا خَطَأٌ، بَلْ يَنْبَغِي أَنْ يُنْظَرَ إِلَى الشَّخْصِ وَحَالِهِ، وَإِلَى الْخَلِيطِ وَحَالِهِ، وَإِلَى الْبَاعِثِ عَلَى مُخَالَطَتِهِ وَإِلَى الْفَائِتِ بِسَبَبِ مُخَالَطَتِهِ مِنَ الْفَوَائِدِ، وَيُقَاسُ الْفَائِتُ بِالْحَاصِلِ، فَعِنْدَ ذَلِكَ يَتَبَيَّنُ الْحَقُّ وَيَتَّضِحُ الْأَفْضَلُ. مِنْ آدَابِ الْعُزْلَةِ يَنْبَغِي لِلْمُعْتَزِلِ أَنْ يَنْوِيَ بِعُزْلَتِهِ كَفَّ شَرِّهِ عَنِ النَّاسِ، ثُمَّ طَلَبَ السَّلَامَةِ مِنْ شَرِّ الْأَشْرَارِ، ثُمَّ الْخَلَاصَ مِنْ آفَةِ الْقُصُورِ عَنِ الْقِيَامِ بِحَقِّ الْمُسْلِمِينَ، ثُمَّ تَجْرِيدَ الْهِمَّةِ لِعِبَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى أَبَدًا، فَهَذِهِ آدَابٌ بَيِّنَةٌ. الْخُمُولُ اعْلَمْ أَنَّ أَصْلَ الْجَاهِ هُوَ حُبُّ انْتِشَارِ الصِّيتِ وَالِاشْتِهَارِ، وَذَلِكَ خَطَرٌ عَظِيمٌ، وَالسَّلَامَةُ فِي الْخُمُولِ، وَأَهْلُ الْعِلْمِ لَمْ يَقْصُدُوا الشُّهْرَةَ وَلَمْ يَتَعَرَّضُوا لَهَا، وَلَا لِأَسْبَابِهَا، فَإِنْ وَقَعَتْ مِنْ قِبَلِ اللَّهِ تَعَالَى فَرُّوا عَنْهَا وَكَانُوا يُؤْثِرُونَ الْخُمُولَ، الْمَذْمُومُ طَلَبُ الْإِنْسَانِ الشُّهْرَةَ، وَأَمَّا وُجُودُهَا مِنْ جِهَةِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ غَيْرِ طَلَبِ الْإِنْسَانِ فَلَيْسَ بِمَذْمُومٍ، غَيْرَ أَنَّ فِي وُجُودِهَا فِتْنَةً عَلَى الضُّعَفَاءِ، فَإِنَّ مَثَلَ الضَّعِيفِ كَالْغَرِيقِ الْقَلِيلِ الصَّنْعَةِ فِي السِّبَاحَةِ، إِذَا تَعَلَّقَ بِهِ أَحَدٌ غَرِقَ وَغَرَّقَهُ، فَأَمَّا السَّابِحُ النِّحْرِيرُ فَإِنَّ تَعَلُّقَ الْغَرْقَى بِهِ سَبَبٌ لِنَجَاتِهِمْ وَخَلَاصِهِمْ.
١١٧ - أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ، حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ، أَنْبَأَنَا الْعَبَّاسُ بْنُ الْوَلِيدِ بْنِ يَزِيدَ، حَدَّثَنِي أَبِي، حَدَّثَنَا الْأَوْزَاعِيُّ، حَدَّثَنَا الزُّهْرِيُّ، عَنْ عَطَاءِ بْنَ يَزِيدَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: «أَيُّ النَّاسِ أَفْضَلُ؟» قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، فَأَعَادَهَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهُ مَنْ جَاهَدَ بِمَالِهِ وَنَفْسِهِ؟ قَالَ: «ثُمَّ مَنْ؟» قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: «مُؤْمِنٌ يَعْتَزِلُ فِي شِعْبٍ يَتَّقِي رَبَّهُ، وَيَدَعُ النَّاسَ مِنْ شَرِّهِ» ⦗٩٣⦘، مُخَرَّجٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ الْأَوْزَاعِيِّ
1 / 92