وقالت ماري آن: «هل تعرفين كم أصبح سعر البنزين؟»
وردت كاثي: «عفوا؟ لم أكن أعرف أنك تدفعين ثمن بنزين سيارتي.»
كانت كاثي تشعر بنفاد صبرها، وبأنها مقهورة، ففي المنزل كان أهلها يشعرونها بأنها تمثل مع أطفالها عبئا ثقيلا، وإذا بأختها تؤنبها الآن على مغادرة المنزل. وأقسمت في نفسها أن تقضي هذه الليلة، ثم تفكر في خطة جديدة لتنفيذها في اليوم التالي، وقالت في نفسها إنها قد تتجه بالسيارة إلى مدينة فينيكس للإقامة مع يوكو. كانت فكرة مضحكة، أي أن تسافر مسافة تبلغ ألفا وخمسمائة ميل، وأقاربها يعيشون على بعد خمسين ميلا من نيو أورلينز، ولكنها كانت تهرب من قبل وتلجأ إلى منزل يوكو، وفي يدها أن تعيد الكرة.
كان التوتر قد ازداد بالفعل، ولكن كاثي كانت تشعر بأنها ملزمة، من أجل عدنان وعبير، أن تسأل ماري آن. وعلى أي حال فإن ماري آن كانت تعرفهما؛ إذ قابلت عدنان وعبير عدة مرات، وهكذا ذكرت كاثي لماري آن أنهما قضيا البارحة نائمين في السيارة، وسألتها: «ألا يمكنهما البقاء هنا ليلة واحدة؟»
وقالت ماري آن: «قطعا لا يمكن!»
في الطابق الثاني المظلم، كان زيتون يضع الكشاف اليدوي بين أسنانه، وهو يتفحص كومة من الأمتعة الشخصية التي أنقذها، فوضع على الرفوف ما استطاع وضعه من الكتب، وحفظ الشهادات والصور في صندوق خاص. وجد صورا لأطفاله عندما كانوا صغارا، وصورا من رحلة كانت الأسرة كلها قد قامت بها إلى إسبانيا، وصورا من رحلتهم إلى سوريا، فنظمها وأتى بكيس من البلاستيك فحفظها فيه وأعادها إلى الصندوق.
وفي صندوق آخر، أقدم عهدا، عثر على صورة غلب عليها اللون البني في إفريز متخلع، فتوقف عندها. لم يكن قد رآها من سنين. كانت صورته مع أخيه لؤي وأخته زكية وهم يلعبون مع أخيهم محمد، الذي كان يكبر زيتون بثماني عشرة سنة، كانوا يلعبون المصارعة معه في غرفة النوم التي كان يشترك فيها زيتون وأحمد وجميع الصبية الصغار في جبلة، وكان عبد الرحمن الصغير واقفا إلى أقصى اليمين، وربما لم تكن سنه تتجاوز الخامسة، وقد غاصت أصابعه الصغيرة في يد محمد الضخمة.
وحدق زيتون في بسمة أخيه الساحرة، كان لدى محمد كل شيء آنذاك، وكان كل شيء، أشهر بطل رياضي متمرس في تاريخ سوريا. كان من سباحي المسافات الطويلة، من أفضل من عرفهم العالم على الإطلاق، ولما لم يكن ينتمي إلى بلد يشتهر بسواحله فقد زادت الدهشة من منجزاته، كان قد فاز بسباقات في سوريا ولبنان وإيطاليا، وكان في طوقه أن يسبح ثلاثين ميلا دون توقف، وبأسرع مما يستطيعه أي شخص سواه، أسرع من أي إيطالي أو إنجليزي أو فرنسي أو يوناني.
وفحص زيتون الصورة فحصا أدق، وقال في نفسه: «مسكين محمد!» كل إخوته وأخواته تكأكئوا عليه. وكان هذا دأبهم كلما عاد إلى بيته. كانت سباقات السباحة، في اليونان وفي إيطاليا والولايات المتحدة، تبعده عنهم مدة أطول مما ينبغي، كان يقابل بالحفاوة والترحاب من رؤساء الدول، وكانت صورته تظهر في الصحف والمجلات في شتى أرجاء العالم. كانوا يسمونه الطوربيد البشري، وتمساح النيل، والمعجزة، وهكذا، فعندما يعود إلى المنزل كان أشقاؤه يجنون فرحا، ويطنون حوله كالذباب.
وعند ذلك، عندما كان في الرابعة والعشرين، رحل عن الدنيا، قتل في حادثة سيارة في مصر، قبيل الاشتراك في سباق سباحة في قناة السويس. وكان زيتون لا يزال يفتقده بشدة، على الرغم من أنه لم يكن قد تجاوز السادسة وقت تلك الحادثة، وبعد ذلك لم يكن زيتون يعرف أخاه محمدا إلا من خلال القصص والصور والمدائح، ومن النصب التذكاري المقام تكريما له على شط البحر في جلبة، على مسافة قريبة من الشارع الموصل إلى منزل الأسرة، وكان الأطفال وهم يكبرون يمرون بهذا النصب كل يوم؛ وهو ما جعل من المحال نسيانه ولو للحظة واحدة.
صفحة غير معروفة