والحاكم المستبد تسره غفلة الشعب لأنه يتمكن بغفلتهم من الصولة عليهم: يغصب أموالهم فيحمدونه على إبقاء حياتهم ويضرب بعضهم ببعض فيصفونه بحسن السياسة والكياسة، ويسرف في أموالهم فيقولون إنه كريم، ويقتلهم ولا يمثل بهم فيقولون إنه رحيم، وإن نقم عليه بعض الأباة،
5
قاتلهم بهم كأنهم بغاة!!.
6
والحاكم المستبد يخاف رعيته كما تخافه رعيته، بل خوفه منهم أشد، لأنه يخافهم عن علم، وهم يخافونه عن جهل. وقد اعتاد المؤرخون المحققون قياس درجة استبداد الحاكم بمقدار حذره، ودرجة عدله بمقدار طمأنينته، كما يستدلون على أصالة الاستبداد في الأمة بترف الحكام. وإمعانهم في البذخ، وكثرة الحجاب. ومن دلائل تغلل الاستبداد في الأمة استكناه لغتها، فإن كثرت فيها ألفاظ التعظيم وعبارات الخضوع كاللغة الفارسية، دلت على تاريخها القديم في الاستبداد. وإن قلت - كالعربية قبل امتزاجها بغيرها دلت على الحرية.
وعلى الجملة فأخوف ما يخاف المستبد من العلم، العلم الذي يعلم أن الحرية أفضل من الحياة، والشرف أعز من المنصب والمال، والحقوق وكيف تحفظ، والظلم وكيف يرفع، والإنسانية وقيمتها والعبودية وضررها.
وقد كان «الكواكبي» في كل هذا يقرأ نتائج القرائح التي كتبت في الاستبداد، وينظر إلى الدولة العثمانية في عهده ويستملي منها آراءه وأحكامه.
ثم عرض للاستبداد والمجد، ويعني بالمجد رغبة الإنسان أن تكون له منزلة حب واحترام في قلوب الناس، وهو مطلب طبيعي شريف، ويبلغ عند بعض الأفراد درجة تجعلهم يتساءلون: أيهما أقوى، الحرص على المجد أم الحرص على الحياة؟ و«الكواكبي» من قبيل من يرى الحرص على المجد أقوى وأوجب من الحرص على الحياة، ولذلك عاب على ابن خلدون رأيه في تقديم الحرص على الحياة عندما نقد ابن خلدون الإمام الحسين بن علي وأمثاله، وقال إنهم يعرضون أنفسهم للموت بخروجهم في فئة قليلة على الخليفة ذي السلطان والعدد والعدد، فيلقون بأنفسهم إلى التهلكة. فقال الكواكبي: إنهم معذورون، لأنهم يفضلون الموت كراما على حياة الذل التي كان يحياها ابن خلدون، وهم في ذلك ككرام سباع الطير والوحوش التي تأبى التناسل في أقفاص الأسر، وتحاول الانتحار تخلصا من قيود الذل. وغضبة الكواكبي على ابن خلدون سببها عصبيته لأهل البيت، إذ كان من الأشراف، وفيه نزعة لحب المجد ولو كان فيه فقد الحياة. فابن خلدون يتحدث بالعقل، والكواكبي يتحدث بالعاطفة.
والمجد أنواع: «مجد الكرم» وهو بذل المال في سبيل المصلحة العامة، وهو أضعف أنواع المجد، و«مجد العلم» وهو نشر العلم النافع برغم عوائق السلطات. و«مجد النبالة» وهو بذل النفس بالتعرض للمشاق والأخطار في سبيل نصرة الحق، وهذا أعلى المجد ويقابل المجد التمجد، أي المجد الكاذب، وهو أن يكون الإنسان مستبدا صغيرا في كنف المستبد الأعظم، وهذا يزدهر في الحكومات المستبدة؛ لأن الحكومات الحرة تحافظ على التساوي بين الأفراد، ولا تميز بعض الأفراد إلا بخدمة عامة للأمة أو عمل عظيم يوافق إليه. أما في الحكومات المستبدة فالمتمجدون أعداء للعدل، أنصار للظلم، ينتخبهم المستبد الأعظم ليقوي بهم سلطانه، ويختارهم من ضعاف النفوس ويستغويهم بالمناصب والمراتب، وأكثر ما يعتمد على المعرقين في التمجد، الوارثين من آبائهم وأجدادهم مرض الاستبداد، ومن هنا ظهرت في الأمم نغمة التمجد بالأصالة والأنساب. والحكومة المستبدة يظهر استبدادها في كل فروعها، ومن المستبد الأعظم إلى الشرطي، إلى الفراش، إلى كناس الشارع؛ ولا يكون كل صنف من هؤلاء إلا من أسفل طبقته، لأنه لا يهمهم المجد باستجلاب محبة الناس، إنما يهمهم التمجد باكتساب ثقة رئيسهم المستبد؛ والوزير في الحكومة الاستبدادية وزير المستبد الأعظم لا وزير الأمة، وكذلك من تحته من أعوانه، فالهيئة كلها تتمجد ولا تمجد، وكلهم شركاء في جريمة الضغط على الأمة وظلمها. والاستبداد يقتل المجد ويحيي التمجد!!
وهذا حق، فالحكومة المستبدة تقتل في النفوس العزة الحقيقية بالمفاخرة بالأعمال النافعة، وتخلق نوعا من السيادة الكاذبة وتجعل أولي الأمر سلسلة تبدأ من المستبد الأعظم إلى الشرطي في الشارع، كل يخنع لمن فوقه ويستبد بمن تحته، وعلى العكس من ذلك الحكومة الديمقراطية ديمقراطية صحيحة، فهي تشعر كل شخص في الدولة بالعزة التي يحميها العدل، وبأن له نصيبا في حكم بلاده، وصوتا مسموعا فيما يجب أن يعمل وما يجب أن يترك وأن حكومته ليست قائمة إلا برأيه ورأي أمثاله، إن شعروا يوما بجورها أسقطوها، سلطة الرأي العام فيها فوق سلطان الحكومة والبرلمان وكل سلطان.
صفحة غير معروفة