وسط الكون الأخرس المحيط بهما انحدرت من عين زينب دمعة حارة سقطت على يد إبراهيم الذي لم يتمالك أن طوق بيده عنقها ثم سألها بنغمة محزونة باكية: مالك يا زينب؟
ما لزينب اليوم؟.. ودعها إبراهيم! فأملها في الحياة يتقلص! كم تفعل في نفوسنا الحوادث! وكم يهيج مثل هذا الفراق من الحواس ويضيف إلى ما عندنا أضعاف أضعافه! إنها أحبت إبراهيم كل هاته المدة الطويلة، ومع ذلك جاهدت بكل قواها، وحفظت على نفسها شرفها وعفافها، وقامت بواجب الزوجية مقدار ما استطاعت، ولكنها لا تقدر اليوم أن تبتعد عن إبراهيم. كلا! إنها تريد أن تأخذ منه كل ما تقدر في هذا الأسبوع الباقي. تريد أن تضمه إلى قلبها وتبكي معه. ما أقسى القضاء الذي يجور على فتاة حساسة كزينب، فيعاكسها في كل آمالها، ويقلب عليها الحوادث كلها، ويذرها هكذا بائسة تعيسة ولا يجود عليها بشيء ما، ولا بشعاع من أمنية سعيدة تجعل في عيشها من اللذة ما يحرضها على البقاء.. والليل وحده شهيد على دموعها!
ولكنهما لا يستطيعان البقاء في مكانهما طويلا، وزينب مضطرة أن تكون في الدار لترى أمر العشاء، فقامت وملأت جرتها ورجعت إلى جانب إبراهيم، والسكة خالية، واتفقا معا على أن يتقابلا في صباح الغد.
بالرغم من أنه لم يبق لإبراهيم إلا أسبوع على السفر فهو لا يزال يعمل في المزارع أجيرا كعادته، وإن كان قد انقطع عن سهر الليل. لذلك فموعده مع زينب في الصباح تحت هذه الشجرة التي كانا عندها.
قضت زينب ليلتها ما بين أحلام وآلام، فلما كان الصباح وقابلته قصت عليه بعض ما رأت. رأته في البراري سائرا وحده مطرقا برأسه والليل نازل وقد لبس كسوته السوداء، ثم يحدق إلى ما حوله فإذا هو بعبد أسود عظيم مقبل عليه يحمل له ورقة، فلما رجع بها إلى العساكر وقرأها بعضهم له جعل يبكي ويطيل البكاء، ثم رأت نفسها كذلك مضطجعة وإلى جانبها أمها وأختها وحماتها وحسن وهي في بكاء تضرع إليهم طالبة أن يأتوها بإبراهيم. وكل من حولها هم الآخرون عليهم آثار الجزع. وبعد زمان إذا بها وحدها ليس معها أحد تتلفت فلا تسمع حسيسا. وأخيرا راحت في سكون لم تعد تفقه معه شيئا.
وكلما سمع إبراهيم كلام زينب وصور أمام نفسه مصيره هناك في مجاهل البلاد الجهنمية حيث لا يعرف ما سيلاقي وحيث لا يفهم سببا لوجوده إلا أنه عبد مأمور.. تهيجت نفسه مشمئزة متألمة وحنق ألا يجد بدلا نقديا يدفعه عن هاته العبودية من غير ما معنى ولا ضرورة! لا يجد ما يشتري به حريته كما يشتريها غيره ممن يملكون النقد.
هكذا يفهم الناس معنى العدالة. من أجل أني غني أعفى من الخدمة العسكرية عندنا، ولأن آخر فقير يساق برغم أنفه ليقاسي عذابها ويصلى نارها ويرجع منها موسوما بطابعها.
وظلا معا حتى اعتلت الشمس السماء، ورجعت زينب للدار حتى تذهب لحسن بغدائه. فلما كان الأصيل وقد ابتدأت النساء الملية، إذا حامد سائر وحده عليه أثر التفكير العميق، فلما رأى إبراهيم قريبا سلم عليه، ثم وقف وسأله عن حاله وماذا عساه يفكر في سفره، فأجاب الآخر: والله آهو شغل بشغل، ولكن اللى مضايقني إني مش عارف رايح أعمل إيه: يعني يا سي حامد حانفتح بلاد الغرب ولا نخش تونس في الضهر الأحمر. أهو إن كان هناك وإلا هنا الانجليز فوق أكتافنا وهم الحكام.
فقال له حامد: ما علهش أهم شوية أيام وترجع.
ثم تركه وسار، وقد أعجبه جواب هذا الفلاح الساذج. لو أنه ذاهب لغزو وفتح لذهب مسرورا منتظرا أن يرجع أوبة الفاتح المنتصر، ويحدث بأعماله وأعمال من معه، ويفتخر بقواد جيشه وضباطه، لكن الحال أنه ذاهب ليقوم بصغائر الخدم تحت إمرة المتحكمين في بلاده.. فما أشد ذلك إيلاما له! وما أقوى وقعه على نفسه!
صفحة غير معروفة