فأجابت: «لا».
هذا سؤال يوجه إليها في أي يوم لا تشتغل فيه أجيرة عند بعض الناس، ويجاب عنه بكل بساطة: «كنت بجرد الجاموسة»، أو «كنا بنطحن»، أو بمثل هذه الأجوبة حسبما يلائم فصل السنة. ولكنه جاء في هذا اليوم فلم يجد جوابا من هذا الجنس، وكل ما استطاعت أن ترويه هي كلمة «مفيش»، كأنها أخذت ذلك اليوم للراحة من العمل، فأمضته فيما يصح أن يسمى لا شيء مما يمضي فيه الإنسان أيام راحته.
بلغا منتصف الطريق، فانكشف أمامهما الوجود الذي كانت تحجبه الأشجار، ولمحا القرية من بعيد وقد تدثرت بضباب أخريات النهار، وعلى السكك القريبة منها سلك ملضوم من الفلاحين والدواب رجالا ونساء وأطفالا وجواميس وبقرا وحميرا. ووراء هاته القافلة من أهل القرية وفي ختامها قطيع من الغنم قد زحم السكة يسير بغير انتظام، وتجري حذاءه في المزارع الكلاب الحارسة. والأفق أمام الجميع يضيع تحته كل من وصله من الراجعين إلى دورهم، أما طريقهما فكانت خلاء ليس فيها سواهما صامتة لا يسمع عليها ركز إلا حديثهما. فلما دار الحديث رجع إلى الزرع وشأنه والقطن وخفه، فسألها من جديد: والقطن طيب السنادي؟
وأجابت: «نعم». ولكن تجربته التي جاءته بها السنين وعيونه الحادة الضيقة تحت حواجبه الثقال وما رأت مما تحدث الأيام من الغير في كرها جعلته أقرب للتحرز من أن يضحك فرحا. ثم قال: من يدري ما يجيء به الغد؟
كم يخفي الغد القريب تكاد تلمسه اليد من العظيمات! وكم يكن في ساعاته المعدودة من السعادة والنحس والهناء والشقاء والبأساء والنعماء! كل ذلك مسدول عليه ثوب الليل. إنه ليخفي في طياته الدنيا والآخرة. ينتظره الإنسان آملا فيه خيرا أو متوجسا منه خيفة أو منتظرا أمرا، أو هو يعده كسابقه، فإذا هو يضمر له الويلات ويقدم عليه بالدواهي.
في الغد الموت والحياة والجنة والنار. فيه الحروب تشيب من هولها الإنسانية وتسيل فيها دماء الأبرياء وما أجرموا ولا أرادوها. وفيه السلام يسحب أردانه على الوجود فينعم به الأحرار.
في الغد اليأس والرجاء والأمل والقنوط. فيه تلك الدولة العظيمة يحار أمامها الذهن، ويقصر دونها الخيال، ويقف أمامها الحلم عاجزا: دولة المجهول لا تحكم منها على فتيل ولا تقدر من أمرها على شيء. فيه العدم والوجود والكل ولا شيء!
لذلك الغد يحسب هذا الرجل حسابه وينتظره وما بعده، وهو دائما أسير المستقبل، ولقد علاه الصمت حينما ذكر الغد وما قد يجيء به وكأنما دارت في نفسه ذكرى السنين المنصرمة وما كان في بعضها من الندوات والدودة وآفات الزرع، وفي الأخرى من نضارة ثم ارتفاع السعر وهبوطه، فتحيا بذلك أحلام وتنخسف ظنون. وفي تلك البرهة الصامتة تميزت دقات حوافر الحصان المنتظمة وهو يهز رأسه مع كل واحدة منها، وقد أرخى له راكبه اللجام إلا قليلا. ومن حين لحين ينفخ أو يضرب برجله الأرض والفتاة تسير وراءه إلى جانب الطريق، وقد كادت تنسى ما كان في نفسها.. ثم قال المالك: خير أن ننتظر النتيجة.. •••
وانتقل بموضوع الحديث إلى كلام آخر، ثم إلى غيره وغيره، حتى إذا اقتربا من القرية بعد أن قطعا ذلك الطريق الذي كان مزحوما بقافلة الفلاحين وأمسى خلاء افترقا، فذهب هو من بين المزارع يريد أن يصل إلى الدوار، وسلكت هي سكة ضيقة قامت على جانبيها تلال صغيرة. ولما بلغت البلد قابلتها فتاة من أترابها تبادلت معها مساء الخير، ثم أخرى وثالثة، ودخلت بذلك بين الدور القليلة الارتفاع وهي تهدي كل من قابلها هاته التحية ويهديها إياها، إلا جماعة جلسوا ومن بينهم لابس طربوش وجلابية الكشمير فوقها بالطو، وآخر معمم على طاقية مزهرة وعليه هو الآخر جلابية من الصوف مفتوح صدرها ينم عن صديري أزراره من الحرير، ومن بينهما طاولة مقفلة تدل على أنهما كانا يلعبان حتى الظلام، وجلس حولهما جماعة من أمثالهما، والكل فوق شريط من الحصير ممدود أمام باب مفتوح يرى منه الإنسان قاعة كأنها خالية فيها بعض صناديق من الخشب يضيئها مصباح ضئيل النور في فانوس قد علا التراب ألواحه الزجاجية فبان الضوء من ورائها أحمر يكاد يختنق. تلك دكان جديدة فتحت منذ شهر من الزمان تحتوي - على مظهرها المتواضع - كل شيء من أصناف العطارة والقماش. وقد رأى صاحبها من أجل أن يقدم خدمة للناس الذوق من أهل بلده أن يجيء فيها بما يلزمهم من معدات اللعب. وكما أعد لهم ولغيرهم فيها بعض الحلوى والمرطبات فعنده كذلك ما يلزمهم من المناديل والشرابات، كل ذلك مصفوف على رفوفها المختفية أو موضوع في هاته الصناديق.
مرت بهم ثم صعدت مع الطريق العامر بالمارة حتى انعطفت إلى حارتها. وبعد تحية أهدتها لامرأة واقفة على باب الطاحون التي هناك وخطوات معدودة وصلت إلى باب دارها، فتبادلت أولا «مساء الخير» مع جارتها في الدار المقابلة، ثم فتحت ذلك الباب القليل الارتفاع قد نقشه القدم بظهور عروق الخشب وغور ما بينها، والضبة تلمع لكثرة ما مر عليها من الأيدي، ودخلت صحن الدار المكشوف للسماء، وأصبحت بذلك بين أهلها.
صفحة غير معروفة