لا شك أن حضور الأسطولين الإنجليزي والفرنسي هو السبب الأول لحوادث 11 يونيو سنة 1882، فقد هاج حضورهما الخواطر وأوغر صدور المصريين على الأوروبيين عامة، لما في مجيئهما من معنى التحدي والعدوان، كما أنه أغرى الأوروبيين بالوطنيين؛ لشعورهم بأن الأسطولين إنما جاءا لحمايتهم ولإذلال المصريين.
كتب الشيخ محمد عبده (الأستاذ الإمام) في هذا الصدد يقول:
إن الحكومة الإنجليزية على عادتها في اختلاق العلل وارتجال المساءات، قلبت وجوه المسائل، واستدبرت طالع الحق، واستقبلت وجه مطمعها، واتخذت مجرد التغيير في بعض نظامات الحكومة الخديوية سببا للمناوأة، واندفعت لتسيير مراكبها إلى مياه الإسكندرية تهديدا لحكومة الخديو وعدوانا عليه، ثم نفخ بعض رجالها في أنوف ضعفة العقول من الأجانب المقيمين بالثغر، حتى أوقدوا فتنة هلك فيها المساكين قضاء لشهوة إنجليزية، وأقامت منها حكومة إنجلترا حجة في العدوان على الأراضي الخديوية، ولو أن بصيرا نظر إلى أحوال القطر المصري بعين صحيحة من مرض الغرض، لعلم أن بداءة الخلل في ذلك القطر من يوم ورود المراكب الإنجليزية لثغر الإسكندرية، ولا نسبة بين ما كان من قبل ذلك؛ من عموم الأمن ورواج الأعمال وانتظام المصالح وبين ما كان بعده.
فالمسئولية العامة تقع على كاهل السياسة البريطانية والفرنسية. أما المسئولية الخاصة في وقوع المذبحة بالذات، فتستطيع أن تتبينها من أن أول من أشعل الفتنة مالطي من رعايا بريطانيا، وأخ لخادم القنصل البريطاني، ولا يمكن أن يكون هذا من قبيل المصادفات، والسياسة البريطانية هي التي استغلت الحادثة، وهولت فيها وجسمتها لتتذرع بها إلى التدخل المسلح في شئون البلاد، وقد وصفها المسيو فريسينيه رئيس وزارة فرنسا في ذلك الحين وصفا لا مبالغة فيه ولا تهويل، إذ قال بأنها من الحوادث العارضة التي تقع أحيانا في الثغور التي يسكنها عدة أجناس، وشبهها بالفتنة التي حصلت قبل عام في مرسيليا بين العمال الإيطاليين والفرنسيين. (5) وزارة إسماعيل راغب باشا
بقيت البلاد بلا وزارة منذ استقالة البارودي؛ أي من 27 مايو ... فلما وقعت حوادث 11 يونيو، اتجهت الأنظار إلى وجوب تأليف وزارة تضطلع بأعباء الحكم، وتضع حدا للفوضى التي استهدفت لها البلاد.
وكان الخديو قد بارح القاهرة ووصل إلى الإسكندرية عقب مذبحة 11 يونيو كما أسلفنا، فسعى قنصلا ألمانيا والنمسا لديه باتفاقهما مع مندوب تركيا، للتقريب بين الخديو وعرابي وترغيبه في تأليف وزارة جديدة، يبقى فيها عرابي وزيرا للحربية، فأخذ الخديو يستشير بعض رجال الدولة في أمر تأليف الوزارة الجديدة، فاستدعى شريف باشا ثم مصطفى فهمي باشا ثم عمر لطفي باشا وغيرهم، وكلف كلا منهم بتأليف الوزارة، فأبوا جميعا لما كان بينهم وبين عرابي من الجفاء، وتدخل قنصلا ألمانيا والنمسا ومندوب تركيا من جديد، واتصلوا بعرابي وتفاوضوا معه في هذا الشأن، واستقر رأيهم بعد استطلاع رأيه على النصح للخديو باختيار إسماعيل راغب باشا لتشكيل الوزارة، وعلى ذلك ألف راغب باشا الوزارة وفيها عرابي وزيرا للحربية كما كان.
ولو حسنت نيات إنجلترا لأمكن لوزارة راغب باشا أن تعيد الأمور إلى نصابها وتزيل الآثار السيئة التي نجمت عن حوادث 11 يونيو، فإن هذه الحوادث قد وقع مثلها في بعض ثغور البلاد الأوروبية، دون أن يترتب عليه سلب استقلالها وانتهاك حقوقها. ولكن إنجلترا دبرت مذبحة الإسكندرية أبت إلا أن تستغلها دون نزاهة ولا هوادة حتى تصل إلى احتلال مصر، وكان من تدابيرها ألا تمكن وزارة راغب باشا من تهدئة الخواطر وإقرار الأمن في نصابه ...
وأغلب الظن أنها لم تكن تبغي تأليف الوزارة لكي تبدو البلاد في حالة غير عادية، وتتخذ من ذلك ذريعة إلى التدخل في شئون البلاد ... فلما تألفت قابلتها السياسة الإنجليزية بالجفاء وعدم الثقة، والغض من قدرتها على إعادة الأمن إلى نصابه، وأخذت تخلق لها العقبات والعراقيل، وبارح السير إدوار ماليت قنصل بريطانيا العام الإسكندرية يوم 27 يونيو، وأناب عنه المستر كارترايت الذي شهد ضرب الإسكندرية، وغادر المدينة أيضا المستر كوكسن القنصل البريطاني. وأوعزت الحكومة البريطانية إلى السير أوكلن كولفن الرقيب المالي الإنجليزي بالامتناع عن حضور جلسات مجلس الوزراء، وهذه علائم ونذر تنبئ عما كانت تبيته السياسة الإنجليزية من إثارة الحرب والقتال.
ميثاق النزاهة
(1) مؤتمر الآستانة
صفحة غير معروفة