ولمَّا بدا لي أنَّها ما تحبُّني ... وأنَّ فؤادِي ليسَ عنها بمُنسلِي
تمنَّيتُ أنْ تهوَى سوايَ لعلَّها ... تذوقُ حراراتِ الهوَى فترقُّ لي
وأحس من هذا ومن كل ما تقدمه قول الآخر:
واللهِ لا نظرتْ عيني إليكَ ولا ... سالتْ مساربُها شوقًا إليكَ دمَا
إلاَّ رياءً لدفعِ القولِ عنكَ ولا ... نازعتُكَ الدَّهر إلاَّ مكرهًا كلمَا
إنْ كنتَ خنتَ فلمْ أُضمرْ خيانتكمْ ... واللهُ يأخذُ ممَّن خانَ أوْ ظلمَا
سماحةً لمحبٍّ خانَ صاحبهُ ... ما خانَ قطُّ محبٌّ يعرفُ الكرمَا
هذا البائس قد ألزم نفسه قطيعة من غدر به وصبَّرها على المكروه كله إلاَّ أنَّه مع ذلك غير مضيع لما في ذمَّته من رعاية صاحبه بنفي الظُّنون عنه وهذا أكثر ما يمكن من الرعاية أو أتمُّ ما يتهيَّأ من الصِّيانة لمن بادر بالخيانة ولمن ضيَّع حقوق الأمانة ومن منع نفسه من طاعة الاشتياق وهو بعد مقيم تحت راية الإشفاق فقد قدر على أمر عظيم وظفر بحظ جسيم.
وقال جميل:
أتَوْني فقالُوا يا جميلُ تبدَّلتْ ... بُثينةُ أبدالًا فقلتُ لعلَّها
وعلَّ حبالًا كنتُ أحكمتُ عقدَها ... أُتيحَ لها واشٍ رفيقٌ فحلَّها
وحدثني أبو العباس أحمد بن يحيى النحوي قال: حدثنا عبد الملك بن شبيب قال: حدثنا مشيختنا قال: بينما الحكم بن عمر الغفاري صاحب رسول الله ﷺ يسير بخراسان في بعض البلاد وهو واليها إذ سمع في بعض غياطلها رجلًا يغنِّي بهذين البيتين:
تعزَّ بصبرٍ لا وجدِّكَ لا تُرى ... بِوادِي الحصى أُخرى اللَّيالي الغوابرِ
كأنَّ فؤادِي مِنْ تذكُّرهِ الحمى ... وأهلَ الحمى يهفو بهِ ريشُ طائرِ
فوقف وقال عليَّ بالرجل فأُتي به فقال ويحك ما أنت؟ قال رجل من أهل نجد من بني عامر كنت في الدَّهر من بني عامر فقال: هل لك في الحمى؟ فقال ما لي إلى ذلك سبيل ولي بالبلاد أهل وولد قال فإني أحمل معك أهلك وولدك قال فكيف بالمعاش لا حاجة لي في هذا قال ما من ذلك بدّ وأمر به أن يُحمل قال فاضطرب في أيديهم حتَّى مات وهذا من أعجب ما سمعت في معناه ولا أعرف لهذا الرجل عذرًا في الفرار من الموضع الَّذي يهواه إلاَّ أن يكون قد اتَّصل به عن محبوبه من الغدر ما لا تنبسط على مثله يد الصَّبر فكان المقام على الفراق والتَّجلُّد على دواعي الاشتياق أهون عليه من مشاهدة ما لا طاقة له به عند التَّلاق.
الباب الرابع والعشرون
مَنْ تجلَّد علَى النَّوى فقد تعرَّض للبلا
اجتراء العشَّاق على المبادرة إلى الفراق يكون إما لنفي أقوال الوشاة عنهم وعن أنفسهم وإما لضجرة تلحقهم من مكروه يقع بهم وإما لنشاط في النَّفس وزهد ليحقها لقوَّة الظَّفر بما قد حصل لها فترى نفسها أجلَّ من محبوبها لأنَّها مالكة ولا شيء في العالم يعدله وهو وإن كان مالكًا لها فإنَّها لا ترى نفسها في حدِّ ما يُفتخر بملكه فهي لهذه العلَّة تتكبَّر عليه.
ولبعض أهل هذا العصر:
أصولُ بهِ تيهًا عليهِ فمنْ رأَى ... منَ النَّاسِ قبلي عاشقًا يتصلَّفُ
إذا خفتُ منهُ الغدرَ أبَى توافيًا ... يزولُ بهِ خوفي ويبقَى التَّخوُّفُ
وربَّما أعرض العاشق عن المعشوق إما من جهة الامتحان للصبر وإما لتجديد حاله عند محبوبه وكثيرًا ما يجري الأمر في ذلك على ضدِّ تقديره.
وفي هذا النحو يقول بعض أهل هذا العصر:
ألا يا قومِي للهوَى المُتزايدِ ... وطولِ اشتياقِ الرَّاحلِ المُتباعدِ
رحلتُ لكيْ أحظَى إذا أُبتُ قادمًا ... فأوردَنِي التّرحالُ سوءَ المواردِ
كأنِّي لديغٌ حارَ عنْ كنهِ دائهِ ... طبيبِ فداواهُ بسمِّ الأساودِ
فمالَ معَ الدَّاءِ القديمِ دواؤهُ ... فيا لكَ مِنْ داءٍ طريفٍ وتالدِ
وقال أبو تمام:
هيَ البدرُ يُغنيها تودُّدُ وجهها ... إلى كلِّ مَنْ لاقتْ وإنْ لم تودَّدِ
علَى أنَّني لمْ أحوِ وفرًا مجمَّعًا ... ففزتُ بهِ إلاَّ بشملٍ مبدَّدِ
ولمْ تعطِني الأيَّامُ نومًا مسكِّنًا ... ألذُّ بهِ إلاَّ بنومٍ مشرَّدِ
وطولُ مقامِ المرءِ في الحيِّ مُخلِقٌ ... لديباجتيهِ فاغتربْ تتجدَّدِ
1 / 68