ولكن ما إن انتهت أيام المأتم حتى شعرت زينب بحمى شديدة ترعدها اضطرت معها لأم تلزم مرقدها. وزاد ضعفها تأثرا بهذا الطارئ، فهي لا تزال في قشعريرة مستمرة تحس بالبرودة والسخونة تتعاورانها. وإذا ما خف أثر ذلك جاءها السعال يهز جسمها النحيل، فكان منظرها أشد المناظر إيلاما. وما عتمت أمها أن سمعت بخبرها حتى هرولت مسرعة إليها، فجلست إلى جانبها، وجعلت تسألها عن أمرها. ولكن ماذا عساها تعرف؟ وهل هو إلا هذا السعال المستمر يقلقها ويكاد يقتلها؟
جلست أمها إلى جانبها وقد أحرقت البخور والشبة مرات لم تنتفع من ورائها بشيء، وهي في كل لحظة عرضة لآلام لا قبل لها بها. فإذا ما رأت زينب تبصق بعد السعال دما يخالطه شيء من الصديد نظرت إلى هذا الوجه الناحل اليوم وذكرت ما كانت عليه ابنتها من صحة وجمال من قبل. ثم وسط القاعة المظلمة التي هم فيها أرسلت مع زفراتها الدمعات الحارة مخفية وجهها بين يديها مجاهدة ألا يعلم بأمرها أحد.
وكل يوم تشعر بانحطاط قوى ابنتها أكثر من اليوم الذي قبله فتزداد حزنا وألما. وابنتها لا تجيب بشيء عما عساه يكون سبب مرضها إلا تنهدات وزفرات تصعدها. وإذا ما أحست بشيء من السكون والقوة، خرجت إلى صحن الدار وبيدها منديل محلاوي تضعه على فمها من حين لحين وتقبله حين تعلم أن ليس عليها من رقيب، فتجد فيه من أثر إبراهيم ما يزيدها لوعة، ثم يزيدها حزنا أنها تود لو تقف من أخباره على شيء فلا تجد إلى ذلك من سبيل ولا يعلم بما يدور في نفسها أحد.
5
كانت أم زينب تقضي أكثر الوقت إلى جانبها، فلا تتركها إلا لقضاء أمور منزلهم، وأبوها يتعرف الأخبار من زوجته، ويذهب إليها أحيانا يسألها عن صحتها. فإذا ما رأته لم تستطع دون أن توجه إليه نظرة فيها من الألم والعتاب ما يصل إلى قلبه ويكاد يفهمه. وجازية قد انقطعت عن كل شيء إلا العناية بزينب، فلا تتركها إلا ساعات الفرض حين تذهب للصلاة في غرفتها، ثم ساعات الليل حين يبيت حسن إلى جنب زوجته ويغنيها عن كل من سواه.
ولقد ظهرت على الدار غبرة من الحزن، فلا تلمح خارجا منها ولا داخلا إليها إلا عليه سيما الأسى. وتبعث الشمس إليها بلجة أشعتها فتظهر بلونها الترابي كاسفة كأنما تحس بما تحويه من قلوب جازعة. وشجر السنط الذي أمامها دائم السواد، فإذا هزته الريح أحيانا تحركت أغصانه حركة المفجوع الذي يهز رأسه آسفا.
كان يعود زينب أحيانا صاحبات لها خلع عليهم الشباب والربيع من حلته ما يزهين به، فإذا ما رأتهن تذكرت أيامها الخالية، وما أمرها على النفس أن نرى في أيام سقوطنا وضعفنا ما يذكرنا قوتنا السالفة وجمالنا! لذلك كن متى فارقنها خلفن ورائهن لوعة، وبقيت بعدهن تذرف من عيونها الواسعة على خدودها المصفرة دمعات يرسلها الحزن والأسى.
وكل يوم يعاودها سعالها وتزداد ضعفا حتى بلغ بها النحول أن كانت متى دخلت فرشها لا تكاد ترى لولا أن ينم عنها وجهها.
فلما بلغ بحسن اليأس، ولم يعد يرى في الجو المحيط به إلا ألما، ذهب إلى دار العمدة فوجده وقص عليه الخبر فأنكر عليه العمدة أن تركها حتى الساعة من غير أن يراها طبيب. لكن الذنب في ذلك ذنب أبويه اللذين كانا يكرران كلما أشار حسن إلى هذا: «الحكيم ربنا.. ربنا يشفي» وتطلق العجوز بخورها وتحرق شبتها وتقنع نفسها والآخرين أن البنت محسودة وأن ذلك سيزول قريبا إن شاء الله.
لكن الله لم يشأ. وبقيت زينب في ضعفها حتى لم يبق لحسن إلا أن يلجأ للعمدة، وأن يشكو إليه استبداد أبويه. ولم يتمهل العمدة، بل أمر كاتب التليفون أن يطلب طبيب المركز أن يحضر، ووعد حسن متى حضر الطبيب أن يبعث إليه من يناديه.
صفحة غير معروفة