هل في طوق ذلك العامل الذي ظل سعيدا مع زينب من يوم زواجه أن يأخذها معه في دار السعادة، ويقضيا أياما لذيذة ممتعين مما في العيش من مسرات؟ هل يستطيع أن يروح معها إلى حيث لا نشعر بمر الأيام ولا ننظر للوقت إلا مبهوتين لسرعة مسيره ونغيب بروحنا وبجسمنا عن العالم وضجته وجلبته؟
كلا، إنه لا يقدر! هي التي نقلته معها مما كان يتخيل نفسه فيه من السرور إلى حزن مستسلم لا يعرف قراره، وجاءت به معها في عالم المخاوف والآلام ...
كان بالأمس يوم السوق مرة أخرى: يوم فرح، كل ينادي فيه بملء صوته ويتغنى في ندائه، وآخرون يسيرون وعليهم علامات الرضا أن أحسوا في جيوبهم ببعض القروش، والسماء ترد النور فتملأ به الجو يرن بضجة هؤلاء الناس، والشمس تبعث بأشعتها على الشجر وتسطع على الأرض الحارة التي يمشي فوقها الفلاحون بأقدام ثابتة لا تعرف كيف تتململ.
وكان هناك إبراهيم. ورأته زينب. فلما رجعت عاودتها حيرة. ماذا تعمل؟ هل بقي للعهد الذي بينها وبين حسن من قيمة بعد الذي قدموه لها؟ ثم إن كان زوجها يظن بها السوء لشيء ولغير شيء فأي تغيير على الأرض أو في السماء يحصل إن هي ألقت بنفسها بين يدي إبراهيم فخففت همها؟!.. هي إنما امتنعت من قبل لإرضاء حسن، فإذا كان هو لا يرضى بشكل ما، فما الذي يمنعها من استعادة الماضي اللذيذ القديم؟ ... واليوم ساعة المساء رجع حسن بعد المغرب من عمله وتناول عشاءه، ثم خرج مرة أخرى وعاد فإذا هي في الغرفة جالسة وحدها تنظر من المنور إلى السماء ترقب فيها النجوم لا قمر بينها، وعيونها تائهة لا تحقق شيئا مما أمامها، وظلمة الغرفة يخفف منها قليلا المصباح قد وضعته بعيدا عنها، ولم تبق من نوره، إلا أثرا، فجلس هو إلى جانبها وأمسك يدها بين يديه.. ثم سألها: - إنتي مالك يا زينب؟
سألها سؤال صديق يتألم لما فيه صديقه من الأسى، وكلماته الملجلجة قد خرجت من أعماق قلبه تدل على مبلغ تأثره.
أما هي فبقيت لا تتحرك، وكأنها لم تحس بدخوله. بقيت تبعث بنظرة حيرى إلى الليل أمامها وإلى النجوم اللامعة البعيدة، وتقدر للغد الذي سترى فيه إبراهيم. - انت مالك يا زينب؟.. بس قولي لي يا أختي مالك.. أمي كلمتك.. حد زعلك.. عشان إيه امال مضايقه ومحمله روحك هم الدنيا والآخرة.. إنت عايزة حاجة.. والا تكوني زعلانه مني أنا، إن كان كده يبقى الحق عليه ميت نوبة ... يا زينب! بقول إنت مش زي النسوان.. بدنا نرجع نزعل من مفيش.. مش عيب.. إن كان حد كلمك.. أمي، أخواتي.. أنا.. أي حد، يبقى الحق عليه ومعلهش..
ثم أخذ يدها وقبلها مرتين، واستمر يحدثها مسترضيا وكله عطف واسترحام، وفي لهجته تلك الرقة التي تأخذ بنفوسنا وتخضع أمامها القلوب القاسية، وهو يظهر ما يكنه لها في نفسه من الميل لها والثقة بها.
إنه من يوم تزوجها سعيد راض يعتقد أنه حاز الدرة الغالية من بنات البلد، وضم إليه الجمال والرزانة والجد والأمانة.. وما كانت إلا لتزيده اغتباطا بحسن حظه، فماذا جد حتى يكدر عليه صفوه ويقلق باله؟
ليت شعري أي حادث على الزمان يكون ذلك الذي غير نفس زينب وقلبها! ألم يعاهد هو نفسه من يوم بنى بها أن يكون لها محبا وبها واثقا؟ أولم يحفظ ذلك العهد كأوفى ما تحفظ العهود؟ ثم ألم يكن بينهما ذلك الاحترام المتبادل بين شخصين يحترم كل منهما ذاته؟ فما أصل غضبها..
فجلس إلى جانبها وأمسك يدها بين يديه.. ثم سألها: أنت مالك يا زينب؟
صفحة غير معروفة