لكن نومها هذا لم يطل أمده. إذ ما لبث الديك أن صاح على شرفة الدار، فانتبهت كعادتها وكلها النشاط والعزيمة، فكأن هاته الأحلام المحسنة التي قضت فيها أكثر ليلها أعطتها من الراحة ما عوضها عن قصر ليلها. وفي الساعة عينها قام حسن فذهب إلى الجامع لصلاة الفجر، فوجد أباه قد سبقه إليه ليقرأ الورد مع إخوانه الفانين. ولم يكد ينتهي من الوضوء حتى سمع المؤذن ينادي من أعلى الجامع أذانه، ويدعو لبيت الله جماعة عباده، فتنشر الظلمة صداه في كل الأنحاء. وبعد أن أسمع النوام أن الصلاة خير من النوم انحدر من عليته وسط سلم المئذنة الضيق، ولولا اعتياده رقيه وهبوطه لما سلم رأسه مما يصيبه. ثم أم جماعة المتقين لركعتي الفرض، وخرج إلى بيته آملا أن يجد لقمة ساخنة يأكلها لتغيير ريقه ليذهب من بعد ذلك إلى الكتاب لتعليم الأولاد. وخرج من جماعة الفلاحين من انصرف إلى داره، وبقي آخرون يسبحون بحمد ربهم ويقدسونه. وكان حسن مع الأولين قد خرج وذهب إلى الدار، فوجد زينب قد أعدت له لقمة الصباح ثم راحت «للملية». •••
راحت للملية والنهار يجاهد الليل ويطوي خيمته العظيمة، والطرق مختفية تحت رداء من الطل لا تزال وسنى يبين عليها أثر الكرى، والسماء بعث عليها النور الوليد لباسها الأزرق تطوق المزارع يقوم فوقها شجر الذرة، وهو أشد ما يكون همودا وسكوتا، والجو رطب عذب ينعش النفس ويبعث للقلب السرور، وكأنه يلاطف الموجودات كلها لتقوم من نومها. وكلها في صمتها سعيدة بما نالته من الراحة والهدوء.
سلكت زينب طريقها وحيدة منفردة، فلما انتصف أمامها ابتدأت تستعيد ما حصل ليلة الأمس بينها وبين حسن، فما كادت تذكر ذلك حتى أحست في نفسها بحاجة إلى رؤيته، كأن دافعا يدفعها للإسراع إليه، فأسرعت حتى وصلت إلى الترعة وملأت جرتها ورجعت عجلى ولا تدرى لذلك سببا. فلما بلغت الدار وجدته قد سرح وأخذ التملي معه، فأفرغت جرتها وأخذتها لترجع للدور الثاني، ولكنها دهشت حين سألت نفسها: لم تريد أن ترى حسنا؟ وماذا كانت ستقول له لو أنها وجدته؟ حقيقة ليس هناك من جديد يدعوها لذلك، لكنها النفس الإنسانية تتنبه فيها أحيانا عواطف غريبة لا يفهمها الإنسان، ويظنها نزعات غير مسببة في حين أنها نتيجة لحوادث سابقة كانت كلها سببا لها.
ووجدت الطريق قد ابتدأ يعمره السارحون والذاهبات للملية، فقابلت بعضهن سارحات والآخرين سارحين، وكان من بين هؤلاء أم السعد وقشطة أم إبراهيم ونفيسة أم أحمد ذاهبات جميعا لدورهن الأول، وهن يمشين على مهل. فلما مرت بهن زينب، وأهدتهن صباح الخير، استوقفنها، وقصصن عليها حديثا سمعنه بالأمس أن الشيخ مسعودا طالع للحج هذا العام، وسألنها: هل حقا أن عمي خليل طالع معه؟ أما هي فلم تكن تعلم عن هذا الأمر شيئا ولا سمعت أحدا عندهم يطلب عمل زوادة أو غيرها، على أنه إن صح هذا الخبر فالوقت لا يزال بعيدا على السفر.
