حين بلغت الخامسة عشرة من عمري بدأت أدرك شيئا خفيا في علاقة أبي وأمي، أسمعهما في الليل يتشاجران. صوتاهما يبدآن منخفضين متحشرجين بطيئين، تتزايد سرعتهما بالتدريج، قد تصاحبها أصوات أشياء تسقط على الأرض، أو صفعات على الوجه، أو ركلات بالقدم، تشتد الضربات تحت ضلوعي مع اشتداد العراك، ينكمش جسدي تحت الغطاء، أكتم أنفاسي اللاهثة، أخشى أن يسمعها أبي وأمي، يكتشفان أنني صاحية ولست نائمة.
حملت هذا العبء الثقيل في قلبي السنة، وراء السنة؛ أربعة وعشرين عاما، السر الخفي الذي لا يعرفه أحد في الوجود. لا أستطيع أن أبوح به لمخلوق، كأنما البوح به خيانة لأبي وأمي.
كان أبي وأمي يظهران أمام الناس في سعادة كاملة، يتحدثان في الصحف والإذاعات عن زواجهما السعيد، عن علاقتهما النادرة القائمة على الحب والثقافة الرفيعة.
كتمت الحقيقة في أحشائي مثل الورم الخبيث، ينمو رغم إرادتي، يضغط على خلايا روحي وعقلي في آن واحد. لجأت إلى طبيب نفسي اسمه معروف، كان زميلا لأبي في المدرسة. تصورت أنه سوف يعالجني من الاكتئاب، إلا أنه كان مثل أبي وأمي، له وجهان كل منهما يناقض الآخر، يؤلف كتبا عن خلايا المخ وعلم الأعصاب في علاقته بالعقل والنفس، يعاني الازدواجية والاكتئاب، يعالجني بالأقراص أحيانا، وأحيانا بشيء آخر.
تخرجت في كلية الآداب بدرجة «مقبول». لم أحب الأدب ولا الكتابة، كنت أفضل الحساب والأرقام، لا أميل إلى ما يسمونه الخيال الأدبي؛ ربما انتقاما من أبي وأمي. والمدرس الذي تنبأ بأنني سوف أكون كاتبة كبيرة، منذ الطفولة كرهت هذا المدرس، أردت أن أكذب نبوءته. كنت أحب الموسيقى والرقص والغناء، لكن أصابعي القصيرة كانت عاجزة عن العزف، تشبه أصابع أمي. جسمي قصير سمين يشبه جسم أمي، أبي كان قصير القامة مثل أمي، لكنه كان نحيفا. يذهب إلى النادي ليلعب الجولف، أراه من بعيد وهو يمشي، صغير الحجم، رأسه صغير مثلث الشكل، ذقنه مدبب تحت شفتين ممتلئتين، الشفة العليا أكثر امتلاء من الشفة السفلى، يمط شفتيه إلى الأمام حين يستغرق في التفكير، أو حين يرى أمي من الخلف وهي تمشي.
في الحلم وأنا غائبة في النوم، تتراءى لي صورة زينة بنت زينات. لم تفارقني صورتها منذ الطفولة، كنت أتمنى أن أكون مثلها، وإن قالوا عني: بنت زنى.
كانوا يسمونها البطة. تنتعل حذاء له كعب عال رفيع مدبب، تدب به في ممرات الجامعة، حتى تصل إلى مكتبها الكبير بجوار مكتب العميد، تلهث قليلا وهي تمشي حاملة جسمها السمين القصير، تتأرجح قليلا فوق كعبيها الرفيعين، عنقها قصير ممتلئ باللحم، يحمل رأسها الصغير المربع، يحوطه شعر أسود قصير خفيف إلى حد ما، تتخلله بضع شعرات بيض، تختفي سريعا تحت صبغة الشعر المتقنة، ترتدي تايير أزرق له كولة بيضاء، تشبه كولة البنات البيضاء قبل أن يتزوجن أو يفقدن العذرية.
كانت في منتصف العمر قبل بلوغ ما يسمونه سن اليأس، تصغر زوجها زكريا الخرتيتي بتسعة أعوام، لكنه يبدو أصغر منها بعام أو عامين، ربما لأنه رجل وليس امرأة ينقضي عمرها بسرعة أكثر؛ ليس في جسمه شيء يدل على العذرية، لا يبلغ سن الحيض، ثم انقطاع الحيض، إلى سن اليأس والشيخوخة، لا يحمل ولا يلد، ولا يحمل عبء البيت والأطفال والسمعة السيئة. لا شيء يعيب الرجل إلا فراغ جيبه من المال، وإن عاشر نساء الليل في بيوت البغاء.
منذ طفولتها حرصت بدور على سمعتها، كان عليها تحمل شرف العائلة الكبيرة على كاهلها، شرف أبيها اللواء أحمد الدامهيري. كان ضابطا في الجيش حين قامت الثورة، لم يكن ضمن القادة الكبار، تربطه بأحدهم صلة دم أو رحم، حصل على منصب مدير عام أو أمين عام مؤسسة الثقافة الجديدة. في سنين المراهقة كان يقرأ روايات الحب العذري، يرى صورته في المرآة تشبه البطل في قصة روميو وجولييت، كتب قصيدة حب لابنة الجيران. في أحلامه يرى نفسه شاعرا معروفا أو روائيا مرموقا، تسربت بعض أحلامه إلى ابنته بدور وهي طفلة، كانت تقرأ الكتب في مكتبة أبيها، يخفق قلبها تحت ضلوعها وهي تقرأ في سريرها قبل النوم، يراودها فتى أحلامها في الليل، يمارس معها الحب حتى تبلغ الذروة، ينتفض جسدها النائم تحت الغطاء باللذة الآثمة، تصحو في الصباح متوردة الخدين متورمة العينين، تغسل جسمها في الحمام بالماء الساخن والصابون، يتطهر الجسد من الدنس، لكن القلب يظل ثقيلا بالإثم.
ثم جاء حريق القاهرة قبل قيام الثورة بستة شهور، كانت بدور أحمد الدامهيري قد حصلت على الليسانس في الآداب والنقد. ينتفض جسدها باللذة حين ترن في أذنها كلمة الليسانس، تشبه لذة الجنس، الانتفاضة ذاتها، تشمل كيانها كله، الجسد والعقل والروح، يذوب الثلاثة في لذة واحدة جامحة، يهتز جسدها القصير السمين فوق كعبيها الرفيعين، تكاد تقفز في الهواء، ترقص، تغني، تطير لولا جاذبية الأرض، تشدها الأرض بقوى أكبر من قوتها، تثبت قدميها في الأرض وينحبس صوتها، يرى أبوها الدموع في عينيها، يظنها دموع الفرح بشهادة الليسانس، لا يعرف الأب شيئا عن حقيقة ابنته.
صفحة غير معروفة