لو لم تفتح جفونها وترى المقلتين الزرقاوين السوداوين لربما عاشت بدور حياتها مثل غيرها من النساء، لربما ضمها عش الزوجية السعيد مع زكريا الخرتيتي، لربما ابتهجت بمركزها العالي في الجامعة، وإنتاجها العظيم في النقد الأدبي والعمود اليومي الذي يملكه زوجها في جريدة «أبو الهول»، وابنتها مجيدة الخرتيتي التي تكتب في مجلة النهضة، وبطاقات الدعوة التي تأتيها بالبريد، والكتب والمؤلفات التي يرسلها إليها الكتاب والكاتبات؛ ينشدون منها كلمة أو نظرة أو لفتة كريمة.
كانت بدور تخفي حزنها العميق تحت وجهها المتورد السمين، تطوي سرها الدفين في ثنايا أحشائها، ترسم فوق ملامحها ابتسامة مشرقة، تطلق ضحكة عالية من حين إلى حين، ربما لا يكون هناك شيء مضحك، لكنها تطلق ضحكتها المميزة طويلة وحادة، تنتهي بشهيق متقطع الأنفاس يشبه النشيج المكتوم.
لأن خبراء تربية المواشي يؤكدون هذه الحالة حين تصاب البقرة الأم باكتئاب مزمن بعد أن ينزعوا عنها وليدها، بعد أن تنظر في عيني وليدها قبل أن يفارقها. كان الخبراء يغطون عيون البقرات الأمهات، يضعون فوق عيونهن غطاء سميكا لا يشف الضوء، تلد البقرة عجلها أو عجلتها دون أن تراها، دون أن تلتقي العيون لحظة أو أقل من لحظة، دون أن تتلامس العيون في نظرة واحدة أو نصف نظرة. إن هذه النظرة الواحدة هي التي تبقى مع الأم لا تفارقها حتى الموت، وإن كانت بقرة، فما بال أن تكون ناقدة مرموقة، اسمها بدور، أو بطلة في رواية أدبية اسمها بدرية؟
في الليل تتحسس بدرية بطنها من تحت الغطاء، تحت كفها البضة الناعمة تحس دقات القلب الصغير. رفسات القدم الدقيقة الرقيقة تدق جدار بطنها، تضغط بيديها فوق الصوت تكتمه، تلف أصابعها حول العنق الصغير تخنقه، تريد أن تراه ميتا، وتريده أن يعيش ويرى النور، تتمزق بين الإرادتين إرادة الله وإرادة الشيطان. كان الله يريده ميتا؛ لأنه ابن زنى، وكان الشيطان يريده حيا يتألق في سماء الكون كالنجم.
في الطرقات المظلمة كانت بدور تمشي تقودها بدرية من يدها، تسحبها من خلفها كما يسحب الفلاح بقرته من خلفه. عيناها لا تريان الطريق أمامها؛ الغمامة المربوطة حول رأسها، أو لأنها مغلقة الجفون في نوم عميق؛ أو لأنها تركت أمرها ومصيرها في يد بدرية. إنها بدرية التي تحرضها على العصيان، منذ الطفولة تدفعها إلى الخروج إلى الشارع، إلى الهروب من المدرسة والمشاركة في المظاهرات، إلى الهتاف ضد الله والوطن ، ضد الأب والأم والجد، ضد المدرسين والمدرسات. إنها بدرية التي دفعتها إلى دخول الغرفة في البدروم، هي التي وقعت في حب نسيم، هي التي أرادت أن يكون لها طفلة أو طفل يرث قوامه الممشوق، يمشي فوق الأرض بخطواته الشامخة؛ مقلتان كبيرتان شاخصتان إلى الأمام، لونهما أزرق أسود بعمق البحر في الليل أو السماء حين تسطع الشمس. تصورته رجلا آخر اسمه نعيم، كان هو حبها الأول قبل أن