ها هو ذا أول مرة يذهب إلى «بولاق» ويستخفي عند صديق له وفي أياما حتى يخف عنه الطلب، فيخرج وقد لبس «زعبوطا» أحمر، واعتم بعمامة حمراء وربط عينيه بمنديل، وأطال لحيته، وأمسك عكازا طويلا، وتصنع أنه من مشايخ الطرق، ونزل في سفينة مع خادمه إلى بنها، فلم يفطن له أحد.
وجزع خادمه وكان أميا، وأراد أن يرجع إلى أهله، فأيقن «النديم» أنه إذا عاد انكشف أمره، فأخذ يقرأ الجريدة يوما، ثم تصنع إلى الفزع وقال: «لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم»، فسأله الخادم عما أفزعه، فقال «النديم»: إن الحكومة قد جعلت لمن يرشد عني ألف جنيه، ولمن يأتيها برأسه خمسة آلاف؛ فخاف الخادم، وأخذ يبالغ في التنكر أكثر من سيده، واستراح من هذا الباب، وظل معه طول مدة الاستخفاء. وقال هو عن نفسه في هذه الفترة: «خرجت من مصر مستخفيا فدرت في البلاد متنكرا، أدخل كل بلد بلباس مخصوص، وأتكلم في كل قرية بلسان يوافق دعواي التي أدعيها، من قولي إني مغربي أو يمني أو فيومي أو شرقاوي أو نجدي، وأصلح لحيتي إصلاحا يوافق الدعوى أيضا، فأطيلها في مكان عند دعوى المشيخة، وأقصرها في آخر عند دعوى السياحة - مثلا - وأبيضها في بلد، وأحمرها في قرية، وأسودها في عزبة». فأحيانا كان اسمه الشيخ يوسف المدني، وأحيانا الشيخ محمد الفيومي، وأحيانا سي الحاج علي المغربي، وهكذا، وأحيانا كان يجتمع بمن يعرفهم فيثير عجبهم، لأن المقدرة مقدرة «النديم»، ولكن يختلف في الشكل والصوت واللهجة ، فيقولون: سبحان الله جل من لا شبيه له.
وساعد على نجاحه في هذا الاستخفاء أمور، منها: مهارته في حيله، وإتقانه لما يدعي، فإذا ادعي أنه مغربي تكلم مغربي محكم، أو مدني فكذلك ادعي مرة - وهو في القرشية - أنه عالم يمني، وذاعت شهرته في العلم والأدب حتى بلغت القاهرة، فأرسل إليه رياض باشا «سعد زغلول» ليسأله عن مثل ورد ذكره في بعض الجرائد ولم يفهم معناه، فقابله على أنه عالم يمني وفسر له.
16
وكان من مهارته في استخفائه أنه رأى جد الحكومة في طلبه، فاستعان برجل من الفرنسيين يعرفه ويثق به، فأشاع عنه أن النديم هرب إلى «ليفورنو» في إيطاليا، ونقلت هذا الخبر جريدة «الأهرام» وصدق الناس ذلك، وعنفت الحكومة رجال الضبط على إهمالهم حتى تمكن من الخروج، فخف عنه الطلب، ولم يكن كل ذلك إلا خدعة. وكتب صاحب جريدة «المحروسة» مرة بعد استخفائه بسنتين: إنه «قد تعددت الأقوال في مقر عبد الله النديم، فمن قائل إنه التجأ إلى البلاد الإيطالية، ومن قائل إنه فر إلى طرابلس الغرب، ومن زاعم أنه أتى السودان واتصل بالمهدي وصار له نديما، وقال قوم إنه سارع في السفر إلى «سيلان» للاجتماع بعرابي، والحقيقة فيما نعلم أنه أتى باريس في الأيام الأخيرة، ونشر فيها مقالة أتى فيها على ذكر الحرب العرابية، وندد بالمصريين، ونسب إليهم الضعف والجبن» إلخ.
ومنها عطف بعض الناس عليه، وإيمانهم بأن المروءة تقضي عليهم - وقد تزل بساحتهم - أن يخفوا أمره إذا علموا، وأن يساعدوه على الاستخفاء مهما أغروا بالمال، كالذي كان من عمدة «العتوة» بمديرية الغربية، وهو الشيخ محمد الهمشري، فقد نزل عنده وعرفه بنفسه، فأكرم مثواه، وأقامه في داره أكثر من ثلاث سنوات في مكان منعزل له باب خاص؛ وزوجه؛ وزوج خادمه؛ فلما توفى دعت زوجته أكبر أولادها، وقالت له: هل نطمع في المكافأة أو تكون كأبيك شهما تحفظ الجار وتحمي اللاجئ؟ فوعدها بأن يكون كأبيه في حفظه؛ ووفى بذلك؛ حتى أحس «النديم» بوشاية واش، فخرج من عندهم حامدا مروءتهم.
