هناك حاجة ماسة لتفعيل دور الفكر في حياة الناس لدى النخبة التي يفترض أن تكون من أولويات مهامها رسم صورة المستقبل، وتقديم الرؤى والدراسات، وتحديد مواضع القصور والخلل، والانتقال بالأمة من واقع مستسلم وساحة لتجارب الآخرين إلى صاحبة فعل تصنع الحدث في ظل استقلالية كاملة. وهناك مشكلة أو التباس حول موضوع تقديم الرؤى والأفكار لدى الوسط الفاعل في المجتمع بمختلف توجهاته، فالبعض لا يزال يصر على تقديم نفسه من خلال شعارات عامة، ومجموعة من الخطوات والإجراءات، أو من خلال مجموعة من المبادئ والمفاهيم الإسلامية التي هي أقرب للشعارات منها للمفاهيم، مستغلا عمق التدين لدى الناس ليقدم تلك الشعارات تحت مظلة عاطفية واسعة، هذا في حين أن الوضع الفكري والسياسي المتخلف الذي كان نتيجة لقدوم النموذج الغربي الذي نزل في كل الأماكن وتواجد على كل الساحات، وفي غياب النموذج الإسلامي الوطني كتجربة تراكمية في الواقع ورؤية فكرية قد أدى إلى ضياع الهوية واختفاء الشخصية الوطنية وتخبط في المشروع الثقافي جعل الخروج بمشروع سياسي تحتضنه دولة شبه أمر مستحيل. وللأسف فإن هذا الوضع لم يدفع بتلك النخب الإسلامية والسياسية إلى مراجعة التأريخ اليمني بكل تجاربه المتعددة والمتنوعة، واكتفت بالنظرة إليه بسذاجة سياسية مبطنة بقطيعة غير مبررة، وفي الوقت الذي ينظر العالم فيه إلى تأريخنا بجدية كبيرة، ويحاول التدقيق فيه لكي يعرف من خلاله طبيعة المجتمع اليمني ومقوماته وخصائصه، حتى يمكنه التعامل معه الدخول إليه وتفسير تصرفاته وتوجهاته في هذه اللحظة التي يتعامل الآخرون معنا من خلال ماضينا وموروثنا الفكري والسياسي نجد أننا نصنع بيننا وبينه قطيعة، ونضع جدارا أملسا بيننا وبين فهم أنفسنا، وأيضا بيننا وبين الاستفادة من الثروة الفكرية لدينا. والدراسة القيمة التي يضعها (مركز الرائد للدراسات والبحوث) بين أيديكم هي محاولة جادة في عرض مكثف للمشروع الفكري والسياسي للزيدية، إضافة إلى قضايا أخرى تتعلق بهذه الدراسة، مثل: سبب التسمية ب(الزيدية) والعلاقة بكل من الإمام زيد، وأهل البيت، والمعتزلة، والفرق التي نسبت إلى الزيدية، أيضا فيه لمحة عن كل من الزيدية المعاصرة وتأريخ المرحلة التأسيسية لها، مع ذكر لأهم مصادر هذا الفكر، إضافة إلى مجموعة أخرى من القضايا، وقد شمل البحث مجموعة من الإشارات لقضايا مهمة مثل: علاقة الثقافة والفكر وتأثيرهما على الواقع الاجتماعي والسياسي، الطائفة والمدرسة الفكرية، سلبية المذهبية المعاصرة، الموازنة بين ضرورة الاجتهاد لتجديد المعرفة وبين أهمية التقليد لاستقرار التشريع، وغيرها. بعض هذه القضايا توسع فيها قليلا، والأخرى اكتفى بالإشارة إليها. ولما كان الفكر الزيدي جزءا من مكونات المجتمع اليمني تأريخا وحاضرا، حيث أنه حكم اليمن أكثر من ألف عام، فإن ممارسة القطيعة معه لن تعمل إلا على تعزيز مشكلة فقدان الهوية التي نعاني منها، وبذلك فإن فهم هذا الفكر على أي صفة كان، والتعمق في تجربته التأريخية مهما كان شكلها، وطرح كل ما يتعلق بهذين الأمرين للحوار والنقاش والأخذ والرد والإضافة والحذف والنقد والتقويم من الأهمية بمكان في عملية تشكيل هويتنا الوطنية، أما والحال أنه كان فكرا إسلاميا منطلقا من مكانة العقل العالية في فهم الوجود، وإدراك المصالح والمفاسد، وفهم الشريعة وتنزيلها إلى الواقع، وممارسا قدرا كبيرا من القيم السياسية التي ننشدها جميعا، ونتطلع إلى تفعيلها في واقعنا وطنا وأمة، أقول أما والحال ذلك فإنه يمكن حينها أن يسهم في تكوين مشروع نهضة للوطن، بل وللأمتين العربية والإسلامية، وبالتالي فإن القطيعة معه ليست فقط إرباكا في الهوية، وإنما تفوت على اليمن فرصة الاستفادة الذاتية مما لديه، كما تفوت عليه فرصة أن يكون له دور يتجاوز حدودها الوطنية والإقليمية.
صفحة ٣