يدركها الحيض. إنها بدرية التي فتحت جفونها ورأت المقلتين قبل أن تختفي في الظلمة، رأتهما لحظة أو نصف لحظة، لم تكف بعدها عن البحث. بعد أن ينام الكون ترتدي ملابسها وتخرج، تمشي في الشوارع، تنظر في عيون الأطفال، تحملق في عيونهم تبحث عن المقلتين. قد تكون الطفلة راقدة فوق الرصيف غارقة في النوم، جفونها مغلقة، قدماها الصغيرتان مشققتان، بشرتها سمراء حرقتها الشمس، مبقعة بدوائر بيضاء وصفراء تعلوها جروح وكدمات، شفتاها منفرجتان قليلا مثل الأطفال في النوم، تبتسم لأمها أو أبيها المجهول في الحلم. تفتح الطفلة عينيها لترى بدرية جالسة إلى جوارها، تمد لها يدها برغيف طازج من الفرن أو قطعة كعك، قبل أن تنهض وتمضي بعيدا. ليستا المقلتين نفسيهما، ليستا العينين نفسيهما، ليست هي النظرة المحفورة في خلايا العقل داخل ثنايا المخ، ليست هي زينة ابنة نعيم.
لا تمد الطفلة يدها إليها؛ تعرف أنها ليست أمها. إنها امرأة أخرى لا تعرفها، واحدة من هؤلاء النساء، عضو في جمعية رعاية أطفال الشوارع، أو رعاية مرضى السل أو الجذام أو الإيدز، أو في مجلس الطفولة أو الأمومة أو الوالدين، أو موظفة في حزب الحكومة أو المعارضة أو حقوق الإنسان.
لا تمد الطفلة يدها في إباء وشمم، لا تريد حسنة ولا شفقة من هؤلاء أو أولئك، لا تريد رغيف خبز أو قطعة من الكعك، بل تريد أن تذهب إلى المدرسة والجامعة مثل غيرها من بنات الناس، تريد أن تكون لها كرامة وشرف، وشهادة ميلاد وشهادة الليسانس والدكتوراه.
تعود بدرية إلى بيتها منهوكة القوى محنية الرأس، تكاد تشبه بدور بعد أن تزوجت. لم يكن زكريا الخرتيتي فتى أحلامها، تقدم إلى أبيها يطلب يدها، كانت الثورة قد قامت وسقط الملك عن العرش. جلس في مقاعد الحكم ملوك صغار، يرتدون ملابس عسكرية، أحدهم هو أبوها اليوزباشي الدامهيري، كانت أخته قد تزوجت من ابن عم أحد قادة الثورة. خلع الدامهيري البذلة العسكرية، ارتدي ملابس مدنية أنيقة، أصبح له مكتب فاخر في المؤسسة أو لجنة الثقافة والأدب والفنون والصحافة، يجمع بين عدد من الوظائف واللجان العليا مثل غيره من العسكر. يمكن الواحد منهم أن يشرف على عدد من الهيئات والمجالس واللجان، تحمل اللجنة اسما مركبا من كلمتين: العليا الدائمة. كان الواحد منهم يحمل سبحة صفراء في يده، يصلي الجمعة وراء الصف الأول، أو الصف الثاني، يتصور أن الله معه في كل خطوة، أن لجنته الدائمة العليا هي من عند الله، وأنها دائمة دوام الخالق الأوحد.
كان زكريا الخرتيتي صحفيا ناشئا، كتب بعض المقالات في مدح الملك، حذفها من ذاكرته بعد قيام الثورة. بدأ يكتب عن الثورة المجيدة ثم عن الاشتراكية العربية الإسلامية، ليست هي اشتراكية كارل ماركس «اليهودي الملحد».
يضغط بسن القلم على الكلمتين «اليهودي الملحد». كلمة واحدة منهما كانت كافية لتلويث سمعة أي كائن حي أو ميت.
صفحة غير معروفة