شرط الخروج من الأزمة رؤية دينية عقلانية تجيب على أسئلة الإنسان الكبرى من جهة، ومن جهة أخرى يكون لها مشروع سياسي تعمل من خلاله على خلق الإطار الملائم لحياة كريمة على ضوء إجاباتها. صبغتها الدينية ستوفر لها قيمة روحية عالية. عقلانيتها ستقدم تفسيرا واقعيا للحياة بعيدا عن الخيالات والأوهام. إجاباتها ستبين للإنسان المسار الذي عليه أن يسير عليه، وستكشف له مقومات حركته، ومآله. مشروعها السياسي سيحمي الإنسان من ظلم نفسه، ويحميها هي من الاستغلال. غني عن القول أن تلك السمات سيعني حتما تجاوز السلبيات المشار إليها. للزيدية رؤية تمتلك كثيرا من تلك السمات. هذا يضعهم أمام مسؤولية كبرى أمام الله تعالى وأمام التاريخ. يحاول البعض أن يشيع عدم إمكانية التوافق بين الرؤية الدينية وبين الواقع، باعتبار أن موافقة الواقع مصدرها العقل، والرؤية الدينية مصدرها الروح، ولا يمكن أن يكون بينهما توافق، بل لكل منهما مجاله الخاص. وما نذهب إليه خلاف هذا الأمر. فالعقل يقدم لنا رؤية للواقع، ولكن لكي يكون لتلك الرؤية قيمة روحية فلا بد من احتضان الروح لها. إن الروح وعاء للمعرفة، وليس منشئا لها. والمشكلة تأتي من اعتبارهما جميعا مصدرا للمعرفة. مصدر هذا الرأي التيارات المسلمة وغير المسلمة التي ترى أن العقل لا يمكنه أن يعرف شيئا عن ما وراء المادة. ويزداد زخم هذه التيارات كلما ضعف أداء العقل في مجالات الدين، فيتم اللجوء إلى اعتبار أن العقل ليس من شانه الحكم على الدين. إنها حماية سلبية للدين، ليس بتقديم الرأي المضاد، ولكن بنفي صلاحية تناول المسألة. ترتكز الرؤية على ركنين أساسيين أو أصلين كبيرين هما: الإيمان بالله ورسالاته واليوم والآخر من جهة، ووجوب إقامة دولة عادلة ترعى مصالح الناس ومعايشهم من جهة أخرى. وتستند إلى منهجية تؤمن بالعقل مصدرا أساسيا للمعرفة. وإن الله تعالى يثير العقل باتجاه استكشاف ما حوله عبر مجموعة من المثيرات أولها وأعلاها شانا الأنبياء والرسل. أبرز ما تطرحه الرؤية هي أن تبين موقع الله في حياة الإنسان. هذا الأمر كان دوما المعنى الثابت في جميع مطالب الأديان السماوية والرسالات الإلهية. بيان تلك القضية ((الله في حياة الإنسان)) هي جوهر الدين والرسالات السماوية. وهي ما يميز الدين عن المبادئ والفلسفات والمدارس الأخلاقية بأشكالها والرؤى الاجتماعية والسياسية بأنواعها. أي رؤية لا تنطلق من هذا الأمر، أو لا تجعل بيان الأمر من أمهات مقرراتها تفقد صبغتها الدينية. ببقاء قضية ((الله في حياة الإنسان)) يكون للدين معنى. ببقائه يكون، وبزواله يذهب. ما سوى هذه يعد من الأعراض التي إذا زالت لم يزل الدين. فالتشريعات تختلف من دين إلى دين. وأشكال العبادة تتنوع. ولكنها جميعا تجيب على تلك القضية الجوهرية. جميعها تربط الإنسان بالله تعالى شأنه وعز سلطانه وجل جلاله. وموقع الله في حياة الإنسان مما يدل عليه الدين، ويرشد إليه. بمعنى آخر إنه أمر لا يؤسسه؛ لأنه أمر يعلم عقلا، وكل ما يعلم عقلا فالدين يكون فيه دالا ومقررا، يأتي ليثير دفائن العقول باتجاه التفكير فيه واستكشافه، ولا يأتي ليؤسسه. إننا ندرك بعقولنا أننا ((لله)). ندرك هذه الحقيقة، التي هي بحق أعمق حقيقة في وجودنا. حقيقة تحيط بنا من حين وجدنا. إن كينونتنا هي في أننا لله، وليس لنا أي كينونة مستقلة عنه تعالى. فنحن لسنا لله بمعنى أنه أوجدنا فملكنا فحسب، ليس بمعنى أن بيننا وبينه تعالى علاقة مملوكية، وإنما نحن لله، بمعنى أن وجودنا هو نفسه مملوكيتنا لله تعالى. وقد قرر الله تعالى هذه الحقيقة المدركة عقلا بقوله تعالى على لسان عباده المؤمنين: ((إنا لله)) وكما ندرك تلك الحقيقة، فإننا ندرك أننا إليه تعالى ((وإنا إليه راجعون)). إن المسيرة نحو الموت ليست إلا مسيرة إليه جل شأنه. نحن عائدون إليه. ولكنها ليست عودة حسية. ليست العودة إلى الله تعالى ذهاب إلى مكان، فالله تعالى يتعالى عن المكان. العودة إليه هي عودة إلى وعي حقيقتنا، حقيقة إنا لله. يرافق هذه المسيرة الاضطرارية أخرى اختيارية. مسيرة فكرية روحية. فنحن يمكننا أن ندرك هذه الحقيقة باختيارنا، قبل موتنا. وقد كشف الله هذه الحقيقة لنا بقوله: ((وإنا إليه راجعون))، وبقوله جل وعلا{ياأيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه}[الانشقاق:6] ووصف طبيعة اللقاء وأثره: {فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد}[ق:22] {ليروا أعمالهم}[الزلزلة:6]. هذه الحقيقة الكلية، والتي تشملنا شئنا أم أبينا ، كفرنا أم آمنا،حقيقة: {إنا لله وإنا إليه راجعون}[البقرة:156]، هي جوهر جميع الرسالات، وجميع الديانات السماوية. ولا بد لأي رؤية أن تعزز هذا المعنى، وتؤكده. إن إدراك تلك الحقيقة ليس إلا خطوة تتبعها ضرورة خطوة أخرى هي أن نتمثل ما أدركناه من أفكار. إن معرفة "إنا لله وإنا إليه راجعون" ليست كغيرها من المعارف التي لا تتبعها مواقف عملية. فليس المطلوب صياغات وعبارات، وحفظا في الكتب والصدور. فإذا كان جوهر الدين في الحقيقة الكبرى ((الله في حياة الإنسان)) فإن جوهر التدين هو في التمثل الإرادي لتلك الحقيقة. فنحن وإن كنا نسير إليها مسيرا وجوديا اضطراريا، فإننا قادرون على أن نسير إليها في هذه الحياة مسيرة اختيار وذلك بعقلنا وإرادتنا الحرة التي ميزنا الله تعالى بها عن غيرنا.
صفحة ٤٥