تشد بدور جفونها وتصحو من النوم، تجد نفسها جالسة وراء المكتب في يدها القلم. الصفحة أمامها بيضاء، عقلها أبيض مثل الورق، ثابت لا يتحرك مثل القلم في يدها. منذ تزوجت وهي عاجزة عن الكتابة، أو ربما كتبت رواية سرقها منها زوجها، كان يفتش أدراجها وهي غائبة في النوم، يسرق منها المفكرة السرية وخطابات الحب القديمة، سرق منها الفصل الذي كتبته عن ذلك المشهد. لا تستطيع أن تكتبه مرة أخرى، مرت السنون وضاع منها، تسرب من ذاكرتها، نسيت وجه الطفل الصبي في تلك اللحظة، نسيت اللحظة ذاتها، تصورت أنها لم تحدث. أحداث كثيرة تصورت أنها من خيالها، دخان بلون السحابة السوداء تطفو فوق عينيها. كانت إصبع إبليس تتخفى وراء السحابة، وجه الله أيضا كان يتخفى وراء عمود من الدخان، لكنها رأته من الشق من الباب الخشبي الموارب، أبوها ذاته بلحمه وشحمه راكعا على ركبتيه كأنما يسجد بين يدي الله، يميل بظهره إلى الوراء، كفه اليمني تشبه خف الجمل يدوس بها الأرض، يده اليسرى متقلصة متجمدة فوق عنق الصبي. يتكاثف الدخان فوق ذاكرة بدور وهي مغمضة الجفون، خيالها يبدو كالحقيقة، والحقيقة تبدو خيالا، لا تقبض أصابعها الممسكة بالقلم على الحقيقة، تتسرب من بين أصابعها البضة مثل قبض الريح. تجاهد كل الجهد لتستعيد المشهد، يزوغ منها كالزئبق؛ ربما لأن الماضي يموت ويذهب إلى العدم، أو بسبب الألم الموجع الذي يفوق احتمالها.
فركت بدور عينيها لتصحو؛ تذكرت أن أباها كان جالسا نصف جلسة، أو راكعا نصف ركعة يدس لحيته الطويلة في صدره. وجهه المربع متقد بالدم، مرفوع إلى السقف متقلص العضلات في ألم ولذة وراحة، كأنما أخرج الطبيب من كليته حصاة، أو خلع بالكماشة ضرسا مسوسا في عظمة الفك، أو استأصل بالمشرط غدة أو ورما خبيثا في الخصية، أو البروستاتة. كلمة البروستاتة سمعتها من قبل وهي طفلة، البروستاتة عضو مؤنث خلقه الله في جسد الذكر ، الذي سافر ليستأصلها الطبيب بالمشرط. بدت النشوة في عيني أبيها، نشوة اللذة التي لم تعرفها في حياتها، نشوة اللحم المحترق بالحرمان من اللذة، الأرض البور المحروقة بالشمس تتعطش للماء. تذوب اللذة في الألم، في التعب، في الراحة، في الحزن والفرح، ثم ذلك الاسترخاء، يشبه الانتهاء، الموت، الانتهاء من عبادة إله منتقم يحرق في النار، وإله آخر رحيم يغفر الذنوب جميعا إلا أن يشرك به، كلاهما جبار واحد أحد.
انهمرت الدموع من عينيها، لم تعد قادرة على الرؤية، تلاشى وجه أبيها تحت سحابة الدموع، رمادية دكناء تقترب من السواد، جسدها ينتفض مع الذكرى انتفاضة أبيها وهو يغتصب اللذة، يرفض اللذة ويطلبها في وقت واحد، مثل زوجها زكريا الخرتيتي يحبها ويكرهها في آن واحد. هي أيضا تعاني الازدواجية، تريده ولا تريده، تحبه وتكرهه، مثل الكتابة تحبها وتكرهها، تقدم عليها بنشوة كبيرة، لكن ما إن تلامس سن القلم الصفحة البيضاء حتى يحدث الإجهاض، أو الإحباط. تموت الكلمات تحت سن القلم، تموت البطلة في الرواية ويموت البطل، كأنما حلم أو خيال.
