يكتب زكريا الخرتيتي في عموده بالجريدة عن تحرير المرأة. حصل على الجائزة الأولى في عيد المرأة العالمي، كرمه الناس في مصر، أصبح يحمل لقب رائد تحرير المرأة المصرية، التف حوله الصحفيون يسألون: وراء كل رجل عظيم امرأة عظيمة، فمن هي المرأة التي وراءك يا أستاذ خرتيتي؟ - أمي، إنها أمي التي شجعتني على قول الصدق واحترام المرأة.
يلتفون حول زوجته الأستاذة بدور يسألونها: وراء كل امرأة عظيمة رجل، فمن الرجل الذي وراءك يا أستاذة بدور؟ - زوجي هو الرجل الذي شجعني على الكتابة، لولا زوجي ما كتبت شيئا.
ثم تنزوي بدور في ركنها البعيد المظلم، تنكمش داخل جسدها القصير المربع، تصفع نفسها عدة صفعات، توجه لنفسها اللوم والتوبيخ والسباب. - يا كذابة يا جبانة، يا منافقة، هذا الكذب وهذا الجين وهذا النفاق عناصر ثلاثة هي أصل الداء، هي سبب الاكتئاب، هي مصدر الحزن والعقم، هي سبب عجزك عن الكتابة، عجزك عن مواجهة الحقيقة. هذا العجز، هذا العقم، لا شفاء لك منه، لا علاج له إلا الموت.
تصحو بدرية حين تنام بدور، تراها متكورة فوق السرير إلى جوار زوجها، منكمشة داخل جسدها مثل القنفد، تراودها أحلام المراهقة وهي تمشي في المظاهرات تهتف: «يسقط الظلم تحيا الحرية، يحيا الحب»، تستسلم للحب والحرية، تراودها فكرة الرواية، تحبل بها في الليل مثل الجنين، تلقي بها فوق الرصيف وتجري هاربة. تطاردها الأشباح والخيالات، إصبع إبليس الصلب مثل قضيب من الحديد، عين الله المفتوحة في السماء الساهرة لا تنام، عين زوجها نصف المفتوحة، نصف المغلقة الجفون. يتظاهر بالنوم وهو صاح، أو يتظاهر باليقظة وهو يغط بالنوم.
تهمس بدرية في أذنها: يا بدور ثمن الحرية غال. الكتابة لا تأتي من دون الحرية، اكسري قيودك يا بدور، اخرجي من سجنك، مدي يدك لتأكلي من الشجرة المحرمة، إن أكلت منها فلن تموتي، المعرفة تحيي ولا ميت، ستعيشين إلى الأبد.
صوت بدرية يشبه صوت الحية التي أغوت حواء، كلمة حواء تعني الحياة الحية، صوت الحياة الحية الذي أصبح يشبه صوت الموت القاتل. ترتعش بدور داخل الغيبوبة، تنفرج شفتاها المزمومتان عن هواء ساخن يشبه موجات ضوء متقطعة، حروفا مبتورة بالخوف: لكن الله يا بدرية قال لي: إن أكلت من هذه الشجرة تموتين. - هذا هو صوت الشيطان يا بدور ليس صوت الله، وإن كان هو صوت الله؛ فما الفرق بينه وبين صوت إبليس. أنا أكلت من الشجرة يا بدور وأكل معي كل المبدعين والمبدعات في كل مجالات المعرفة، من الفلسفة إلى الأدب والفن والعلم. قامت على أفكارهم كل ما تعيشه من تقدم، لم نأكل في حياتنا ألذ من هذه الشجرة. إنها لذة المعرفة، لذة الحياة، إنها الحياة الحقيقية الحية، ليس حياتك الزائفة الميتة. إن منعك الله من لذة الحياة الحية فهو ليس الله، إنه إبليس يا بدور، إصبع إبليس المدببة، سلبك حياتك، سرق منك الرواية يا بدور.
ترتعش بدور وهي نائمة، تحاول أن تحرك شفتيها وتقول شيئا. شفتاها ثقيلتان، مصنوعتان من الحجر، جسدها قطعة من الصخر ملتصق بالأرض، متكورة حول نفسها كالقنفذ، كالكرة من الرصاص تتدحرج من فوق السرير، تسقط فوق الأرض بصوت يشبه الانفجار أو طلقة رصاص.