وصادفه مرة مأمور مركز شركسي، والنديم في تنقله بين البلاد، فعرفه، فصرف جنده ثم اختلى به، وقال: لا ضرورة لتنكرك فقد عرفتك، وأعطاه ما معه من نقود، ورسم له خطة السير في طريقه حتى لا يضبط.
وكان في أول مرة أمره شديد الحنين لأبيه وأمه وأخيه. لا يعرف ما صاروا إليه؛ شديد الشوق لمعرفة كتبه وتآليفه وأوراقه التي تركها في بيته بالإسكندرية، ثم وسط الصديق الفرنسي أن يتعرف كل ذلك ويأتيه بالأخبار؛ فعرف الفرنسي أن أسرته تشتت والناس تنكروا لهم، والأرصاد وضعت حولهم، وإن أباه يقيم عند قريبة له في الريف، وأن كتبه وتأليفه التي أنفق فيها تسعة عشر عاما، عندما ضربت الإسكندرية وهاجر منها أهلها وضعها أبوه في ثلاثة صناديق كبار شحن بها عربة من عربات السكر الحديدية، فلما وصلت إلى كفر الزيات ازدحم على القطار المسافرون من المهاجرين ازدحاما هائلا، فلم يسع رجال المحطة إلا أن يرموا جميع ما بالعربة في النيل، ومنها الصناديق ال ثلاثة وفيها كل ثروته العقلية.
ثم لما هدأت الأحوال وخف عنه الطلب كان يتصل بأبيه وأخيه اتصالا منظما.
وتأتي عليه أزمات ثم تنفرج، فهذا عيد الأضحى وهو في «برية المندرة» يسكن وسط الحقول، لا يسكانه أحد إلا زوجته، ولا يجد القوت الضروري، ويأتيه خادمه الذي يسكن بعيدا عنه يشكو له البؤس والفقر وعدم القوت في يوم العيد، فما هو إلا أن بعث له رجل من أهل البر والمروءة بما يملأ بيته قمحا وعسلا وسمنا وثيابا، كما يبعث الأطلس والحرير للبس زوجته، وشيئا من ذلك الخادم وزوجته، وأتيح له من الفراغ ما مكنه من إكمال نفسه بالمدرسة والتأليف، فكان إذا اطمأن في قرية قرأ ما تصل إليه يده من الكتب، وكانت مكتبته في هذه الأيام مكتبة خفيفة يسهل حملها إذا دعا داعي الرحيل السريع، فكانت تفسير القرآن لأبي السعود ، وقاموس الفيروز أبادي، و«الوافي» في المسألة الشرقية لأمين شميل، وجغرافية ملطبرون الذي ترجمه الشيخ رفاعة؛ وألف فيما يعن له في الدين والتاريخ. فكان هذا نعمة عليه لم يستطعها في أيامه الأولى. كتب لصديق له في هذه الفترة يقول: إن سالت عني فأنا بخير وعافية، وحالة رائقة صافية، لا أشعل فكري بما يأتي به الليل إذا كنت بالنهار، ولا أتعب ذهني بتوالي الخطوب والأكدار، ولا أتألم من طول المدة، ووقع الشدة، لاعتقادي أن لكل شدة مدة، متى انتهت جفت الأوحال، وحسنت الحال، فتراني فكري كليمي، وقلمي نديمي - تارة أشتغل بكتابة فصول في علم الأصول، وأجمع عقائد أهل السنة، بما تعظم به الله المنة، وحينا أشتغل بنظم فرائده، في صورة قصائد، ووقتا أكتب رسائل مؤتلفة، في فنونها مختلفة، وآونة أكتب في التصوف والسلوك وسير الأخبار والملوك، وزمنا أكتب في العادات والأخلاق، وجغرافية الآفاق، ومرة أطوف الأكوان، على سفينة تاريخ الزمان، ويوما أشتغل بشرح أنواع البديع، في مدح الشفيع ... وقد تم لي الآن عشرون مؤلفا بين صغير وكبير، فانظر إلى آثار رحمة الله اللطيف الخبير، كيف جعل أيام المحنة، وسيلة للمنحة والمنة. أتراني كنت أكتب هذه العلوم، في ذلك الوقت المعلوم، وقد كنت أشغل من مرضعة اثنين وفي حجرها ثالث وعلى كتفها رابع، وأتعب من مربي عشرة وليس له تابع، أشتغل بعض النهار بتحرير الجورنال، وأقضي ليلي في دراسة الأحوال، مشتغلا بمجالس الجمعيات الخيرية ومدارسها التعليمية، وزيارة الإخوان، ومراقبة أبناء الزمان، وقد نسيت الأهل والعيلة، وربما نسيت الطعام يوما وليلة، فكنت كآلة يحركها البخار، لا سكون لها ما دام الماء والنار. فمتى كنت أنظر للمخلفات، وأكتب هذه المؤلفات؟
صفحة غير معروفة