ولكن ما ذنب صاحبته أمامه؟ هل هي التي حجبت نفسها؟ هل رضيت الذلة التي رميت بها مع كل بنات جنسها إلا بعد أن مهدت لها من يوم ميلادها؟ كم هي في نظراتها له ملئت حبا ورقة ذات بهاء يأخذ بنفسه! وإنها لتود كل ما يوده هو من التفرد به، وأن تمسك بيديها يديه وتنظر له طويلا من غير أن يقولا كلمة واحدة. تنظر له تلك النظرة الطويلة التي تحكي كل ما في النفس ولا تصورها الكلمات.
إنها إن تحدق إليه تعله رعدة وتأخذه الرعشة. إنه ذلك الخائن ودها، الناكث عهدها، الذاهب يغازل العاملات ويضع أنفته تحت رحماتهن. هو لا يستحق ذلك الإحساس الشريف يملأ القلب عظمة وعفة وقد دنس قلبه وجسمه.
أحر به بدل أن ينقم على بريئة شريفة أن يعتزل الناس وينقطع في صومعة حتى يكفر عن خطيئته ويغفر الله زلته ويستعيد شرفه المثلوم. وليست كل الفتيات تلك العاملة التي تعطيه نفسها وهي مرتاحة لذلك فرحة به. إن من الناس من لا يزال يعرف كيف يحفظ مقامه ويحافظ عل شرفه.
كل ذلك يعني ماذا؟.. أيعني أن هؤلاء المدعين الكرامة لا يخطئون؟! اللهم إن خطأهم أفظع كثيرا من خطأ غيرهم وأشنع من كل ما يتصور العقل! وإنما هم قد مهروا في المحافظة على الظواهر وإخفاء ما في نفوسهم، وبرعوا في النفاق أمام الله وأمام الناس، بل أمام أنفسهم، ولو كشفت عن قلوبهم لوجدت العار والخزي دفينا في أعماقها. أيتها الأيام الظالمة! أما يكفي إيقاعك الفقير في مخالب عدمه وألمه حتى تظهريه كذلك الشقي المجرم.
إنسانية ظالمة أروج ما فيها الأكاذيب! إن المصائب يجر بعضها بعضا، فإذا نزلت بشخص لم تبق منه إلا ألما وأسى، والناس يزيدونها وطأة ينظرون للمصائب نظرهم للمجرم ، ويتأففون من عمله وهو خادمهم والساعد الذي به يستندون في مجالسهم القديمة حيث يقضون ساعات هنائهم لا يفكرون.
هي هاته الطائفة العاملة، وإليها نهرع جماعة الشبان، في دعتها ووداعتها ما يغنينا عن ذلك التمنع الذي منيت به السيدات حتى عن أشرف الإحساسات. إنهن هاتيك البنات الساذجات لا يزلن الذكر الخالد للطبيعة الطفلة القديمة حين الناس لا يعملون جهدهم لإخفاء ما يريدون، وإن في قلب الشاب صراحة لا تتفق مع ذلك التكتم المخيف الذي يظن جماعة الأغنياء أن فيه متاعا، وعنده إقداما لا يسير مع إحجام الطبقات العالية وتقاعدها.
الشباب أيام الحرية وعدم المسئولية، فإن أضاعها صاحبها صريعا بخرافات أيام العجائز، قاعدا عن أن ينال منها كل ما فيها، ضاع عليه عمره، وقضى على الأرض حياة مكتئبة فاسدة، حياة محملة بهموم من أولها إلى آخرها، حياة خير منها موت عاجل. ... ولكن أنى يجد الشاب هذا المتاع في مصر؟ أنى يحل له أن يجد السعادة؟ إنه لمسكين بائس. هو بين اثنين كلاهما شر: إما أن يبقى في ذلك الموت الذي تأتي به لا شك الحياة الموروثة قواعدها المطلوبة منه ومن كل المسنين، وإما أن يرتمي في أحضان الفضلات الفاسدة التي رميت بها هاته البلاد المسكينة من الغرب السعيد المجرم.
نعم. في الأولى موت لا مفر منه. وهل ذلك التبتل الذي تطالب به كل شيء إلا موت. وفي الثانية فساد وضياع.
ويل لك يا حامد!.. أي قضاء رمى بك تلك الرمية العمياء؟ وما كان خيرا لك إن بقيت سعيدا بحياتك الهادئة الأولى؟! وموت في الصغر وموت في الكبر متساويان.. حقا!.. خير لي لو بقيت في صومعتي ويقدر الوجود أني لم أولد.
غير أن حامدا يحب عزيزة ويود أن ينفرد بها. .. ولم لا يبعث بجوابه ضمن أشياء مما تقدم لها في يدها، وهي لا شك متى وجدته تحرزت أن يعلم به أحد. وما دامت تحبه فستكتب له وتعين له موعدا، ومن بعد ذلك يسهل أن يتقابلا ولا يبقى للحرمان الذي يعيش هو وتعيش هي فيه إلا أثر كلما تقادم عهده قلت غضاضته ثم يصبح يوما لذيذا يحسان لذكراه بسكرة المقابلة الأولى بعده حين كشف كل منهما لصاحبه عما يكنه له قلبه. •••
صفحة غير معروفة