يقول طبيبها النفسي: الازدواجية سمة الحياة، لا حياة بغير موت، قانون الطبيعة مزدوج، قانون السماء مزدوج. وإذا كان الله مزدوج الشخصية يا بدور؛ فهل يمكن الإنسان أن يعلو على الله؟ أنا لا أحب إلا المرأة التي تؤلمني، التي تهجرني. أحبها بعد أن أفقدها، لهذا تنتصر النساء المومسات أو الخائنات علينا نحن الرجال، وتتعذب في حبنا الفاضلات والزوجات المخلصات.
حاولت بدور دون جدوى أن تنسى وجه الصبي الأعرج. وجه شاحب أسمر بلا قطرة دم، عيناه مفتوحتان حتى آخرهما، رموشه مبللة بدموع متجمدة. بياض العين جاحظ كثيرا، تطل من تحت الغشاوة نظرة رعب متجمدة كالدموع.
قبل أن تفيق بدور من النوم، قبل أن تدرك ما تراه، كان عقلها الطفولي قد أدرك السر المكتوم في صدر أمها وأبيها، وعمها وجدها وخالها وخالتها، وعمتها، والجيران، وكل الكبار في عائلة أمها وأبيها وفي المدرسة، السر الذي عرفته بعد أن كبرت، الكامن بين الفخذين، الذي ينتصب وينمو ويتمدد ويصبح في حجم نظيره لدى الحمار.
أحست بدور بالماء الصاقع يسقط فوق رأسها كأنما السماء تمطر، عرق غزير يغرق جسدها وهي واقفة تطل من شق الباب الموارب؛ ريح باردة تضربها من الخلف، تخلع عنها ثوبها، تخلع عنها جسدها، ترتعش، ينتفض جسدها وهي ترى الدموع المتجمدة في عيني الطفل الأعرج، أو ربما كان طفلا يشبهها وهي طفلة. ربما كانت هي نفسها هذا الطفل الراقد فوق بطنه تحت القضيب الضخم، تحت جسد الكانغورو المنتصب، أو ربما كانت هي أمها حين كانت أمها تدخل غرفة النوم مع أبيها. يسري إلى أذنيها من خلال الجدار صوت يشبه الأنين، صوت طفلة تئن من الألم، ورائحة منفرة. لم يكن يغسل أسنانه بالمعجون والفرشاة كل صباح، لا يستحم بعد أن يمارس الجنس، ينتقل من أمها إلى النساء الأخريات دون غسل، يتخذ من النبي مثالا أعلى في هذا الأمر فقط. أصبحت الرائحة العطرة والعفنة في أنفها شيئا واحدا، الخير والشر، الله والشيطان، الحب والكره، اللذة والألم، الحياة والموت، كلها شيء واحد.
ترمق بدور ابنتها مجيدة، الطفلة في الثامنة من عمرها، تطرد المشهد من ذاكرتها، تتذكر أنها كانت في مثل عمرها، لا تبوح لابنها بالسر. يظل السر مكتوما في أعماقها، قفص حديدي مغلق تحت الضلوع، لا تملك الشجاعة أو الجرأة لتفتحه دون أن تشق قلبها نصفين، أو كبدها تنزعه بالسكين من صدرها.
أقامت مجيدة الخرتيتي حفلا كبيرا في عيد ميلادها، بلغت الرابعة والعشرين من عمرها. جاءت إلى الحفل زينة بنت زينات ضمن المدعوات، تكبرها بعام واحد، تبدو أكبر منها بمائة عام، طويلة القامة مرفوعة الرأس، أصابعها النحيفة الطويلة تجري فوق البيانو بسرعة الضوء، ترمقها العيون بإعجاب وحسد رجالا ونساء وأطفالا. أصبحت زينة بنت زينات نجمة في سماء الفن والغناء، أصبح لها فرقة كاملة من الأطفال والبنات والأولاد، من الأزقة والحواري، أصابعهم السمراء المشققة تدق أوتار العود والطبول والرق، خدودهم الشاحبة تنتفخ بهواء المزامير، أصواتهم تغني أنشودة الوطن، أغنية القطن والقمح:
القمح الليلة ليلة عيده، يا رب تبارك تبارك وتزيده ...
صفحة غير معروفة