ولكن عبد الله تفوق في الكتاب، وظهرت عليه ملامح الذكاء، فأراد أن يستمر في تعلمه ولم يمانعه أبوه، وكانت الطريقة المعبدة
4
لذلك أن يرسل الوالد ابنه إلى الأزهر، ولكن أين مال الأسرة الذي يحتمل ذلك؟!
على أنه في الإسكندرية - قريبا من بيتهم - مسجد هو صورة مصغرة من الأزهر، يدرس فيه المشايخ ما يدرس في الأزهر وعلى نمطه، وذلك هو مسجد الشيخ إبراهيم باشا.
فدرس فيه عبد الله نديم ما شاء الله أن يدرس، ولكنه كان تلميذا خائبا في هذه الدراسة، لا يصبر على جفافها، ولا يقدر على حل ألغازها ، ولا يتحمل العناء في تفهم كتب نحوها وفقهها فكان لا يواظب على درسه ولا يبدي به اهتماما.
وحبب إليه نوع من الدراسة غير منظم ، يوافق مزاجه، ويناسب استعداده، وهو أن يصاحب الناشئين في الأدب ويغشى مجالسهم ومجالس أساتذتهم. وما كان للأدب درس منظم ولا هو يعد علما ولا فنا، وإنما هو «هواية» كذي الصوت الجميل يهوى الغناء ويقلد فيه من سبقه، ولا درس، ولا فن، ومثل هذا ينظر إليه من أهل العلم بالنحو والفقه نظرة استخفاف وازدراء، وقد عهدنا هذا في أيام دراستنا بالأزهر، أيام كان الشيخ سيد المرصفي يحلق حلقة لدراسة الأدب، فكان هذا عجبا من العجب، ينظر طلاب الفقه والنحو. ومشايخهم إلى حلقته شذرا.
5
كان عبد الله نديم يغشى هذه المجالس الأدبية التي ليس لها منهج، فيسمع شعر الشاعرين وزجل الزجالين، ونوادر المتماجنين، وقصائد الراوين، فيصغى إلى كل ذلك في فهم كأنه كله آذان، ويدرك من غير وعي أن هذا بابه وهذا فنه، وأنه إنما خلق لذلك لا للنحو ولا للصرف. فاشتاقت نفسه أن يسلك هذا المسلك ويسير في هذا الطريق، وقد منح حافظة لا قطة، وقدرة على التقليد فائقة فأخذ يحاكي بعد ما اختزن، ويغني بعد ما سمع، فطورا يوفق فيستدعي ذلك إعجاب أمثاله، وطورا يخذل فيستخرج ضحك أقرانه، ومن كل ذلك كان يتعلم.
وإلى جانب هذا تعلم درسا في منتهى القيمة، درسا تعلمه «حافظ» ولم يتعلمه «شوقي» وتعلم «بيرم التونسي» ولم يتعلمه «توفيق الحكيم»، درسا قل أن يفقهه الأدباء مع عظيم خطره وكبير أثره، ذلك هو أن نشأته في صميم الأحياء الشعبية مع رهافة حسه، ويقظة نفسه، وفقره وبؤسه، علمته أن يحيط إحاطة واسعة بلغة الشعب وأدبه، من أمثال وحكايات وجوه معاملات وصنوف تصرفات، فرسم ذلك كله في نفسه لوحات كان لها أكبر الأثر في حياته الأدبية المستقلة، والنفس الحساسة الفنانة تختزن حتى حفيف أوراق الأشجار، وهفهفة الأغصان، ودبيب النمال، وحلاوة البسمات، وأدق مجالي الجمال والقبح، ثم تعرف كيف تستخدم ذلك في فنها متى آن أوانه .
ولكن مرصى
صفحة غير معروفة