كان زيتون قد انصرف، كان بصحبة فرانك في القارب يجدفان في طريق منزل زيتون في شارع دارت. وفي طريق عودتهما للبيت، وأثناء مرور بضع سفن مروحية بهما، خطر لزيتون أنهما سمعا الذين ساعداهم، خصوصا العجوز الطافية داخل منزلها؛ لأنهما كانا يركبان قاربا، ولو كانا في سفينة مروحية تحدث ضجيجا يصم الآذان، لما سمعا شيئا، كانا سيمران بها دون أن يسمعاها، ومن المحتمل أن تعجز المرأة عن الصمود ليلة أخرى، كان الفضل يرجع إلى طبيعة هذه المركبة الصغيرة الصامتة نفسها، فلولا صمتها ما سمعا أشد الأصوات خفوتا. القارب إذن صالح والصمت ذو أهمية جوهرية.
وأوصل زيتون رفيقه فرانك إلى منزله، ثم اتجه إلى طريق العودة، وكان مجدافه يقبل المياه النظيفة، وكتفاه تعملان بإيقاع محكم، كان زيتون قد قطع مسافة خمسة أميال أو ستة في ذلك اليوم، لكنه لم يكن مرهقا. كان الليل يهبط، وكان يعرف أن عليه أن يعود إلى المنزل، سالما فوق سقف المنزل، لكنه حزن لانتهاء النهار.
ربط القارب في المدخل الخلفي وتسلق داخلا المنزل. أحضر شواية محمولة إلى السقف. وأوقد شعلة صغيرة ووضع على النار بعض صدور الدجاج والخضراوات التي كانت مجمدة فأخرجها في الصباح حتى تكون جاهزة للطهي، وأعد لنفسه الطعام، وأثناء تناوله هبط الليل، وسرعان ما أمست السماء أظلم من أي ليلة عرفها في نيو أورلينز، كان الضوء الوحيد ضوء طائرة مروحية تحلق فوق وسط المدينة ، وقد بدت ضئيلة لا حول لها ولا قوة على البعد.
واستخدم زيتون الماء المعبأ في زجاجات في الوضوء وأدى الصلاة فوق السطح، وزحف إلى داخل الخيمة موجع الجسد وإن كان ذهنه لا يزال يقظا، فاسترجع أحداث اليوم. لقد اشترك مع فرانك حقا في إنقاذ تلك المرأة، ألم يحدث ذلك؟ بل حدث. كانت تلك حقيقة. كما ساعدا أربعة آخرين على الوصول إلى بر النجاة، ولا بد أن تكون أمامه مهام أخرى غدا. كيف يستطيع أن يشرح لكاثي ولأخيه أحمد أنه يحمد الله كثيرا على بقائه في المدينة؟ كان واثقا بأنه قد دعي للبقاء وأن الله كان يعلم أنه سيخدم الآخرين إذا بقي. كان اختياره البقاء في المدينة مشيئة ربانية.
كانت مشاعره فائرة إلى الحد الذي أذهب النوم عن عينيه، فعاد من خلال النافذة إلى داخل المنزل، وكان يريد أن يعثر على صورة محمد مرة أخرى. كان قد نسي من كان معه في الصورة - هل كان أحمد؟ - وأراد أن يشاهد التعبير على وجه محمد، تلك البسمة التي تأسر الدنيا. وعثر على صندوق الصور، وأثناء بحثه عن تلك الصورة، وجد صورة أخرى.
كان قد نسي هذه الصورة. ها هو ذا، محمد مع نائب رئيس لبنان. لم يكن زيتون قد رآها منذ بضع سنين. لم يكن محمد قد بلغ العشرين بعد، وكان قد فاز ببطولة سباق سباحة يبدأ في صيدا وينتهي في بيروت، أي لمسافة 26 ميلا. كان الجمهور مذهولا. كان قد ظهر من حيث لا يتوقع أحد، محمد زيتون، ابن بحار من جزيرة أروض الصغيرة، وأذهل الجميع بقوته وقدرته على التحمل. كان زيتون يعرف أن والده محمودا موجود في مكان ما في هذه الصورة بين أفراد الجمهور. لم يكن يفوته سباق قط، ولكن الأمر لم يكن كذلك دائما.
كان محمود يريد أن يعمل ابنه محمد، بل كل أبنائه، على اليابسة لا في البحر، وهكذا قضى محمد سنوات مراهقته الأولى عاملا بحرف مختلفة، مثل البناء والتدريب على أعمال الحدادة وأشغال الحديد. كان فتى قوي البنية له صدر عريض وساقان قويتان، ولم يستمر في المدرسة بعد عامه الرابع عشر. وفي الثامنة عشرة كان يبدو أكبر سنا بشارب كث وفك مربع، وكان يجمع بين التفاني في العمل وسحر الشخصية، فكان يحظى بإعجاب من هم أكبر منه وإعجاب الفتيات في البلدة.
ووافق والد محمد على مضض بأن يعمل ابنه ضمن طاقم سفن الصيد المحلية في العصر والمساء. وكان وهو لا يزال في الرابعة عشرة، وبعد يوم كامل من صيد السمك بعيدا عن الأرض بأميال، يصر على أن يقطع المسافة كلها سباحة، فما إن يرفع الصيادون آخر شباكهم من الماء حتى يسمعوا صوت «الطشة» في الماء، ويروا محمدا منطلقا يشق عباب البحر مهرعا إلى الشاطئ.
ولم يكن محمد يخبر أباه بأمثال هذه المنجزات، وأخفى عنه بكل تأكيد ما قرره بعد سنوات معدودة من أنه قد كتب له أن يكون أعظم سباحي المسافات الطويلة في العالم.
كان ذلك عام 1958، وإزاء عدد من العوامل السياسية، من بينها ازدياد النفوذ الأمريكي في المنطقة، أعلنت مصر وسوريا الوحدة الاندماجية، فنشأت دولة جديدة هي الجمهورية العربية المتحدة. وكان المعتزم أن تؤدي الوحدة إلى قيام كتلة أشد قوة، بحيث يمكن أن تنمو لتضم الأردن والمملكة العربية السعودية وغيرهما. وكانت الوحدة تتمتع بتأييد شعبي واسع النطاق، ورنات الفخار تتفجر في الشوارع والنوافذ في سوريا ومصر؛ إذ كان مواطنو الدولتين يرون في الوحدة خطوة نحو تحقيق تكاتف وتضافر أوسع نطاقا بين الدول العربية، وانطلقت الاحتفالات والاستعراضات من الإسكندرية حتى اللاذقية.
صفحة غير معروفة