هذه العبارة الأخيرة لا تخرج من فمها صوتا مسموعا، بل حروفا صامتة من الحبر الأسود فوق الصفحة البيضاء، تطل بدرية بعينيها الغاضبتين من بين الأوراق، تحت الغضب نظرة ازدراء، لا تفهم بدرية هذه المرأة التي اسمها بدور الدامهيري. هذا الخوف الذي يقبع في أحشائها منذ الطفولة، هذا الرعب الذي تعيش به في شبابها وكهولتها، لا شيء يشل عقلها إلا الرعب، لا شيء يعجزها عن الكتابة إلا الرعب، ما الذي يرعبها إلى هذا الحد؟ أهو الله أم الشيطان؟ أم زوجها، مندوبهما على الأرض؟
منذ المدرسة الابتدائية كانت بدرية أكثر شجاعة من بدور، لا تتردد في النطق بما يدور في عقلها: لماذا خلق الله الأقباط والمسلمين؟ لماذا يعترف الأقباط بآثامهم للقسيس إذا كان الله يعرف ما في الصدور والنفوس؟ لماذا تقف النساء خلف الرجال في الكنيسة ويفرض عليهن الصمت؟ لماذا يصلي المسلمون خمس مرات في اليوم؟ لماذا لا تكون ثلاثا أو أربعا؟ لماذا يتزوج الرجل أربع زوجات والمرأة زوجا واحدا؟ لماذا يحظى الرجال في الجنة بالحوريات من الإناث؟ ولا تحظى النساء بالحوريين من الرجال أو الحور الذكور؟ لماذا يكون لاسم الأب الشرف، ويكون لاسم الأم العار؟
قرأت بدرية في القرآن آية تقول: الجنة تحت أقدام الأمهات. «كيف تكون الجنة تحت أقدام الأمهات وأسماؤهن تجلب العار لأطفالهن؟»
كانت بدرية أكثر ذكاء من بدور، تكتب بلغة أجمل من لغتها، تحفظ أبيات الشعر أسرع منها، تحل مسائل الحساب بأكثر كفاءة، لكن بدور كانت تحصل على جائزة التفوق، وهي لا تحصل على شيء. تغضب بدرية من المدرس، تجادله بصوت عال، تثبت له بالدليل أن درجاتها أعلى من بدور. ينفد صبر المدرس، يقول لبدرية: إن جبتي الديب من ذيله أعطيكي الجائزة، إن جبتي تراب الجنة أعطيك الجائزة.
كان يصرفها عنه، مدركا عجزها عن فعل هذه المعجزات.
في اليوم التالي أحضرت له بدرية علبة من البلاستيك، وقالت له: ده تراب الجنة.
فتح المدرس العلبة، رأى التراب داخلها. - منين جيتي التراب ده يا بنت؟ - بعد ما أمي مشيت علي الأرض لميت التراب بإيدي، وحطيته في العلبة. - مين قال إن ده تراب الجنة؟ - انت يا محمد أفندي، قلت لنا في الحصة اللي فاتت إن الله قال: إن الجنة تحت أقدام الأمهات.
رغم هذا الذكاء لم تأخذ بدرية الجائزة، اتهمها المدرس بالسخرية من كلمات الله، وكانت الجوائز في المدارس مثل جوائز الدولة في الأدب والعلم، لا تعطى بسبب الذكاء أو الكفاءة، بل بسبب صلات الرحم والقرابة.
سمعت زينة بنت زينات هذه القصة من أبلة مريم. كانت أبلة مريم تحكيها للتلميذات، تقول لهن: إن الكفاءة في الأساس وليس العائلات، إن اسم الأم يجلب الشرف للأطفال البنات والأولاد؛ لأن الجنة تحت أقدام الأمهات؛ الله يرمز إلى العدل والجمال والحب والحرية، لا فرق بين ولد وبنت أو مسلم وقبطي أو غني وفقير. الصدق فضيلة والكذب رذيلة، لا أحد يكذب على شخص دون أن يكذب على نفسه، لا أحد يقتل شخصا آخر دون أن يقتل جزءا من نفسه.
كانت زينة بنت زينات تذهب إلى بيت أبلة مريم، تتدرب كل يوم ثلاث ساعات على العزف والغناء والرقص. تتناول طعام العشاء مع أبلة مريم قبل أن تعود إلى بيت أمها زينات، تملأ أبلة مريم حقيبتها بقطع الحلوى، وكتب الموسيقى، ودواوين الشعر، وقصص وروايات، تقول لها: اسمعي يا زينة، أنت موهوبة، وكمان عندك صبر على التدريب الطويل. العبقرية هي صبر طويل يا ابنتي، أنت محظوظة؛ لأنك عرفت الألم، وعرفت السعادة. لا يعرف السعادة إلا من عرف الألم، افخري بأمك واسمك زينة بنت زينات، اسم الأم أكثر شرفا من اسم الأب؛ لأن الأب يتخلى عن أطفاله من أجل نزوة جنسية، لكن الأم لا تتخلى أبدا عن أطفالها، إلا إذا كانت مريضة نفسيا أو فقدت عقلها.
صفحة غير معروفة