أمسك يدها البضة الصغيرة في يده الكبيرة، تهاوت بين ذراعيه مثل ثمرة نضجت، تجاوزت النضج إلى حد السقوط من فوق الشجرة، تشدها جاذبية الأرض إليها، مثل تفاحة نيوتن.
كانت بدور قد قرأت شيئا في علم الفيزياء، عن اكتشافات نيوتن وأينشتاين، عرفت النظرية النسبية والنظرية الماركسية. كان نسيم يقرأ في العلم والفلسفة، وهي تقرأ في الأدب والنقد الأدبي، يتبادلان الكتب، لم يكن نسيم يؤمن بحكاية آدم، ولا التفاحة التي أغوته بها حواء، وكانت هي لا تزال تؤمن بما آمن به أبوها وأمها والمدرسون في المدرسة.
فوق بلاط الغرفة كانت مرتبة تغطيها الكتب والأوراق والمنشورات، فوق الجدران رفوف خشبية تحمل الكتب والمجلات والدوسيهات، في الركن كرسي من الخيزران معلق عليه قميص أبيض مغسول، النافذة مربعة مسدودة بقضبان حديدية تطل على أرض الشارع.
ثم تلاشت الغرفة بكل ما فيها، تلاشي المكان والزمان حين ضمها إلى صدره، قبل شعرها وعينيها، عاد إليها الحلم كما كانت تراه كل ليلة، ربما كانت اللذة في الحلم أشد منها في الواقع. كان نسيم في أحلامها أكثر جرأة، أكثر اقتحاما لجسدها، كان جسده أكثر صلابة كالرمح، يشق به الكون ويمشي إلى النهاية، أو ربما يكون الواقع دائما أقل جمالا من الخيال.
حين أفاقت بدور رأت الأرض البلاط، والنافذة المسدودة بقضبان الحديد. إلى جوارها كان نسيم غارقا في النوم، أنفاسه مسموعة، تسري في أذنها، تكاد تشبه شخير أبيها، تفاحة آدم بارزة في عنقه مثل عنق أبيها، عضلات جسده مرتخية متهدلة مستسلمة، خالية من التحدي مثل جسدها وأمها.
ارتدت ملابسها على عجل، علقت حزام حقيبتها على كتفها، سارت على أطراف أصابعها نحو الباب ، لكنها سمعت صوته من خلفها يناديها: بدور؟
استدارت، رأته يمشي نحوها بجسمه الطويل الصلب، استعاد جسده الصلابة وارتفاع القامة. المقلتان في عينيه تشعان ضوءا أزرق إلى حد السواد، أو سوادا إلى حد الزرقة، كأنما تنظر في قاع البحر، أو في عين السماء في الليل.
كان الفجر لم يطلع بعد، أرادت أن تلقي نفسها فوق صدره وتبكي، في أعماقها حزن منذ الطفولة لا تعرف مصدره، بين ذراعيه يذوب الحزن في فرحة تهز كيانها، تنفض عن جسدها ألما عميقا مدفونا في الأحشاء. في رأسها خلية تشبه الإبرة، تذكرها بأبيها وجدها وشرف العائلة، تذكرها بالله والشيطان، ونار جهنم الحمراء بعد الموت. - بدور؟ - أيوه يا نسيم. - ما رأيك نذهب في الصباح إلى المأذون؟ - يا خبر؟
صدرها يعلو ويهبط مع الضربات القوية تحت ضلوعها، كلمة المأذون ترن في أذنها مخيفة غامضة مراوغة لا علاقة لها بالحب، أيمكن أن تتزوج في الصباح؟
وأبوها راقد في فراشه يشرب الشاي ويقرأ الجريدة، يتمطى ويتثاءب مسترخيا مطمئنا إلى أن ابنته العذراء الطاهرة راقدة في سريرها، أو تتأهب لدخول الحمام وارتداء ملابسها لتذهب إلى الجامعة. - هل المأذون ضروري؟ - طبعا يا بدور، لا زواج بدون مأذون.
صفحة غير معروفة