وبينما هن في حديثهن إذ سمعن من ورائهن: صباح الخير يا بنات ثم رأين الحاجة زهرة إلى صفهن. واستمر الكلام، فلما علمت أنه دائر حول الحجاز راجعتها عادة جميع العجائز اللاتي يحججن، لا يكدن يجدن الفرصة حتى يخرجن من أعماق حافظتهن الحوادث والأماكن التي رأت عيونهن، ويضفن إلى ذلك من واسع خيالهن ما بذلك تظن نفسك في بلاد السحر بين قوم كل كلامهم إلهام وكل ما عندهم خيرات تنزل من السماء.
حكت لهم عن حجها، وعن عمود النور الذي رأته فوق المدينة المنورة، وعن العرب، وعن المطوفين. حكت ذلك من غير ترتيب، وجاءت بأحاديثها التي تقص عند كل مناسبة. والبنات مبهوتات يرددن من حين لآخر (يابخت من زار النبي) وينصتن إنصات مستفيد لخيالات الحاجة زهرة، وهكذا قطعن طريقهن، ونسيت زينب ما كان يشغل بالها.
طلع قرص الشمس في الشرق، فأدخل الحياة واليقظة إلى الكون، وتورد لمطلعه الشفق، ووصل صاحباتنا والترعة يسيل ماؤها هادئا، وقد انطرح عليها غطاء خفيف من نور النهار الجديد، وقامت إلى جانبها الأشجار أنذرها الخريف فهي كاسفة حزينة، وغيرهن يملأن أوعيتهن، وأخريات يغسلن أثوابهن، ويمر من حين لآخر فلاح معه بقرته أو جاموسته.
لما رجعت زينب لآخر أدوارها كان النهار قد عم نوره الأنحاء، والشمس تسبح في الجو العظيم، وتبعث على عيدان الحشيش وأوراق الذرة من أشعتها يتلألأ تحتها الطل الباقي من أثر الليل، وتسطع بأشعتها فوق سطح الماء الهاديء الساكن. وبينا هي تغسل الإناء بعد أن ملأته إذا هي تسمع خوار ثور طالما سمعت خواره من قبل. والتفتت فإذا الحيوان نائم تحت الشجرة التي كان يربطه تحتها إبراهيم أيام كان عنتر صديقه وصاحبه، متى ابتدأ علقته في التابوت لا يقف أبدا بالرغم من مشيته البطيئة، وإن هو علقه إلى جانب ثور آخر في المحراث لم يناكف ولم يتعبه. فلما رأته خيل إليها أنه في ندائه يسألها عن صاحبه فأرادت أن تجري نحوه لتقبله، ولتجد فيه من أثر المحبوب ما يهدئ نفسها التي هاجت لهذا النداء. ثم رنقت النظر إلى الشجرة العزيزة التي طالما جلسا تحتها قبل وداعه، وهي الأخرى تصفر أوراقها حزنا على فراقه وأسى من أجله. والبقعة التي كانا يجلسان فوقها، وشجيرة التوت الصغيرة التي عندها، وعيدان الغاب المحيطة بها!.. ألا تندب هذه الأشياء صديقا كإبراهيم؟ حقا كل هذه الأشياء غارقة في أسى كالذي أصاب زينب، ولولا ذلك لما كلمتها جميعها وكلها الرقة والحزن.
وجعلت هذه الهموم تعتاد زينب كلما وجدت أثرا من آثار محبوبها، فيعروها الأسى وتظهر على وجهها علامات الحزن وتنقبض نفسها فتنقطع عن الطعام، وتلزم الوحدة، وتطيل التفكير، ويشتد بها الحال من حين لحين، فيحنق قلبها، ويرتعد بدنها، ويذهب لونها، ثم تترقرق ما بين محاجرها دمعة تسيل على خدها ولا يبصرها أحد.
تتابعت الأيام تفنى واحدا بعد الآخر، وكل يوم يمر يزيدها شجنا وتطلبا للوحدة. فإذا ما خلت إلى نفسها أسلمتها للبكاء حتى تذهل عن نفسها وعن الوجود، وبدأت تحس بوحدة فظيعة تزداد من يوم ليوم، ولا تجد في مخلوق مؤنسا. بل لكأن سكون الكون أو نداء الحيوان آنس لها من كلام الناس وجلبتهم.
صفحة غير معروفة