تنكمش مجيدة داخل مقعدها في خزي، تطرق إلى الأرض خجلا من جسدها القصير السمين، أصابعها قصيرة سمينة طرية تلتوي فوق أصابع البيانو، لا تصيبها تلك الانتصابة القوية الصلبة، لا تدق على البيانو بتلك الحركة الأسرع من الضوء، عنقها مثل جسدها قصير سمين طري لين العضلات يلتوي تحت ثقل رأسها وهي تمشي.
يتراكم الإعجاب والحسد في قلب مجيدة الصغير. عمرها ثمانية أعوام، تكبرها زينة بنت زينات بعام واحد، تبدو كأنما أكبر منها بمائة عام، كأنما عرفت الحياة والموت، والله والشيطان، ولم تعد تخافهما.
لكن قلب مجيدة مليء بالخوف، تخاف نار جهنم الحمراء بعد الموت. تخاف كف أبيها حين ترتفع في الهواء لتسقط فوق وجهها أو وجه أمها، تتلقى الصفعة وتسكت مثل أمها، أو تحبس الدمعة الحبيسة من قبل، لا تستطيع أن ترفع يدها عاليا لتسقط فوق وجهه. يدها بضة سمينة بطيئة الحركة مثل يد أمها، رأسها يطرق إلى الأرض خجلا من جسدها القصير السمين كما تفعل أمها حين تمشي.
كان اليوم جمعة، خرجت بدور وابنتها مجيدة لزيارة صافيه صديقة الأم الوحيدة. كانت صافي تسكن وحدها في شقة صغيرة بشارع العجوزة. في أول الشباب تزوجت صافي من زميل لها في الجامعة يؤمن بالماركسية، تخلت عن الله والرسول من أجل الحب، عاهدها زوجها على الحب والإخلاص، ثم تنكر للعهد. ضبطته في الشقة مع الخادمة الصغيرة، قال لها: إن الإنسان متعدد بالطبيعة، وإن التغير هو قانون الطبيعة الثابت، إن كلمة الخيانة الزوجية من مخلفات الإقطاع والملكية الفردية، إن الزوجة لا تملك زوجها؛ لأن الإنسان حر، الحرية هي أعلى مبادئ الأخلاق، لا يساويها إلا الحب. بعد الطلاق تزوجت صافي من زميل آخر يؤمن بالله والرسول، يحرك بين يديه سبحة صفراء، فوق جبهته زبيبة سوداء من طول السجود بين يدي الله، عاهدها على الحب والإخلاص. تخلت صافي عن كارل ماركس وفردريك إنجلز، لفت حول رأسها حجابا يخفي شعرها، تزوجته على سنة الله ورسوله، ثم بعد عامين وهي تمشي في أحد الشوارع البعيدة، في الطرف الآخر من المدينة، قرأت فوق باب بيت اسما يشبه اسم زوجها، الاسم الثلاثي بالحروف نفسها، محفورا فوق رقعة نحاس صغيرة مثبتة فوق الباب بالمسامير.
توقفت لحظة متشككة، قالت لنفسها قبل أن تدق الجرس: تتشابه الأسماء الثلاثية في كل السجلات، حتى كشوف الانتخابات ومكاتب البوليس، قد يدخل السجن رجل بريء لمجرد التشابه في الاسم، أو ينهض من القبر ميت لينتخب الرئيس؛ بسبب تشابه الأسماء ليس إلا.
دقت الجرس ثلاث مرات حتى انفتح الباب. رأت أمامها زوجها، بلحمه ودمه والزبيبة في منتصف جبهته، كان مرتديا منامة بيضاء فيها زهور وردية، سرواله واسع مفتوح الأزرار، يطل من الشق قضيبه الذي تعرفه، لا يمكن أن تخطئه من بين القضبان، في أنفها رائحته لا تزال منذ ليلة الأمس. ارتفعت يدها عاليا في الهواء كادت أن تسقط فوق صدغه، لولا أن ظهرت من خلفه طفلة صغيرة أمسكت يده وهي تصيح: بابا! دفع الطفلة بيده إلى الداخل، قال لزوجته وهو يرفع وجهه ناحية السماء: أنت مؤمنة يا صافي بالله والرسول، قانون السماء يعطيني الحق في الزواج بأخرى، وقانون الدولة أيضا. إن شئت فاذهبي إلى المحكمة.
كان اليوم جمعة، يخرج زكريا الخرتيتي من الفيلا في جاردن سيتي إلى الجامع في الشارع المجاور، كانت الجوامع تتكاثر في الشوارع والأزقة والحواري. قد تنبت الجوامع الصغيرة الوليدة داخل البيوت، في فناء البيت، أو مدخل البيت، أو تظهر منارة صغيرة فوق جدار، يثبت فوقها ميكروفون بالمسامير، لتصبح جامعا يذهب إليه الرجال للصلاة الجماعية صباح يوم الجمعة، والاستماع إلى خطبة الإمام شيخ الجامع.
كان يوما دافئا من أيام الربيع، حرارة الشمس تسري في الجسد بعد برودة الشتاء. خلع زكريا الخرتيتي البدلة الثقيلة من الصوف والكوفية التي لفها حول عنقه، ارتدى بدلة حريرية فوق قميص مفتوح دون ربطة العنق، يلامس الهواء الناعم عنقه القصير السمين، يسري إلى لحم صدره المغطى بشعر أسود خفيف، يخف العام وراء العام.
يتخلل السواد شعرات بيض في صدره ورأسه بعد أن تجاوز الستين، أصبحت له صلعة كبيرة في منتصف رأسه، تلمع تحت أشعة الربيع بضوء أصفر. عيناه ضيقتان غائرتان تطفو فوقهما نظرة صفراء، كلما وقع بصره على عمود زميله في الجريدة، يشيح بوجهه بعيدا عنها. الجريدة معلقة فوق الأكشاك الخشبية في النواصي والميادين، مفروشة على الأرصفة في الشوارع، بجوار الجوامع والكنائس، والمدارس والمحاكم ودور اللهو والمسرح والسينما.
لا يخلو شارع أو زقاق من كشك يبيع الصحف، ورصيف أو جزء من رصيف مغطى بالمجلات والجرائد، على رأسها جريدة أبو الهول اليومية الكبرى، تطل من صفحتها الأولى صورة الرئيس. تحوطها من كل جانب فوق الأسفلت الأحجبة والمصاحف والمسابح، والمباخر وإمساكية الصيام، ومواعيد الصلاة، وصور المرشحين في انتخابات البرلمان أو الشورى أو الرئاسة أو مجالس القرى والمحافظات، وصور النجوم في المسرح، والسينما، والتلفزيون. تتجاور الصور فوق الأرض والجدران؛ صورة فضيلة الشيخ الكبير بالعمامة واللحية والشارب، إلى جوار صورة النجمة اللامعة زيزي، خليفة أمها زوزو في عالم الرقص والغناء.
صفحة غير معروفة