يصحو زوجها من النوم على الصوت، تنحسر جفونه عن عينين جاحظتين مملوءتين بالذعر، زوجته بدور لم تعد هي زوجته بدور. جسدها الذي كان يجمعهما أصبح يفرقهما، كتاباتها التي كانت تجمعهما أصبحت تفرقهما، وهذه المرأة التي أصبحت تحتل جسدها. بدرية، هذه المرأة الشيطانة التي تدفعها نحو الرذيلة، وابنتها التي حصلت بها داخل الإثم، ابنة الزنى، زينة بنت زينات، ليس زنى واحدا بل عدد لا يحصى من الزنات. وهذه الرواية التي تكتبها في النوم، ملأى بالأشباح، خيالات تتراءى لها فوق الجدار، وتلك الإصبع التي تدغدغ بطن قدمها اليسرى، إصبع ابليس؟ وإصبع الله أيضا؟ ذلك القضيب الحديدي الذي يدغدغ بطن قدمها اليمنى، و«أنا» زوجها المؤمن بالله، زوجها الفاضل الذي أخلص لها ولم يعرف امرأة غيرها؛ «أنا» زكريا الخرتيتي، الحاصل على جائزة العلم والإيمان، وشهادة حسن السير والسلوك في المدرسة الابتدائية والثانوية والجامعة والأكاديمية العليا والمجلس الأعلى للأدب والثقافة، «أنا» زكريا الخرتيتي، صاحب العمود اليومي المقروء من ملايين النساء والرجال والشباب، صاحب الكأس الذهبية في عيد المرأة العالمي، «أنا» تكتب عني هذا الهراء؟ تصنع في صورة مزيفة منفرة، صورة رجل على شكل قضيب حديدي يدخل في أي ثقب، في أي جدار، في أي جسد، امرأة أو رجل أو طفل؟ حتى الطفل الأعرج ابن الشوارع ابن الزنى، لم يسلم من قلمها الجارح الجامح؟
كان زكريا الخرتيتي يقرأ روايتها وهي نائمة، رأته بدرية وهو يتسلل في الليل بينما زوجته غارقة في النوم. يسرق المفتاح من تحت وسادتها، يمشي على أطراف أصابعه إلى غرفة مكتبها، يفتح الدرج الأسفل، يشد الدوسيه الأصفر، يمد يده إلى لمبة النور، يقرأ الصفحات البيضاء الملطخة بحبر أسود، وأزرق وأحمر، وقطرات دم زرقاء وسوداء، وأنهر من الدموع الصفراء تجري بين السطور، وتحت السطور الخفية غير المقروءة، أو غير المكتوبة بعد، وأنهر من العرق السائل فوق الحروف، عرق حقيقي له رائحة العرق. يعرف رائحة عرق زوجته، رائحة مميزة، تميزها عن سائر النساء والرجال، رائحة خالية من العطر، أو الكولونيا، رائحة جسد منهك بالتعب، مرهق بالإثم والذنب والفجيعة، مطارد بالخوف والفضيحة، جسد قصير مربع مملوء بالشحم خال من العظم.
تهمس بدرية في أذنه وهو يقرأ: ولماذا تتعطر زوجتك لك وأنت تخونها كل ليلة؟ لماذا تتعطر لك وأنت تكره رائحة العطر؟ لا تجذبك إلا رائحة الجسد العطن، الجسد الذي لا يعرف الماء والصابون، الجسد الذي ينز بالعرق والتعب والأسى والحزن، جسد الخادمات المقهورات أو الجواري والسكرتيرات، يغمضن عيونهن وهن تحتك في الفراش لا تقوى الواحدة منهن على أن تفتح عينيها أو تثبتهما لحظة واحدة في عينيك، أو تتأفف من قبلاتك أو كلماتك البذيئة، أنت لا تشتهي إلا الكلمات البذيئة، تعودت أذناك منذ المدرسة الابتدائية البذاءة والاغتصاب.
صفحة غير معروفة