ثم سرعان ما اتخذ المسلمون قبور الصالحين وغير الصالحين مساجد، ولم يكن الصحابة الأولون يشدون الرجال إلى المشاهد، ثم كان ذلك، وهكذا كلما مضى زمن كثرت فيه أصناف التعظيم للقبور والأضرحة وكثير من الأشجار والجماد.
وظهر الدعاة والمصلحون على توالي العصور يحاولون أن يردوا الناس عن هذا ويرجعوهما إلى التوحيد وحده، وكلما دعا داع إلى ذلك عذب وأهين ورمي بالكفر والإلحاد كما فعل بابن تيمية، فقد ألف الرسائل في هذا الموضوع، وانتقد حال المسلمين في استغاثتهم بالقبور ورحيلهم إليها، وطوافهم بالصخرة في بيت المقدس، ورحيلهم إلى مشهد الخليل ومشاهد عسقلان، وتعظيمهم حتى بعض آثار النصرانية فعذب وسجن، وأتى بعده بقرون محمد بن عبد الوهاب هذا، فدعا مثل هذه الدعوة فرمى بالكفر. وأخيرا جاء الشيخ محمد عبده فدعا إلى العدول عن التوسل والشفاعة والزيارة للقبور، وملأ دروسه في التفسير بمثل هذه الدعوة، فلقي من أهل زمنه ما لم يغب عن أذهاننا بعد.
هذا هو جوهر الدعوة التي دعا بها محمد بن عبد الوهاب، فماذا كان شأنها ومصيرها؟
1
كانت جزيرة العرب عندما دعا محمد بن عبد الوهاب دعوته - التي شرحناها فيما مضى - أشبه شيء بحالتها في الجاهلية، كل قبيلة تسكن موضعا يرأسها أمير منها. هذا أمير في الإحساء، وهذا أمير في العسير، وهؤلاء أمراء في نجد إلخ، ولا علاقة بين الأمير والأمير إلا علاقة الخصومة غالبا. ثم تتوزعها - أيضا - الخصومة بين البدو والحضر، فمن قدر من البدو على خطف شيء من الحضر فعل، ومن قدر من الحضر على التنكيل ببدو فعل، والطرق غير مأمونة، والسلب والنهب على أشدهما، وسلطة الخلافة في الأستانة تكاد تكون سلطة اسمية، ومظهرها تعيين الأشراف في مكة وإمدادهم ببعض الجنود وكفى.
لقد بدأ «محمد بن عبد الوهاب» يدعو دعوته - التي ذكرناها - في لين ورفق بين قومه، ثم أخذ يرسل الدعوة لأمراء الحجاز والعلماء والأقطار الأخرى، حاثا لهم على استنهاض الهمم في مكافحة البدع والرجوع إلى الإسلام الصحيح.
كم من المصلحين دعوا مثل هذه الدعوة، ولكنها مرت بسلام، وإن شابها شيء فسجن الداعي أو التشهير به ورميه بالكفر أو الزندقة، ثم ينتهي الأمر ويعود الناس سيرتهم الأولى، بل نرى من قام بمثل هذه الدعوة - فعلا - في المغرب كالشيخ أبي العباس التيجاني، فقد أمر بترك البدع ونهى عن زيارة القبور، وكثرت أتباعه حتى بلغت مئات الألوف، ولكن لم يلفت الناس والحكام أمره كما لفتهم محمد بن عبد الوهاب، وكذلك الشيخ محمد عبده دعا مثل هذه الدعوة، فأجابه بعضهم ، وأنكر عليهم بعضهم، ثم أسدل الستار. فما السبب في نجاح الدعوة الوهابية دون الأخرى؟
السبب في هذا ما أحاط بالدعوة الوهابية من ظروف لم تتهيئ لغيرها.
فقد اضطهد في بلده العيينة، واضطر أن يخرج منها إلى الدرعية مقر آل سعود، وهناك عرض دعوته على أميرها محمد بن سعود فقبلها، وتعاهدا على الدفاع عن الدين الصحيح ومحاربة البدع، ونشر الدعوة في جميع جزيرة العرب باللسان عند من يقبلها، وبالسيف عند من لم يقبلها، وإذ ذاك دخلت الدعوة في دور خطير، وهو اجتماع السيف واللسان، وزاد الأمر خطورة نجاح الدعوة شيئا فشيئا، ودخول الناس أفواجا فيها، وإخضاع بعض الأمراء بالقوة لحكمها، وكلما دخلوا بلدة أزالوا البدع وأقاموا تعاليمهم، حتى هددت الحركة كل جزيرة العرب، ولما مات الأمير ومات الشيخ تعاقد أبناء الأمير وأبناء الشيخ على أن يسيروا سيرة أبويهم في نصرة الدعوة متكاتفين، وظلوا يعملون حتى غلبوا على مكة والمدينة.
وشعرت الدولة العثمانية بالخطر يهددها بخروج الحجاز من يدها، وهو موطن الحرمين الشريفين اللذين يجعلان لها مركزا إسلاميا ممتازا، تفقد الكثير منه إذا فقدتهما.
صفحة غير معروفة